(08)علماء حاورتهم في موضوع البلاغ المبين
إجابات الدكتور يوسف القرضاوي
السائل: والدعوة إلى تحكيم الشريعة هل تعتبر دعوة إلى العقيدة إلى التوحيد؟
الجواب: نعم. دعوة إلى العقيدة، إلى تقبل حكم الله عز وجل، وقبول حكم الله جزء من العقيدة، ورفض حكم الله، هذا كفر. وفرق بين اثنين: واحد ما ينفذ حكما، وآخر يرفض حكما ويرده. وهذا كالفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس. آدم خالف ما أمره الله به،نتيجة ضعف وغفلة، قاسمه الشيطان قائلا: إني لك من الناصحين، ودلاه بغرور، ووسوس له إلى حد: {فنسي ولم نجد له عزما}. فآدم لم ينفذ الحكم ولكنه لم يرفضه. بخلاف معصية إبليس، فإنه رفض الحكم واستكبر وكان من الكافرين، فهذا الرفض هو ضد العقيدة تماما.
فلا بد من الدعوة إلى الإسلام كله، ومنه الجانب التشريعي، والجانب، السياسي، والجانب الاقتصادي، والجانب الاجتماعي، بجوار الجانب العقدي والجانب العبادي، لأن الإسلام كل لا يتجزأ [تعليق السائل: المقصود بنفي التجزؤ عن الإسلام أنه يجب الإيمان به كله والتسليم بأن كل أبوابه من عقدة وعبادة وغيرهما جاءت من عند الله ، وليس المقصود بنفي التجزؤ ما ذهب إليه الخوارج وبعض المعتزلة بأن الإنسان إذا ترك بعض فرائض الإيمان أو ارتكب بض االكبائر يستحق التخليد في النار ، لأن ترك الجزء كترك الكل … ].
وكيف أفرق بين قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} وقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} و {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية}
و {كتب عليكم القتال}؟! وكلها بصيغة واحدة: {كتب عليكم}. وما الذي يجعلني آخذ من سورة المائدة قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق …} وأرفض قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..} وذا دِين وذا دِين؟. تقول لي: ذا سياسة؟!! ذا قرآن. وبالنسبة لي بصفتي مسلما كله أمر واحد.
والذين يستغلون كراهية الناس للسياسة والسياسيين يقولون: ذا أمر سياسة. طيب السياسة ليست محرمة في حد ذاتها وليست شيئا منكرا، لا بد للناس من سياسة، والسياسة جزء من الإسلام، لكن يجب أن تكون عادلة سياسة قائمة على الحق، وليس هناك إسلام غير سياسي.
السائل: لكن يقول المخالفون: الأنبياء ما كانوا يدعون إلى الحكم، وإنما كانوا يدعون إلى العقيدة والتوحيد؟.
الجواب: ومن قال هذا؟.
السائل: يوجد بعض الكتب في هذا وكتابات في بعض وسائل الإعلام.
الجواب: لا. الأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويدعون إلى إصلاح المجتمع. عندما جاء سيدنا شعيب قال لقومه: {ويا قوم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين وأوفوا الكيل..}. أليس في هذا دعوة إلى إصلاح المجتمع، مع الدعوة إلى التوحيد: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}؟. وفي الأمور الاجتماعية ظل يفصل فيها. اقرأ قصة شعيب في القرآن الكريم. من قال: إن الأنبياء لم يدعوا إلى الحكم …؟ لوط لما أخذ يحارب الفاحشة: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين … وتأتون في ناديكم المنكر}. ووصفهم بأنهم مسرفون، وقوم يجهلون، والقوم العادين، والقوم المجرمين، والقوم المفسدين!! هذا في داخل المجتمع. وهناك أنبياء وصلوا إلى الحكم بالفعل، وليس فقط دعوا إليه، مثل داود وسليمان. والرسول صلى الله ليه وسلم هو القدوة، كان هو الداعية، وهو الإمام، وهو رئيس الدولة والحاكم. وكذلك الخلفاء الراشدون.
ولم يعرف الإسلام فصلا بين دين ودنيا، ولم يعرف سلطتين: سلطة روحية وسلطة زمنية، بل سلطة واحدة. وذا من فضائل الإسلام أنه لا يعرف هذه الإثنينية وهذه الازدواجية. ليس هناك سلطة توجه الروح وسلطة توجه العقل، أو سلطة لداخل المعبد وسلطة لخارج المعبد. عملية الانفصام هذه لم يعرفها الإسلام. هذا الفصام لم يعرف وهذا الازدواج لم يعرف، إنما هو شيء واحد، لأن الإنسان هو كيان واحد. نقول نحن: الإنسان جسم وروح و (عقل) إنما هذا من الناحية النظرية، إنما هو كيان واحد جسمه وروحه وعقله وقلبه كله شيء واحد. فلا بد أن توجهه سلطة واحدة.
فلا بد أن يكون المجتمع كله مصبوبا في قالب واحد، ويوجه وجهة واحدة. وهذا ما تسعى إليه كل الإيدولوجيات الشاملة: الاشتراكية الشيوعية، وغيرها. توجه المجتمع بالتعليم والتربية والإعلام والاقتصاد والسياسة والدين والنفس والاجتماع، كله تريد أن تجعله في إطار واحد، حتى لا يضرب بعضه بعضا (يعني وحدة توجيه لمجتمع واحد). حتى الدين يتدخلون فيه ويوجهونه.
فكيف يراد بالإسلام-وهو الدين الشامل-أن يقبع في داخل ضمير الفرد، وإذا خرج من الضمير يكون بين جدران المسجد الأربعة لا يخرج منها، وحتى المسجد لم يتركوه
للإسلام، لأنهم يريدونه أن يكون مسجدا موجها يتكلم حسب ما تريده السلطة القائمة، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يقاوم فسادا ولا يحذر من شر، ولا يدعو إلى ما يعتقد أنه الحق.هذا مخالف للإسلام.
الإسلام نظام شامل جاء لأمر الدين والدنيا، جاء لإصلاح الفرد ولإسعاد الأسرة ولتنظيم المجتمع وإقامة الحكومة العادلة، ولإيجاد علاقات دولية عالمية تقوم على العدالة والاحترام المتبادل، وبذلك يكون (الإسلام) الرحمة التي بشر الله بها العالم ، ببعثة الرسول صَلى الله عليه وسلم، حين قال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
السائل: يمكن أن أستفسر عن كلمة؟ ذكرتم أنه يوجد فرق بين الذي لا ينفذ والذي يرفض. إذا وجد حاكم قادر على أن ينفذ، ولكنه لم ينفذ من الإسلام إلا شيئا مما يسمى
بـ(الأحوال الشخصية) هل نعتبره رافضا؟
الجواب: لا أستطيع أن أعتبره رافضا إلا إذا صدر منه ما يدل على ذلك. وطبعا لا بد لأهل الدعوة وأهل العلم أن يضيقوا عليه الخناق حتى يعرفوا لما ذا لا ينفذ؟
إذا كان قادرا فلما ذا لا ينفذ؟ لا بد أن يكون هذا لسبب. طبعا بعض هوؤلاء الحكام يعتذرون بأنهم لا يملكون أمر أنفسهم، في الحقيقة يقولون: وإن كنتم تظنون أننا مستقلون وسادة، نحن-للأسف-تحكمنا أمور كثيرة، نحن لا نملك القوت الذي يأكله أولادنا، لا نملك من الغذاء ما يكفينا.
وكما في بعض البلاد بالفعل يقول لك: نحن ثلاثة أرباع أقواتنا تأتينا من الخارج، وأن الدولة الفلانية لو كفت يدها عنا لمتنا جوعا [تعليق السائل: وهنا يأتي دور الإيمان الصادق والتوكل على الله ، والتعاون السياسي والاقتصادي بين الدول الحاكمة للشعوب الإسلامية ، إن ذلك يكاد يكون مفقودا …!!].
وهذه الدول للأسف من وراء ستار تحرك سياستنا. فبعض هؤلاء (الحكام) يعتذرون يقولون لك: إنهم عاجزون … نستطيع أن نقول: هذا إنسان ضعيف جبان !. طيب إذا لم تكن قادرا على أن تسود اترك المجال لغيرك. لكن لا تستطيع أن تقول: إنه رافض وأنه كافر أمام هذه الأشياء.
الشخص الذي ليس عنده أي إيمان، هذا يجب أن يحاصر، يقال له: أثبت لنا إما أن تقول: أنت مسلم فتنفذ الإسلام، وهذه رغبة الشعب، وإما أن تظهر لنا العذر، وتقيم عليه الحجة في هذه الحالة. وذا مهمة الدعاة، أن يوجد رأي عام ضاغط، لا بد أن يستطيع الرأي العام الضاغط الذي يسمونه بـ(الجماعات الضاغطة) يضغط على هؤلاء، بحيث أنا نحرجه ونضعه في قفص، إما أن يكون مسلما وينفذ، وإما أن يكون غير مسلم، أو يكون عاجزا، فيقال له: اترك مكانك لغيرك.
السائل: جزاك الله خيرا. فضيلة الدكتور، أستاذنا الكريم، فقد فرغنا من هذه الإجابات-وإن كانت ليست على كل الأسئلة-في هذا اليوم العاشر من شهر رمضان المبارك، في مكة المكرمة في فندق أجياد. وأرجو أن تنصحني فضيلة الشيخ، هل ترى أن الاستمرار في هذا البحث مناسب؟
الجواب: والله أرى أنه مناسب ونافع، إن شاء الله. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقكم لكتابة شيء جيد، بعد لقاءاتك وقراءتك، وإعداد المادة اللازمة حول هذا الموضوع. إن شاء الله أعتقد أنه يمكن أن يكون نافعا، إذا صدق العزم ووضح السبيل. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص وأن يوجه عزيمتنا إلى الخير وأن ينير الطريق أمامنا،وأن يتقبل منا أقوالنا، إنه سميع قريب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السائل: آمين، وجزاك الله خيرا.
(سجلت هذه الأجوبة مباشرة في شريط ,, كاسيت،، ثم نقلتها بقلمي في أوراق، ثم هاأنا قد فرغت من كتابتها في الكمبيوتر بتاريخ: 25/ رجب، لعام: 1418هـ في مدينة الرسول صَلى الله عليه وسلم. وأسأل الله العون على إكمال تسجيل كل المقابلات المماثلة على الكمبيوتر، لأتمكن بعد ذلك من ترتيبها وتنسيقها، وكتابة النصوص التي جمعتها من مصادرها: القرآن والسنة والسيرة النبوية، وأقوال أهل العلم، ثم البدء في كتابة البحث الذي طال وقته بسبب قلة الإمكانات وكثرة المشاغل، والله وحده المستعان.
انتهى حلقات أجوبة الدكتور القرضاوي على الإسئلة، ويليها حلقات إجابات سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
|
|