(69) سافر معي في المشارق والغارب- رحلة الصين
اليوميات بداية ونهاية:
بداية الرحلة في يوم الأربعاء: 21/2/1416ﻫ ـ 19/7/1995م ونهايتها في يوم الخميس: 21/3/1416ﻫ ـ 17/8/1995م
من جدة إلى بانكوك: الأربعاء 21/2/1416 ﻫ ـ 19/7/1995م
أقلعت بنا الطائرة من مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة في الساعة: 21/15، وهبطت في مطار الملك خالد الدولي بالرياض في الساعة: 30/22 ولم تقلع إلا في الدقيقة العاشرة بعد منتصف الليل.
الخميس 22/2/1416ﻫ ـ 20/7/1995م
وكان وصولنا إلى مطار بانكوك الدولي في الساعة: 15، 7 بتوقيت المملكة وهو يوافق 15/11 بتوقيت بانكوك، أي إن مدة الطيران كانت سبع ساعات وخمس دقائق. كانت مدة الانتظار في مطار بانكوك (ترانزيت) ثلاث ساعات وخمساً وأربعين دقيقة.
الأثر يدل على المسير:
بعد أن استرحت في قاعة استقبال ـ في مكتب الدرجة الأولى ـ حان وقت صلاة الظهر، توضأت، ثم أخذت أسأل الموظفين في المكتب عن القبلة، فلم يجبني أحد، فسألت عن جهة شروق الشمس وغروبها، فبدت علامة التعجب على وجوه القوم! وقد نسيت آلة تحديد القبلة في هذه الرحلة فقط، فقلت لإحدى الموظفات: أريد أن أصلي (prayer)، فتهللت وجوه الجميع، وأخذوا يقهقهون من شدة الفرح بفهم ما كنت أريده من الأسئلة السابقة، فقالت لي الموظفة: نعم نَعم الآن فهمنا، تعال معي، وفتحت باب إحدى الغرف، فإذا هي مُصَلَّى، وبها سجادة موجهة إلى القبلة، ومصحف، وقد علقت على الجدار في جهة القبلة قطعة قماش كتبت عليها آية الكرسي كتابة جميلة، فسررت بذلك كثيراً، كما سُرَّ الموظفون.
لو اهتم المسلمون بدينهم لنالوا احترام الناس لهم:
وهنا أود أن أُذَكِّر بأن الأمة الإسلامية لو تمسكت بدينها في سفرها وحضرها، لاحترم الناس دينها وراعوا مشاعرها، وعاملوها بمقتضى ذلك الدين، فلم يكن يوجد بالمطارات الأجنبية قبل فترة من الزمن مصلى للمسلمين، لا في الدرجة الأولى ولا في غيرها، ولكن تصاعد الصحوة الإسلامية ووجود بعض المسافرين المسلمين الذين يلحون على موظفي المطارات في معرفة جهة القبلة ومكان يصلون فيه، جعل الناس يعدون مثل هذه المصليات، فذلك أثر من آثار هذه الصحوة المباركة: و(الأثر يدل على المسير)..
وإيغال في التقصير!
ولو أن الشركات الإسلامية التي تتعامل مع الشركات الأجنبية ـ سواء كانت جوية أو تجارية أو غيرها ـ اشترطت على تلك الشركات التعامل معها على أساس توفير ما يحتاجه المسلمون في أسفارهم ـ براً أو بحراً أو جواً ـ أو إقامتهم في الفنادق، من طعام حلال ومترجمين لمن لا يجيد اللغات الأجنبية، لما تأخرت تلك الشركات عن تحقيق ما يطلب منها، لأنها في حاجة إلى التعامل مع الشركات الإسلامية، ولكن غالب المسلمين الذين في استطاعتهم فرض هذه الشروط على شركائهم من غير المسلمين، موغلون في التقصير في حق أمتهم ودينهم ولغتهم، ليس عندهم اهتمام بكل ذلك، إما خجلاً من إظهار إسلامهم الذي يحقق فيهم قول الله تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ )
(سورة فصلت، آية: 33.) وإما كرها لهذا الدين وكل ما يمت إليه بصلة.
من بانكوك إلى هونغ كونغ:
وكان الإقلاع من مطار بانكوك إلى هونغ كونغ، على الطائرة التايلندية في الساعة: 00،15 وهبطت في مطار هونج كونج في الساعة: 12, 17 بتوقيت بانكوك الذي ينقص عن توقيت هونج كونج بساعة واحدة، أي إن مدة الطيران كانت ساعتين واثنتي عشرة دقيقة من بانكوك إلى هونغ كونغ [هذا وقد ذكرت ما سجلته من معلومات في هونغ كونغ التي مررت بها ذاهباً إلى الصين وراجعاً منها في الجزء الخاص برحلات هونغ كونغ في المجلد الثالث من هذه السلسلة، وعنونت له بالزيارة الرابعة لـ(هونغ كونغ) فليراجع هناك].
من هونغ كونغ إلى بكين: الأحد 25/2/1416ﻫ ـ 23/7/1995م
ودعني الأخوان إمام المسجد في المركز الإسلامي الأخ "عثمان" والأخ "علي تنج" ـ وسيأتي التعريف بهما ـ في مطار هونغ كونغ، وأقلعت بنا الطائرة الصينية: في الساعة: 30، 12 ظهراً، وكنت ضمن ركاب درجة رجال الأعمال، وهي مزحومة ـ فعلاً ـ برجال الأعمال من الصينيين والأوربيين، الذين لا يدعون آلاتهم الحاسبة إلا لتناول الطعام والشراب، وكان بجانبي رجل أعمال صيني، وكنت أشاركهم في العمل على الآلة [المفكرة الرقمية العربية]. إلا أنهم يسجلون في آلاتهم مبالغ الدولارات وحسابات التجارة ومواعيد الأعمال التجارية المالية، وأنا أسجل ملحوظاتي حول مقابلاتي وتنقلاتي واستفساراتي فيما يتعلق برحلتي وتحقيق أهدافها.
ابن الوزير والفأر!
كان صاحبي الصيني يلتفت إليَّ خلسة بين وقت وآخر، وأنا ألحظه دون أن أظهر له أي انتباه، ثم أخذ ينظر إلى كتابتي في المفكرة الرقمية، بدون تحفظ، فلم يشف غلته، ثم التفت إلي قائلاً: (معذرة excuse me). قلت له: تفضل. قال: هل هذه أول زيارة لك إلى الصين؟ قلت: نعم.
قال: وما الهدف من زيارتك؟ قلت: قضاء إجازة. قال: ما عملك؟ قلت: مدرس. قال: هل تعرف أحداً في بكين؟ قلت: لا. قال: وأين تنزل؟ قلت: أي فندق. قال: هل ستزور مدنا أخرى في الصين؟ قلت: ربما. قال: من أين أنت؟ from where?. قلت: من السعودية. قال: في دبي؟! from dubai قلت: على مقربة منها!
ثم حاولت أن أتشاغل عنه بالالتفات من النافذة إلى الأرض، لشدة ما أحسست به من الفضول، ولقد ندمت على الانفتاح معه في الكلام، لأني أتعب كثيراً في تلمس المفردات الإنجليزية التي كنت أخلط فيها عباساً بدباس، كما أني أتعب كذلك في فهم عبارات صاحبي، وقد أفهم من كلمةِ زيدٍ عمراً، ومن كلمةِ خالدٍ بكراً، ولكن الرجل كان يصبر كثيراً ويكرر لي الكلمات بتأني لأفهم منه، على خلاف أبناء جنسه الذين يسرعون في الكلام ويطوونه طياً في مخارج حروفهم الصينية العجيبة، كما كان يصبر كثيراً علي حتى أجمع له بعض المفردات، ولعل له مأرباً تجارياً أو أمنياً جعله يستمر في مخاطبتي ويصبر! أقول: ندمت لأن عادتي أن أريح نفسي في أسفاري، إذا لم أكن محتاجاً إلى الرطانة الصعبة، فأقول لمن يتكلم معي: (speak english no) وكان هذا الرجل من أحق الناس بهذه الحيلة.
دلالة الحوار: خرجت من هذا الحوار بما يأتي:
أولاً: أن هذا الرجل، إما كثير الفضول، وإما أنه من رجال المخابرات الصينيين أو غيرهم، وإما أنه كان يطمع في أن أكون رجل أعمال أحتاج إلى عميل أو وسيط لينال مني شيئاً، ولعل الثلاث مجتمعة فيه.
ثانياً: ذكرني قوله مستفهماً، بعد أن ذكرت له: أني من السعودية ـ : من دبي؟ بقصة تحكى لمن عرف شيئاً فَنسب كلَّ شيء إليه، ذلك أن ملِكاً سجن أحد الوزراء لجريرة صدرت منه، وكان للوزير ابن متعلق به، فاستأذن من الملك في أن يرافقه ابنه في السجن، فأذن له، وعندما دخل غرفته في السجن رأى ابنه الصغير دويبة تتحرك في الغرفة، فسأل أباه: ما هذا؟ قال له: فأر، فسكت، ثم كان كلما قدِّم لهما طعام مع اللحم ـ تارة يكون لحم ضأن، وتارة لحم دجاج، وتارة لحم بقر، وتارة لحم جمل ـ يسأل الولد أباه: هل هذا هو لحم الفأر؟!
وقد ذكر ابن خلدون رحمه الله حكاية ابن الوزير، في سياق من ينكر أحوال الدول لمجرد أن بعضها ليس بمعهود عنده: "إياك أن تستكثر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن. وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين، رَبيَ فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحم الذي كان يتغذى به؟
فقال أبوه: هذا لحم الغنم، فيصفها أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبتِ تراها مثل الفأر، فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟ وكذا في لحم الإبل والبقر، إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر... [المقدمة ص: (323) نشر دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة].
فهذا الرجل يبدو أنه لم يسمع من البلدان العربية إلا دولة دبي، لأنها بلد تجاري مشهور، ولذلك جعل السعودية من دبي أو العكس، واتضح لي بعد ذلك أن كثيراً من الصينيين لا يعرفون من العالم شيئاً، بل ربما بعضهم لا يعرفون بعض مدن بلدهم، فلعل غالبهم أبناء وزراء لا يعرفون من اللحوم إلا لحم الفأرة!.
|
|