﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(08) قاعدة في سبب الجريمة - المبحث الثاني: الإيمان هو الدرع الوقي من الجرائم

(08) قاعدة في سبب الجريمة - المبحث الثاني: الإيمان هو الدرع الوقي من الجرائم


إن الله تعالى الذي خلق الإنسان، والخالق - كما مضى أعلم بمن خلق - قد ربط بين الإيمان والعمل الصالح والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.. و أوضح ذلك في كتابه وفى سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم أتم إيضاح وأكمله. فكتاب الله تعالى الذي أنزله لهداية خلقه، لا يهتدي به إلا المتقون، والتقوى هي فعل ما أمر الله به من الخير وترك ما نهى عنه من الشر، ولا تقوى بدون إيمان..

والمؤمن يؤدي ما عليه من حقوق لله ولخلقه، ولا يعتدي على حقوق الله ولا على حقوق خلقه، وبذلك يتحقق له الفلاح في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)}. [القرة] فهذا الكتاب هدى لمن التزم التقوى وهي فعل الأمر وترك النهي، والمتقون هم المؤمنون بالغيب المثمر للعمل الصالح.. ويترتب على الإيمان والعمل الصالح الفلاح والفوز والسعادة. ولا فلاح ولا فوز ولا سعادة بدون الإيمان والعمل الصالح.

ومما يدل دلالة واضحة على أن الإيمان هو السبب الأساسي للطاعة والقيام بحقوق الله وحقوق عباده، وعدم الاعتداء عليهما، قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)}. [المؤمنون] فقد بين تعالى أن الإيمان سبب لفعل الطاعة لله، وأداء حقوق خلقه، كالصلاة والزكاة وحفظ الأمانة ولوفاء بالعهد..

وهو كذلك سبب لترك معصية الله بارتكاب ما نهى عنه، سواء ما هو من حقه، أو ما هو من حقوق عباده، وتظهر السببية من وصف المؤمنين بما ذكر بعد من الصفات أي أن الإيمان لا بد أن يثمر ذلك.
وبين سبحانه أن الأصل في الناس الذين تختلط مصالحهم أن يبغي بعضهم على بعض، والبغي هو الاعتداء على الحقوق، واستثنى من ذلك المؤمنين الذين يحملهم إيمانهم على العمل الصالح وترك العمل السيئ، ومنه البغي والعدوان، فقال تعالى {.. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..}[ ص 24].
وأبان جل وعلا أن من صفات عباده المؤمنين الاجتهاد في طاعته، طمعاً في مغفرته ورحمته، والبعد عن معصيته، خوفاً من غضبه وعقابه، وأنهم يتواضعون ولا يتكبرون، يصبرون على الجاهل ولا يقابلون إساءته بمثلها، وإنما يقابلون الإساءة بالإحسان. ويعمرون أوقاتهم بكمال عبوديتهم لربهم، وينفقون أموالهم في وجوه الخير بدون إسراف ولا تبذير، ويبتعدون عن عبادة غير الله والإشراك به، اللذين هما أساس كل شر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويحفظون حرمات الله وضرورات الحياة، فلا يزنون، لما في ذلك من الاعتداء على النسل الذي أمر الله بحفظه، وكذلك يحفظون العرض وهو شرف الإنسان الذي يؤذيه ويؤذي أسرته وقبيلته انتهاكُه.

ويحفظون للناس حقوقهم فلا يعتدون عليها بشهادة الزور التي تهدر بها كل الحقوق: الدماء والأعراض والأموال وغيرها.. وهذه الأمور كلها يقتضيها الإيمان الذي يكون الإنسان به عبدَ الله حقاً.. قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان 63-72].

ونفى تبارك وتعالى أن يختار المؤمن الحق، غير ما اختار الله وقضاه؛ لأن اختيار غير ما اختاره الله وقضاه، ينافي الإيمان، والإيمان يقتضي اختيار ما أختاره الله وقضاه.. فمن اختار غير ما اختار الله، ليس هو المؤمن الحق؛ لأن اختيار غير ما اختاره الله وقضاه ضلال واضح ومعصية بينة يتنـزه عنهما المؤمن، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب 36]. والآية واضحة في أن المؤمن لا يقدم على الجريمة، لأن الإقدام عليها هو اختيار لغير ما اختاره الله تعالى، بخلاف من فقد الإيمان أو ضعف في نفسه ضعفا لا يردعه عن الجريمة، فإنه يقدم عليها مختارا غير ما اختاره الله.

فإذا أقدم الإنسان على المعصية، فسبب ذلك فقد إيمانه أو ضعفه، ومن الأدلة الواضحة في أن الإيمان هو أساس الخير، وهو الواقي من الجريمة.. قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأ..} [النساء 92].

فالإيمان يمنع صاحبه أن يتعمد ارتكاب الجريمة.. وإذا حصل منه ارتكاب ما لا يجوز، فالأصل أن يكون ذلك غير متعمد منه، فإذا تعمده دلَّ ذلك على فقده الإيمان، أو على ضعفه في نفسه عندما ارتكب الجريمة.، وسرعان ما يندم ويتوب ويستغفر الله.

والمؤمن الصادقُ الإيمانِ قد يرتكب الجريمة أحياناً، ولكنه يندم على ما فعل ويسرع إلى التوبة من ذنبه، فيتركه ويعزم على عدم العود إليه، اقتداء بأبيه آدم الذي أغراه إبليس بالمعصية، فندم وتاب إلى الله تعالى؛ لأن إيمانه يذكره بربه الذي آمن به، ويذكره بعدوه الذي حذره الله منه، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ }[الأعراف 201].

والإيمان يوسع دائرة فعل صاحبه للخير، حتى يشمل الناس كلهم، ولا تقتصر على المؤمنين فقط، بل إنه يشمل حتى الأعداء الذين يخالفونه في دينه ويحاربونه، فإن الإيمان يقتضي منه أن يعاملهم بالعدل ولا يظلمهم.. كما قال تعالي: {.. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة 8] والشنآن البغض والعداوة، والأصل في المؤمن ألاّ يكون في قلبه عداوة لأخيه المؤمن، وإنما يعادي الكافر الذي يعادي ربه وعباد الله المؤمنين، ومع عداوته للكافر يجب عليه شرعا أن يلتزم العدل في حقه، كالتزامه به للمؤمن.

والإيمان يقتضي من صاحبه أن يقوم بالعدل، ولو على أقرب المقربين إليه، بل ولو على نفسه، ولو حصل بذلك عليه وعلى قرابته ضرر، خوفاً من الله العليم بكل شيء، ومحاربةً للهوى المنافي للإيمان الذي يدفع صاحبه إلى فعل الشر والإجرام.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ والأقربين إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}[النساء 135] .
ومما يدل على أن الإيمان يقتضى الطاعة لله ولرسوله، وفعل الخير وأداء حقوق العباد، والبعد عن المعصية والظلم والإجرام، تخصيص الله سبحانه المؤمنين - غالباً - بالنداء في سياق أمره ونهيه، مع أن أحكامه الشرعية وأوامره ونواهيه، نزلت للناس كافة.

وسبب تخصيص المؤمنين أنهم هم الذين يطيعون أمر الله ونهيه، بخلاف الكافرين، فإنهم لا يمتثلون لله أمراً ولا يجتنبون له نهياً.. بل هم كما قال تعالى عنهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة 7].
ومثل الكفار الظاهرين المنافقون الاعتقاديون الكاذبون، بلهم أشد من الكفار، لأخذهم أحكام المسلمين في المعاملات الشرعية، وموالاتهم للكفار في البلدان الإسلامية في الداخل والخارج، وإن أظهروا الإيمان مخادعين.. كما قال تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة 8-9]. فهم يظهرون براءتهم من الإجرام إذا كانوا يرون من يراقيهم من البشر، فإذا خلوا بأنفسهم أجرموا في حقوق الله وحقوق خلقه.

أما الآيات التي يخاطب الله ? فيها المؤمنين خاصة فهي كثيرة وتكفي الإشارة إلى شيء منها للدلالة على غيرها.. من ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء 59] .
فنداؤه سبحانه عباده المؤمنين، وأمره لهم بعد النداء بطاعته وطاعة رسوله - مع أن طاعتهما واجبة على الناس كافة - إشارة إلى أن المؤمن هو الذي ينفذ أمر الله ورسوله، والإيمان هو سبب ذلك التنفيذ، ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين المؤمن وغيره، ولما كان لتخصيص المؤمنين بالنداء والأمر بعده معنى..

نعم قد يقال: إن في ذلك تحضيضاً للمؤمن أن يعمل بمقتضى إيمانه، وهذا جزء من معنى الآية الكريمة وليس هو المعنى المقصود فقط، ولو فرضنا أنه المعنى المقصود منها لكان أيضاً فيه دليل على أن الإيمان يقتضي ذلك؛ لأن تخصيص المؤمنين بالتحضيض، دليل على أنهم أولى بالاستجابة لهذا التحضيض.

ومن ذلك قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة 183].
نادى الله سبحانه المؤمنين وبين لهم بعد ندائه أن صيام رمضان فريضة عليهم، مع أن العبادات مفروضة على المؤمنين والكافرين، على الراجح، وإنما لم تقبل من الكفار لو قاموا بها -مع بقائهم على كفرهم-لعدم وجود الأساس الذي هو الإيمان، فالإيمان أساس العمل الصالح ومقتضاه.. ومثل ذلك.. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..} [البقرة 178] مع أن القصاص يجب تنفيذه على المؤمن والكافر.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة 278]. خص المؤمنين بالنداء والأمر بالتقوى وترك الربا؛ لأنهم هم الذين يطيعون الله في ذلك بمقتضى إيمانهم، وإن كان الربا محرماً على المؤمن والكافر، وفى قوله تعالى إن كنتم مؤمنين دليل على ذلك.. كأنه قال: إن كان إيمانكم بالله صادقاً فاتركوا الربا؛ لأن الإيمان الصادق يقتضى ذلك. ولكن تعاطي الربا الحاصل من المؤمن، يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، فهو جريمة يتعرض متعاطيه لغضب الله وأليم عقابه، كما هو واضح من الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الربا، ولكن المسلم لا يخرج بذلك من الإسلام إلا إذا استحله، كبقية المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات 11-12].

إن هذه الصفات الذميمة التي نهى الله تعالى عنها المؤمنين بعد ندائه إياهم في الآيتين، هي محرمة عليهم وعلى غيرهم من الكافرين، ولكنه خص المؤمنين بالنداء والأمر والنهي؛ لأن الإيمان يقتضي فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه..

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..}[النور 21].

والنهى عن اتباع خطوات الشيطان ليس خاصاً بالمؤمنين، بل هو لكل الناس، مؤمنهم وكافرهم، لأن اتباع خطواته هو من أعظم إجرام من المجرمين، بدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف 27].

وفتنة الشيطان إنما هي باتباع خطواته، وإنما خص المؤمنين بالنداء قبل النهي لأنهم حريصون بمقتضى إيمانهم على اجتناب ما نهى الله عنه. وفى قوله تعالى في سورة الأعراف: {..إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف ذ27]. ما يدل على أن عدم الإيمان سبب في اتباع خطوات الشيطان وفتنته، ومن هناك ينشأ الإجرام..




السابق

الفهرس

التالي


15251752

عداد الصفحات العام

546

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م