﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(01)طل الربوة[تربية الأستاذ لطلابه]

(01)طل الربوة[تربية الأستاذ لطلابه]



مقدمة الطبعة الرابعة



للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي



قال رحمه الله: "من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به؛ أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.. وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:



إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله، فإن كان مخالفاً له، فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم..



والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح..



فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله، وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائناً ما كان، وعلى أي وجه صدر..



وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلَّما وجدت فرقة زائغة، ولا أحداً مخالفاً للسُنَّة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف". [اختصرت هذه الجمل من كتاب الموافقات في أصول الشريعة (1/91-95) بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله دراز.]

والهدف من نقل هذه الجمل لهذا العالم الجليل [الإمام الشاطبي.] هو نصح طالب العلم أن يأخذ العلم من أهله، ويبتعد عن الأخذ بطريقة بعض الجهلة المغرورين الذين ينصبون أنفسهم للتعليم والفتوى، وقد يدَّعون أنهم من المجتهدين، وهم على جهل بقواعد العلوم الشرعية وعلومها وآلات تلك العلوم، بسبب قراءتهم لبعض الأبواب في بعض الكتب، وسوء فهمهم لكثير مما قرأوه، وعدم اقتدائهم بالصحابة والتابعين وعامة السلف الصالح في أخذ العلم عن أهله المتحققين به، وهذا من أهم أسباب الزيغ كما قرر ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله.



مقدمة الطبعة الخامسة



{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)}.



أما بعد:



فقد مضى على كتابتي لطل الربوة ما لا يقل على أبعين سنة، وكان الهدف من كتابته كما أشرت إلى ذلك في مقدمة الطبعة الثالثة، أن قصد منه أن يستفيد الطلبة من أساتذتهم خارج قاعات الدرس: يستفيدون من علمهم، ومن تربيتهم وسلوكهم، فكانت تعقد الندوات، وتنشأ الرحلات، وكان الأساتذة يجتهدون في لقاءاتهم بطلابهم، في الرحلات التي قد تبقى أياماً في الخلاء، أو في بعض مدن المملكة، كمكة المكرمة وغيرها.



وكنت كتبت قطوفاً مختصرة جداً تتعلق بقوة الصلة بالله، لتكون تلك القطوف دافعة للطلاب إلى الالتزام بمنهج نشاطهم مع أساتذتهم، ونفع الله بذلك في حينه، وبعد مراجعتي لهذا الكتيب رأيت أن أتوسع قليلاً في الأمور التي تقوي الصلة بالله تعالى؛ لأن الأحداث التي نزلت بالأمة الإسلامية وبخاصة الشباب منهم، تستدعي ربطهم بربهم ربطاً قوياً يقيهم من الانحراف الذي لا وزر منه إلا ذلك الرباط الرباني.



كما أن الحاجة دعت إلى زيادة بعض الموضوعات التي يجب أن يفقهها الأساتذة والطلاب معاً، مثل موضوع الوسطية والاعتدال الذي لم يتضمنه "الطل" من قبل، أرجو أن يكون الأساتذة وطلابهم جميعاً محصنين من الإفراط والتفريط، وأن يكونوا على منهج الأمة الوسط، لهذا كَبُر حجم "طل الربوة" عما كان عليه من قبل.



أسأل الله تعالى أن يجعل عملي في هذا الكتاب وغيره خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من شاء من عباده، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف



مقدمة الطبعة الثانية لطل الربوة



الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خير المعلمين وعلى آله وأصحابه الهداة خير المتعلمين وعلى أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد فإنه لم يمض على طبعة هذا الطل إلا زمن يسير جداً، اتصل بي بعده الناشر طالباً مني الموافقة على طبعه للمرة الثانية، فعجبت لذلك لقرب عهد طبعته الأولى، ولكني سررت لسرعة نفاذه، آملاً أن يكون الله قد نفع به الشباب المسلم معلمين ومتعلمين، وليس عندي ما أقوله في هذه المقدمة إلا الإجابة على سؤال وجه إليَّ من عدد من الشباب، وهو:



ما سبب تسمية هذا الكتيب بـ(طل الربوة)؟



والجواب: يعود إلى ثلاثة أمور:



الأمر الأول: الإشارة إلى قلة بضاعة الكاتب، فليس عنده وابل كوابل ابن القيم [له كتاب قيِّم في الأذكار سمَّاه: الوابل الصيِّب في شرح الكَلِم الطيِّب.] رحمه الله، وإنما عنده شئ من طل [والطل المطر الخفيف]



الأمر الثاني: الإشارة إلى طيب عنصر القارئ، واستعداده لاستقبال الطل القليل من الخير، وإعطائه هو الخير الكثير، تعليماً وتعلماً مثل الربوة الطيبة التي ينزل عليها الطل، فتنبت الزرع وتؤتي أكلها أضعافاً مضاعفة.



فالأمل في المسلم الصالح أن يحوِّل كلَ سطر بل كل كلمة ترد إليه من هذا الطل، إلى مؤلف كبير أو وابل صيب، ليس في كتاب يكتبه، وإنما في سلوك يمارسه، في خُلُقٍ يتحلى به، وعمل صالح يداوم عليه، ودعوة إلى الله تهدي من شاء الله من عباده، وتعليمٍ لجاهل يصبح قدوة في أمته، وجهاد في سبيل الله شامل يعيد إلى الأمة الإسلامية مجدها وعزها، وينتشلها مما لحق بها من هوان بسبب تركه، محققاً ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، من قبول هدى الله والعمل به، ونشره بين الناس، لينعموا به، ولا يكون كمن لم يقبل ذلك، ممن حرم نفسه من رحمة الله وفضله.



فقد روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن مثل ما بعثني الله تعالى من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فَعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به) الحديث. [البخاري (1/28) ومسلم (4/1787).]



الأمر الثالث: التيمن بقول الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً

مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
. [البقرة: 265.]



المدينة المنورة 29 من ذي القعدة سنة 1405هـ، وها أنا أسجل الحلقة الأولى من الكتاب في منتدى الروضة الإسلامي، بتاريخ: 6 من جمادى الآخر، لعام 1435ه

المؤلف



تمهيد: قوة الصلة بالله:



إن أول هدف يجب أن يضعه الأستاذ والطالب على السواء نصب أعينهما، هو أن يكون الغرض من التعليم والتَّعَلُّم، قوة الصلة بالله وعبادته سبحانه على الوجه الذي يرضاه، فإن عبادته هي الغاية من خلقنا.



كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}. [الذاريات]



وعبادة الله شاملة لكل ما يتقرب به المسلم إلى ربه، سواء كان فعلاً واجباً أو مندوباً أو مباحاً، يقصد به وجه الله، أو ترك محرم أو مكروه، أو ترك مباح يبتغي به وجه الله.



كيف تُحقق قوة الصلة بالله؟



وتتحقق قوة الصلة بالله بأن يكون المؤمن كله لله تعالى. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}. [الأنعام]



ولنفصل ذلك بعض التفصيل فيما يأتي:



تفقيه الأستاذ طلابه في الدين وتزكيتهم بالوحيين:



فعبادة الله والدعوة إلى الله تعالى لا بد أن يكون مصدرُهما الوحيين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقيهما يجب أن يكون على أيدي من وفَّقَه الله تعالى للتفقه فيهما؛ لأن الفقه فيهما شرط أساسي لمن يريد أن يعبد الله أو يبلغهما إلى الناس.



ومشايخ العلم الذين تفقهوا في دين الله تعالى هم المؤهلون للتبليغ، ومن أراد أن يتأهل للبلاغ المبين يجب أن يتفقه في الدين على أيديهم كما تفقهوا هم على أيدي الشيوخ من قبلهم.



هؤلاء العلماء المؤهلون لتبليغ دين الله والتزكية به، هم العلماء العاملون بما تعلموه، المتزكون به في أنفسهم، الذين يرى فيهم أتباعهم القدوة الحسنة برسول الله ‘؛ لأن من لا يعمل بعلمه ليس أهلاً لتبليغ رسالة الله، وليس أهلاً لتزكية غيره بها.



فقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، آيات كتاب الله عن الروح الأمين جبريل عليه السلام، الذي أخذه مباشرة عن ربه سبحانه وتعالى، كما تلقى أصحاب الرسول، ذلك الكتاب والسنة النبوية عنه صلى الله عليه وسلم، وتلقى عن الصحابة ذلك أبناؤهم، وتلقى كبار التابعين عن صغار الصحابة، وهكذا استمرت أجيال الأمة يأخذ اللاحق عن السابق حتى وصل إلينا.



وهكذا يجب على علماء المسلمين وطلابهم أن يسيروا على نفس الطريقة في التعليم والتزكية، ومن حاد عنها فتتلمذ على الكتب والدفاتر لنفسه دون شيخ يفقهه على قواعد أهل العلم ويصقل عقله وقلبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته المطهرة، لم يكن أهلاً للتعليم والتزكية لغيره؛ لأنه ما فعل ذلك أحد إلا زاغ غالباً عن النهج الصحيح العاصم من الزلل.



كما سبق قول الشاطبي رحمه الله: "وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحداً مخالفاً للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف".



الحرص على حفظ العلم لتبليغه:



قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقى الوحي من جبريل عليه السلام: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}. [طه]



"ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على الحفظ، وشفقةً على القرآن مخافةَ النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ..}. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي]



ومثل آية طه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}.[القيامة]



وفي هذه الآيات وعد له صلى الله عليه وسلم، من الله تعالى بأن يجمع له هذا القرآن كله في صدره ليقرأه كاملاً بدون تكلف، وهو من حفظ الله لهذا الكتاب الذي أكده تعالى في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. [الحجر]



وقد كان جبريل يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كل ليلة من ليالي رمضان كل سنة كما روى ابن عباس رضي الله عنهـما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله ‘ أجود بالخير من الريح المرسلة".



وفي لفظ: "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السلام، كان يلقاه، في كل سنة، في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله ‘ القرآن...".[البخاري ومسلم]



وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرص هذا الحرص الشديد على حفظ الوحي، ليبلغه إلى الناس، فهو قدوة لكل طالب علم بأن يستفرغ وسعه في حفظ العلم وضبطه، ليكون أهلاً للاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، والعلم لا يأتي بدون كد وتعب في الحفظ والفهم.



فلا بد من الجد والمثابرة في طلب العلم، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتب أهل العلم الذين يتمسكون بهما، ولا يقدمون عليهما قول أحد كائناً من كان، والاجتهاد في كل علم نافع للطالب ولأمته.



والتساهل في طلب العلم أو القعود عنه، يؤدي إلى لهبوط إلى الجهل، والقعود عن معالي الأمور التي لا تنال بدون العلم وإخلاص العمل فيه لله.



قال الإمام الشافعي رحمه الله: "فحُقَّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم، في الاستكثار من علمه، والصبر على عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام كتابه، نصاً واستدلالاً، وفَّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريبُ، ونوَّرت في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضع الإمامة". [الرسالة بتحقيق أحمد شاكر، صفحة 19.]



تزكيتهم بالعمل بما تفقهوا فيه:



دعا أبونا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما يبنيان أعظم بيت الحرام في غابر التاريخ، أن يبعث الله تعالى في أمتنا التي ستبدأ رحلتها في عبادة الله والدعوة إليه، من هذا المسجد الحرام، رسولاً يقوم فيها داعياً إلى أصول تلك العبادة وفروعها، ومجاهداً في سبيل ربه لإرسائها ورفع رايتها في الأرض.



تلك الأصول هي تلاوة آياته التي سينزلها الله إلى ذلك المبعوث الكريم، الشاملة لقراءته لفظاً، والإيمان بها عقيدةً، واتباع منهجها شريعةً وعملاً وسلوكاً، وتعليمهم كتابه المشتمل على تلك الآيات، وما يبينه به من سنته، أو يشرعه بها، أمراً أو نهياً، أو يرشد إليه من سلوك وآداب.



وسنته صلى الله عليه وسلم، هي "الحكمة" كما ذكر ذلك كثير من العلماء، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله في كثير من كتبه، ومنها كتاب الرسالة والأم.



وفسر ها بعض العلماء بأنها "المعرفة بالدين، والفقه في التأويل والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى". ولا منافاة بين التفسيرين. فسنته الصحيحة تُعَرِّف بالدين، وتفقه في التأويل، وتكسب من ألم بها الفهم الصحيح لدين الله، وهي نور ككتاب الله.



قال تعالى عن تلك الدعوة الإبراهيمية الضاربة في أعماق التاريخ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)}. [البقرة]



ولقد استجاب الله تعالى لتلك الدعوة الكريمة ومَنَّ على هذه الأمة بتحقيقها، مشتملة على تلك الأسس التي دعا الخليل وابنه أن يقوم بها ذلك الرسول المبعوث الكريم ‘ كما قال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)}.[البقرة]



وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}.[آل عمران]



وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)}. [الجمعة]



وبتعليم هذه الأمة الكتاب والحكمة وتزكيتهم بهما، جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانت قبلها في تيه وضلال. كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.[آل عمران]



وقام صلى الله عليه وسلم، بوظيفته التي كلفه الله القيام بها في أمته، من تلاوة آيات الله عليهم، ودعاها إلى الهدى، وبشر وأنذر، كما قال تعالى عنه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ(92)}. [النمل]



التزكية تعني التطهير والتربية:



والتزكية الربانية التي يجب على الأستاذ صبغ طلابه بها هي التطهير من كل ما يُدَنِّس نفوسهم ويُدَسِّيها من شركٍ ومعاصٍ وسلوكٍ سيء، وأفكار تخالف دين الإسلام، ودعوتهم إلى الاستقامة على فطرة الله الصافية، وتمسكهم بمنهجه الذي كلفه وكلف أمته بعده الدعوة إليه.



فالتزكية تشمل تطهير القلوب وصقلها من كل ما يفسدها، كعقائد اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، وكل فكر يخالف ما جاء به الإسلام، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً... وإصلاحها بإحلال حقائق أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام وأحكامه محل تلك المفسدات، مع إقامة الحجج والبراهين على عقول أصحابها بصحة ما به صلاحها من هذا الدين، وبطلان ما به فسادها مما يخالفه.



وإذا طهرت تلك القلوب من الفساد، وحل محلها الصلاح؛ عمَّ الصلاح كل عضو من أعضاء أصحابها؛ ليصبحوا مستقيمين على جادة عبادة الله وطاعته، بعيدين عن مشاقته ومعاصيه.



فالقلوب أئمة الأجسام، تصلح بصلاحها، وتفسد بفسادها، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}.[الحج]



فجميع أعضاء الجسم تفسد إذا لم يكن القلب صالحاً، فلا العقول تؤدي وظيفتها فتعي ما ينفع صاحبها، ولا الآذان تسمع الداعي إلى ما ينجيه، ولا الأبصار ترى النور الذي ينتشر ضوؤه ليهديه إلى صراط الله المستقيم، فحياته إذا لم يكن قلبه حياً مبصراً حياةَ من ذكرهم الله تعالى في القسم الثاني من هذه الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. [الأنعام]



وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن أصحاب القلوب الصالحة المبصرة هم الذين لا يجاوزون الحلال إلى الحرام، بل يتقون الشبهات التي لا يظهر لهم حلها من حرمتها، وأن أصحاب القلوب الفاسدة العمياء يتقحمون تلك الشبهات التي تؤدي بهم إلى تعاطي ما هو بيِّن الحرمة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).[متفق عليه]



قال الحافظ رحمه الله، في شرح الحديث في الفتح: "وخصَّ القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه".





السابق

الفهرس

التالي


16125559

عداد الصفحات العام

4174

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م