﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(012) قواعد في تزكية النفوس

(012) قواعد في تزكية النفوس

شروط قبول الله توبة عبده

مضى في الحلقة السابقة، الكلام على تزكية التوبة، لمن أذنب، سواء كان بترك ما فرضه الله عليه، أو

ارتكاب ما نهاه الله عنه، ولكن للتوبة شروط، لا يقبل الله توبة العبد إلا بوجوده، و قد أجمل الإمام النووي، رحمه الله تلك الشروط عن العلماء في أول الباب الثاني من رياض الصالحين، وهو باب التوبة، فقال: "قال العلماء: التوبة واجبة مِنْ كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين اللَّه تعالى، لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدها أن يقلع عَنْ المعصية والثاني أن يندم عَلَى فعلها. والثالث أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.

وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ مِنْ حق صاحبها. فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكنه مِنْه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله مِنْها. ويجب أن يتوب مِنْ جميع الذنوب، فإن تاب مِنْ بعضها صحت توبته عند أهل الحق مِنْ ذلك الذنب وبقى عليه الباقي." انتهى.

شرط الإقلاع عن المعصية

قلت: أما شرط الإقلاع عن المعصية، فقد بينه الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)}[النساء].

فالآية الأولى من هاتين الآيتين، حصرت توبة الله على من يتوبون من قريب، وهي تعني الإقلاع الفوري عن المعصية، فإذا لم يقلع عن معصيته فورا بل بقي مصرا عليها، فإنه لا يزال عاصيا، مستحقا لعقاب الله، ولا يستحق توبته عليه، هذا المعنى واضح في الآية، والذي لا يقلع عن تلك المعصية، بل يعود إليها ويعزم في نفسه أنه سيتوب منها، قبل أن ينزل به الموت، هو مستسلم لوسوسة الشيطان، ومتبع لخطواته، ومتبع لهوى نفسه، فيموت عاصيا، فيجب أن يسأل نفسه هذين السؤالين:

السؤال الأول: هل يضمن لنفسه بعد ارتكاب المعصية، أن يتأخر ملك الموت وأعوانه من الملائكة، ساعة أو دقيقة أو لحظة من الزمن، حتى يتمكن من التوبة.

السؤال الثاني: هل إذا استمر في تعاطي المعصية، ولم يقلع عنها، وقد يكرر نفس عين المعصية التي لم يقلع عنها، بل ويسهل عليه ارتكاب معاص كثيرة غيرها، لأن الإصرار على عدم التوبة يدل على عدم خوفه من عقاب ربه فيستسهل ارتكاب أي معصية غيرها، فهل يضمن لنفسه ألا يطبع الله على قلبه، بالران الذي قال الله تعالى عنه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين]. كما سبق.؟
ولا يقال: إن الله تعالى قال: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ولم يقل: "يقلعون" لأن من أهم مقاصد التوبة، الإقلاع عن المعصية، بل هو لبها وجوهرها.

وقد يتعلل يعض الناس، في تأخر إقلاعه، عن الذنب بالآية الثانية: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بأن يقول: إن الله تعالى يقبل التوبة قبل أن يحضر الموت، كما ثبت أنه يقبل من العبد التوبة، ما لم يغرغر، وهو كما سبق من وسوسة الشيطان، لأن التوبة قبل حضور الموت، هو لتوقيت قبول التوبة، وليس إذنا بعدم التوبة الفورية، التي إذا لم يتب منها عن قريب، فإنه يستحق غضب الله عليه، مادام مصرا على عدم التوبة، ولكنه إذا تاب منها توبة نصوحا قبل أن يعاين ملائكة الموت الذين يقبضون روحه، أو يغرغر غرغرة الموت.

قال السيد محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير الآيتين: "وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ : الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ" انتهى.

وأما شرط الندم على فعل المعصية

فإن الذي لا يندم على معصيته في الدنيا، يندم على ذلك يوم القيامة، يوم لا ينفعه الندم، ولعل ما حصل لصاحب الجنتين، وما أبداه من تحسر بعد أن أنزل الله بجنتيه، الرجز الذي حرمه منهما ومما أنفقه فيهما، بسبب كبريائه وزعمه أنه استحقهما لذاته، وعدم سماع نصح صاحبه الذي حاوره، وذكَّره بالرجوع إلى ربه، فأظهر استغناءه عن الله، ولو فرض أنه لقي ربه، فإنه سيكون أحسن شأنا في الآخرة، وما أعطاه الله الجنتين، والغنى في الدنيا، إلا وله عند الله خير منهما، وقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36)} فلما أهلكهما الله تعالى ندم وتمنى لو أنه استجاب لنصح صاحبه، كما قال الله تعالى عنه: { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)} [الكهف]. ومثله أصحاب الجنة التي ذكرها الله في سورة "القلم" الذين قالوا، بعد أن أهلكها الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)} إلى قوله: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)}[القلم].

وتأمل قول الله تعالى عن الظالم، كيف يندم يوم القيامة على ظلمه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)}[الفرقان].

كل أولئك يندمون يوم القيامة، مع ما يصيبهم من الخسارة في الدنيا، لأنهم لم يتوبوا إلى الله، ويندموا على عملهم بعد المعصية في الدنيا، فاستحقوا جزاءه في ذلك اليوم الذي لا ينفعهم ندمهم، قال العلامة ابن كثير رحمه الله في تفسير آيات سورة الفرقان، في كتابه "تفسير القرآن العظيم": "يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه، وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعض على يديه حسرة وأسفاً، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار} الاَيتين، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه قائلاً {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً}. انتهى.

ما ذا يجب أن يفعل العاصي إذا تزكى وتاب عن معاصيه؟

إنه الآن ستتكالب عليه شياطين الإنس والجن معا، وسيحتاج إلى خوض معركة قد تكون أشد وأعتى عليه، من معركة ظفره بالتوبة، فقرينه "الشيطان" الذي انتصر عليه، سيجمع لحربه ومحاولة إضلاله، خيلَه ورجِلَه، وسيكثر من وسوسته في قلبه، يبدأ في إمراض قلبه بالشكوك المقلقة، وبتزيين الشهوات المحرمة، ودعوته إلى ارتكابها، وسيعاديه بعض أقاربه الذين كان قرينا لهم في المعاصي قبل توبته، وكذلك قرناؤه ممن كان ينادمهم، ويصاحبهم في طريق المنكرات، رجالا ونساءً، فما الذي يحرسه وينجيه من جره للعودة إلى نواديهم، وانغماسه في ذنوبهم وآثامهم؟ إنه سيكون أحد شخصين:

الأول ذو الإيمان القوي، والقلب الثابت عليه، والقادر على الانتصار في معركته، مع الشيطان، فيستعين بالله عليه ويثبت، ثبوت رواسي الجبال، والعزم على التأثير في أهله ورفقائه السابقين، والصبر على هدايتهم، بدلا من أن يؤثروا هم فيه بحرفه عن الصراط المستقيم، فيبقى صابرا محتسبا، لعل الله تعالى ينصره عليهم، فيهتدون، فينال بذلك مثل هدايتهم، فيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)} إلى قوله تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت]. وقال فيهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما في أمره لابن عمه: علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: في الحديث الذي رواه سهل بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: (فَواللَّه لأَنْ يَهْدِيَ اللَّه بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمَ). [متفق عليه].

الشخص الثاني، يصعب عليه الثبات أمام من يريدون إضلاله وإعادته إلى معاصي الله، فعليه هنا مفارقتهم جميعا، والنجاة بنفسه، فيهاجر إلى مكان آخر، يجد فيه من يعينه على طاعة الله، يستطيع أن يبقى على توبته، وعبادة ربه، وهذا ما دل الرسول صَلى الله عليه وسلم، أصحابه الذين آذتهم قريش، من الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ومن المعروف أن جليس الخير يؤثر في جليسه الخير، وجليس السوء، يؤثر في جليسه السوء، كما ثبت عن الرسول صَلى الله عليه وسلم، في حديث أبي موسى الأَشعَرِيِّ رضيَ اللَّهُ عنه أَن النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: (إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِـحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طيِّبةً، ونَافخُ الكيرِ إِمَّا أَن يحْرِقَ ثيابَكَ وإمَّا أنْ تجِدَ مِنْهُ ريحاً مُنْتِنَةً) [متفق عليه].

وقد روى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صَلى الله عليه وسلم، أنه ذكر رجلا ممن قبل هذه الأمة، أسرف في كثرة ارتكاب الكبائر، حيث قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم رغب في التوبة، فسأل راهبا قيل له: إنه أعلم أهل الأرض، فآيسه ذلك الراهب من التوبة، فقتله، مكملا به المائة.

ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، (فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ فقال: إنهَ قَتل مائةَ نفسٍ فهلْ لَهُ مِنْ تَوْبةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ ومنْ يحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التوْبة؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كذا وكذا، فإِنَّ بها أُنَاساً يعْبُدُونَ الله تعالى فاعْبُدِ الله مَعْهُمْ، ولا تَرْجعْ إِلى أَرْضِكَ فإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ أَتَاهُ الْموْتُ، فاختَصمتْ فيهِ مَلائكَةُ الرَّحْمَةِ وملاكةُ الْعَذابِ، فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمَةَ: جاءَ تائِباً مُقْبلا بِقلْبِهِ إِلى اللَّهِ تعالى، وقالت ملائكةُ العذابِ: إنه لم يعْمَلْ خيرا قَطُّ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صُورَةِ آدمي فجعلوهُ بيْنهُمْ أَي حكماً، فقال قيسوا ما بَيْن الأَرْضَين فإِلَى أَيَّتهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقبَضْتهُ مَلائكَةُ الرَّحمةِ) [متفق عليه].

وفي قول ملائكة الرحمة: "جاءَ تائِباً مُقْبلا بِقلْبِهِ إِلى اللَّهِ تعالى" دليل على أن العبرة بالقلب الذي هو أساس عمل الجوارح، وقول ملائكة العذاب: "إِنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خيْراً قطُّ" سبب عدم عمله، أنه لم يتمكن من العمل الصالح، لأن الموت عاجله قبل أن يفعل.

شرط العزم على عدم المعصية

وأما العزم على عدم العودة إلى المعصية، فيدل عليه: قول كعب بن مالك، رضي الله عنه في قصة تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك: "إن الله إنما أنجاني بالصدق. وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقا ما بقيت. قال فوالله! ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلى الله عليه وسلم، إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به. والله! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم صَلى الله عليه وسلم ، إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي." [مسلم].

شرط البراءة من المعصية

وأما شرط البراءة فهو أمر بدهي، لأن استبراءه ممن ظلمه في ماله أو عرضه أو دمه، أو غير ذلك من الحق الذي اعتدى عليه بعلم صاحبه أو بدون علمه، واجب عليه لتصح توبته، وإلا بقي آثما ينال جزاءه يوم القيامة، بدليل حديث أبي هريرة – رضِي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صَلى الله عليه وسلم يوما: (أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟) قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: (إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار) [مسلم].

وفي حديث أبي أمامة رضِي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنِ اقتطعَ حَقَّ امرئ مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. قالوا: وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أَراك) [مسلم].

قلت: فالمسلم الصادق الذي، يخاف على نفسه، من هذا الإفلاس الحقيقي التام، الذي فيه الخسارة الكاملة، بفقده حسناته، التي هو أحوج ما يكون إليها في ذلك اليوم، وطرح سيئات من ظلمه في الدنيا على ظهره، المسلم الصادق، لا يرضى لنفسه أن يموت، قبل أن يبرأ من ظلمه لغيره، بل لا بد أن يتحلل منه قبل موته، إما برد الحقوق إليه، أو طلب عفوه عنه وغفرته له.




السابق

الفهرس

التالي


16131095

عداد الصفحات العام

1821

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م