(014)أثر فقه عظمة الله في الخشوع له
عِظَمُ رحمة الله بخلقه إنزال كتبه وإرسال رسله إليهم:
وإن أعظم رحمة منحها الله تعالى البشر في هذه الدنيا، وفي الآخرة لمن قَبِلَها واهتدى بها، وحيه الذي أنزله لهداية عباده، ورسله الذين كلفهم تبليغهم، وآخر ما أنزله من الوحي وأكمله القرآن الكريم، وآخر الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً (3)} [المائدة]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال الله عليه وسلم: (وأنا خاتم النبيين) [متفق عليه]. قال تعالى مبيناً أن وحيه رحمةً لمن آمن به: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(203)} [الأعراف].
ر
حمة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته:
فرسالته وسنته تعالى رحمة كوحيه لكل من اهتدى بهما، وإنما خصَّ المؤمنين بكونه رحمةً لهم لانتفاعهم به، بخلاف الكافرين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم شديد العطف والرحمة والرأفة بأمته، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنباء]. ووكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان الناس كلهم بما جاء به من عند ربه، وشفقته عليهم، يحزن حزناً شديداً على عدم استجابتهم، خوفاً عليهم من سوء عاقبتهم عند ربهم
ولهذا كان الله تعالى يسليه بما ينزل عليه من آياته، مثل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)} [الأنعام]. وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)} [النمل]. وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً(6)} [الكهف].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الكهف: {بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَسَفاً} يقول: لا تهلك نفسك أسفاً.... أي لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضل عليها, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات".
وكان يحزنه صلى الله عليه وسلم ويعظم عليه ما يصيب أمته المؤمنة من مشقة وعنت، كما قال تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة]. وتأمَّل شدة رحمته صلى الله عليه وسلم ورأفته، بأمته، بهذا المثال الذي تضمنه حديث جابرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مثَلِي ومثَلُكُمْ كَمَثَل رجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَراشُ يَقَعْنَ فيهَا وهُوَ يذُبُّهُنَّ عَنهَا، وأَنَا آخذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النارِ، وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ منْ يَدِي) [رواه مسلم].
رحماء بينهم:
والمؤمنون الصادقون في إيمانهم، يهتدون بهدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويقتدون به، فتمتلئ قلوب بعضهم لبعض رحمة وشفقة، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...(29)} [الفتح].
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثالا لقوة تراحمهم فيما بينهم، كما روى ذلك النُّعْمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي الله عنهـما قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى) [صحيح البخاري (1/101) وصحيح مسلم (16/119)].
ذم الرسول صلى الله عليه وسلم من فَقَدتْ قلوبُهم الرحمة:
ولقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم، على من فقدوا الرحمة من الأعراب الذين يأنفون عن تقبيل صبيانهم وذمَّهم على ذلك، كما روت عائشةَ رضي الله عنهـا قالت: قدِم ناسٌ مِن الأَعْرابِ عَلَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "أَتُقبِّلونَ صِبيْانَكُمْ؟" فقال: (نَعَمْ) قالوا: "لَكِنَّا واللَّه ما نُقَبِّلُ" فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أَوَ أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّه نَزعَ مِنْ قُلُوبِكُمْ الرَّحمَةَ؟) [البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله، رقم5652 ومسلم (15/64)].
فالله تعالى يرحم عباده المؤمنين في الدنيا لما ينعم عليهم فيها بنعم لا يحصيها سواه، وأعظمها هدايتهم بوحيه، وإرسال رسوله، وإنزال كتبه، وفي الآخرة، بما يوفقهم له من توفيقه لهم من طاعته، والإخلاص
له، واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، والبعد عن معاصيه، لينالوا من ثوابه لهم في الآخرة، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويرحم عبيده الكافرين في الدنيا، بما يرزقهم به من مال وولد وصحة، كما يرزق عباده المؤمنين، وقد يبتلي أهل الكفر بمزيد من النعم ابتلاء منه لهم.
وتأمل دعوة خليله إبراهيم، عليه السلام، إذ طلب منه أن يرزق مَن آمن منهم خاصة، وكأنه أهمل في دعائه غير المؤمنين، لأنهم لا يستحقون الإنعام عليهم بالرزق، لتمردهم على الله وكفرهم به، ولكن الله تعالى، صرح بأنه سيرزقهم ويمتعهم في الدنيا، كما يرزق الحيوانات، وسيجازيهم على كفرهم في الآخرة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة].
وفي حديث جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لا يرْحَم النَّاس لا يرْحمْهُ اللَّه) [متفق عليه وهو صحيح مسلم (15/65)].
تُرى هل يليق بعاقل من البشر عَلِمَ عظمة الله في رحمته الشاملة لخلقه كلهم في الدنيا ولعباده المؤمنين في الآخرة، وآثار تلك الصفة في تراحم خلقه فيما بينهم، هل يليق بمخلوق من العقلاء، ولا سيما من آمن بالله وباليوم الآخر، أن يفقد قلبه الرهبة من ربه وخشيته والإخبات والخشوع له والرحمة بعباده؟!
|
|