﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


المبحث الثالث: الإيمان بأسماء الله وصفاته:

المبحث الثالث: الإيمان بأسماء الله وصفاته:

1 ـ وجوب تنزيهه عن مشابهة المخلوقين.
2 ـ إثبات صفاته وأسمائه.
3 ـ قطع الطمع عن الإحاطة بالكيفية.
3 ـ الغاية من تعرف الله إلى عباده بأسمائه وصفاته تحقيق العبودية لله تعالى.
4 ـ وضوح تلك الغاية في القرآن لمن تدبره.
5 ـ مناسبة الأسماء والصفات للسياقات التي تذكر فيها.
6 ـ أمثلة يتضح بها المقصود.
7 ـ التدريس الْفِرَقِي لأسماء الله وصفاته لا يحقق التربية الربانية.

يجب الإيمان بأسماء الله وصفاته على أساس قواعد ثلاث:
1 ـ تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم:
كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ}. [1].
2 ـ الإيمان بما وصفه الله به نفسه:
أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كما قال تعالى: {وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ}. [2].
3 ـ قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف:
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}. [3].
فإذا آمن العبد بأسماء الله وصفاته على أساس هذه القواعد، وعلم هذا المطلب العظيم، وتعبد به لربه سبحانه وتعالى، فقد حقق له العبودية الكاملة لله تعالى في هذا الباب. [4].
وقد حفل كتاب الله، وكذا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، بذكر أسماء الله وصفاته في سياق تقرير أصول الإيمان وفروعه، وفي سياق تقرير قواعد الإسلام وأجزائه، وفي تشريع الأحكام الفقهية بأبوابها المتنوعة، ليتعرف الله بتلك الأسماء والصفات الجليلة، إلى عباده، فيعبدوه بها حق عبادته، وليربط سبحانه تصرفاتهم، به عن طريق أسمائه وصفاته، التي يريد منهم أن يستحضروها عند تصرفاتهم في الحياة ـ فعلاً وتركاً ـ فيذكروا ربهم عند ذلك، ذكراً يدفعهم إلى العمل بما يرضيه، وترك ما يسخطه.
4 ـ الغاية من تعرف الله إلى عباده بأسمائه وصفاته:
وقد بين تعالى الغاية من تعرفه إلى عباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهي عبادته بها، كما قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. [5]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [6].
5 ـ وضوح تلك الغاية في القرآن لمن تدبره:
وإنه ليصعب على الباحث تتبع المواضع التي وردت فيها أسماء الله وصفاته، في أصول الإيمان وفروعه، لكثرة ذلك في كتاب الله، ولكن قارئ القرآن إذا تدبره أدنى تدبر، وتأمله أدنى تأمل تبين له بوضوح أن كل اسم أو صفة، ذكرها الله في كتابه في أي مناسبة كانت يكون المقصود منها تلك الغاية العظيمة، وهي ذكر الله في كل فعل وترك، ذكراً يدفع صاحبه إلى العمل بما يرضي الله، وترك ما يسخطه.
6 ـ مناسبة الأسماء والصفات للسياقات التي تذكر فيها:
كما أن كل اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، يكون ذكرها مناسباً للسياق الذي ذكرت فيه غاية المناسبة، فإذا كان السياق يقتضي رحمة الله ومغفرته، ذكر فيه ما يناسب ذلك كأسمائه: الرحمن الرحيم الغفور، وإذا كان السياق يقتضي إشعار العبد بما يعمل في سره وعلنه، ذكرت الأسماء الدالة على كمال علم الله وإحاطته بكل شيء، كأسمائه: العليم البصير السميع العليم الخبير، وإذا كان السياق يقتضي قدرة الله وجبروته وعظمته، ذكر من أسمائه ما يناسب ذلك، كأسمائه: العظيم الجبار المتكبر القهار، والمقصود من ذلك ـ والله أعلم ـ أن يعبد الإنسان ربه حق عبادته بأسمائه وصفاته، فيكون في كل أفعاله مرتبطاً بربه ـ فعلاً وتركاً ـ مخلصاً أعماله لله، مطيعاً له طاعة كاملة، محباً لما يحبه الله، مبغضاً لما يبغضه الله.
7 ـ أمثلة يتضح بها المقصود:
سياقات تقتضي رحمة الله ومغفرته ورأفته ، وهي كثيرة جداً، نذكر شيئاً منها باختصار: من ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. [7]. وقد ذكر في سبب نزولها أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون إلى بيت المقدس ثم ماتوا قبل الأمر باستقبال الكعبة، فتساءل الناس: ما حال صلاة أولئك؟ فأنزل الله هذه الآية، ليعلم الناس أنه تعالى أرأف بعباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأن رحمته تقتضي عدم ضياع أعمالهم الصالحة. [8].
وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. [9].
فمن رحمة الله بعباده أن لا يوقعهم ـ فيما شرع لهم ـ في حرج لذلك أحل لهم ما حرم عليهم عند الضرورة، ورفع عنهم الإثم. وقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. [10].
إن أعداء الله من الكفار، يحادونه ويحاربون دينه ويناصبون أولياءه العداء ويقاتلونهم بسبب عبادتهم لربهم، فإذا تابوا إلى الله وأنابوا فأسلموا له نالتهم رحمة الله فوراً وجَبَّ إسلامُهم ما قبله، وأصبحوا من أوليائه بعد أن كانوا قبل وقت لحظة من أعدائه، وأذهب الله من قلوب المؤمنين الذين آذوهم وقاتلوهم الغيظ الذي كان بها، فأصبحوا إخوانهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}. [11].
إن حفظ الأموال وحفظ الأنفس من الضرورات التي لا حياة للناس بدونه، لذلك اقتضت رحمة الله وحكمته أن يشرع لعباده حفظ أموالهم وأنفسهم بتحريم الاعتداء عليهما، لما يترتب على الاعتداء عليهما من الفتن والمصائب، فناسب السياق ذكر رحمة الله بعباده حيث شرع لهم ذلك.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}. [12].
إن المنافقين الذين لا يفتأون يكيدون للمسلمين، ويفسدون في الأرض خلافاً لمراد الله من إصلاحها، ويصدون عن سبيل الله، ومع ذلك يدعوهم الله للأوبة إليه ليغمرهم برحمته، وهذا يدعو العصاة من الكفار والمنافقين والفسقة أن لا ييأسوا من رحمة الله ومغفرته مهما كثرت ذنوبهم فرحمة الله واسعة يقبل التوبة ويبدل سيئات أهلها حسنات، كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}. [13].
سياقات تقتضي الجمع بين الرحمة والأمن والعزة والجبروت والقدرة:
كما هو الحال في سورة الحشر التي ذكر الله فيها ما جرى من نصره وتأييده، لعباده المؤمنين، على أعدائهم اليهود والمنافقين الذين تواطؤا على الكيد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فاقتضى السياق أن يذكر من أسمائه ما فيه من رحمة وأمن وسلامة ونصر وعزة، لعباده المؤمنين، وما فيه من هيمنة وكبرياء وعظمة وإذلال، للكافرين، فختم تعالى السورة بقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. [14].
فذكر أسمائه: الرحمن الرحيم، السلام المؤمن، يناسب أن تذكر في سياق ما أنعم به على المؤمنين ورحمهم ولطف بهم من كيد عدوهم، كما أن ذكر أسمائه: الملك العزيز الجبار المتكبر، يناسب ذلك أيضاً؛ لأنها تدل على أنه قادر على نصرهم على عدوهم، في كل زمان كما نصرهم آنذاك، ويناسب أيضاً أن تذكر في سياق عتوِّ المشركين وتكبرهم عن الإيمان بالله وعن طاعته، وأنه تعالى قد أذلهم ونصر المؤمنين عليهم، وهو تهديد لهم ولأمثالهم، حتى يكفوا عن إيذاء عباده، ويتوبوا إلى الله من عتوِّهم، وإلا فهو لهم بالمرصاد.
ومن ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. [15]. فذكر كبريائه تعالى، واسميه العزيز، وهو القوي الغالب، والحكيم، وهو الذي يضع الأمور في مواضعها ومن ذلك إنزال عقابه بمن ذكر، يناسبان سياق أولئك الذي اتخذوا آياته هزواً واغتروا بالحياة الدنيا وعصوا أمره ونهيه ورسله الكرام.
وقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [16].
وقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. [17]. والقوة والعزة يناسب ذكرهما النصر لأن من كان قوياً عزيزاً كانت له الغلبة.
ومثله قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. [18].
وقوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}. [19] فذكر اسميه العزيز والمقتدر يناسب ذكر عقابه وأخذه المكذبين آياته.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. [20]. وفي ذكر اسميه الكريمين هنا: قوي عزيز، ما يناسب وعد أوليائه بالنصر ووعيد أعدائه بالهزيمة .
وكذا قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}. [21].
وقال تعالى في ختام آية الكرسي ـ بعد أن ذكر بعض صفاته العظيمة، كالحياة والقيومية وإحاطة علمه بكل شيء، ونفى عن نفسه ما يضاد ذلك من صفات النقص، كالسِّنة والنوم ـ قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}. [22]. لأن علوه وعظمته يناسبن ما وصف به نفسه في الآية.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. [23] فذكر اسميه العلي والكبير، يناسب سياق ذكر ما يدعو المشركون من دونه، لأمرين:
الأمر الأول: الإشارة إلى حقارة ما يعبد من دونه، وحقارة العابدين له.
الأمر الثاني: أنه تعالى وحده لأنه أعلى وأكبر من كل مخلوقاته، فهو وحده الذي يستحق أن يُعبد.
وقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}. [24].
تأمل كيف شرع الله للرجل تأديب زوجه عند الحاجة إلى تأديبها، ثم نهاه عن البغي عليها، ثم ذكره أنه ـ أي الرجل ـ وإن كان أقوى من المرأة، وقد شرع له تأديبها عند الحاجة، فإنه لا يجوز له أن يستغل قوته ويظلم زوجه، فإن فعل فليعلم أن الله أقوى منه وعلوه يقتضي أن يعاقبه على عدوانه، وفي ذلك تهديد وزجر له عن الاعتداء. فالمخلوق مهما علا وتجبر فالله أقوى منه.
وإذا كان في آيات الرحمة والرأفة والمغفرة ما يدعو العبد إلى محبة الله والطمع فيما عنده والإسراع إلى رضاه بفعل طاعته واجتناب معصيته، فإن في ذكر آيات الجبروت والعظمة والعزة والقوة ما يدعو العبد إلى الخوف من الله ومن عذابه، وبذلك يكون العبد دائماً متقلباً بين الرجاء والخوف، فالرجاء يحفزه على الإسراع إلى طاعة الله، والخوف يحجزه من ارتكاب معصية الله، بل كل منهما يحفزه على الطاعة، ويحجزه عن المعصية. وفي ذلك يكمن صلاح الفرد والأسرة والأمة.
سياقات تقتضي إحاطة علم الله بكل ما يعمل العبد في سره وعلنه:
وفي هذه السياقات يذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته ما يجعل العبد يشعر بأن الله معه في كل أحواله، يعلم هواجس نفسه وحركات أعضائه وما ينطق به لسانه وذلك هو معنى رقابة الله على عبده ويسميه العلماء: الواعظ الأعظم والزاجر الأكبر، وفي هذه السياقات يناسب ذكر أسمائه: السميع البصير العليم عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير...
من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}. [25]. ناسب أمره بأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل بين الناس، ذكر اسميه: السميع والبصير، ليعلم المأمورون بذلك أنه تعالى لا تخفى منهم على الله خافية؛ لأنه يسمع كل ما يقولون، ويبصر كل ما يفعلون.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}. [26] فالله تعالى خبير بمن عدل أو ظلم، فلا يظنن أحد أن ظلمه واتباع هواه يخفى على الله تعالى.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}. [27].
وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. [28].
فاليهود الذين اشتهروا بالحيل والخداع، حذر بعضهم بعضاً من إخبار المسلمين بما ذكر في كتابهم التوراة من صدق رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأنكر الله تعالى عليهم ظنهم أن ما يقومون به من الحيل وإخفاء ما عندهم يخفى على الله تعالى الذي يعلم سرهم وإعلانهم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. [المجادلة: 5 ـ 7.]
والآيات واضحة في إحاطة علم الله بكل شيء.
ومثله قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. [29].
وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). [مسلم (1/37)].
والذي يشهد قلبه إحاطة علم الله بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يدفعه ذلك إلى تحري ما يرضي ربه ليفعله، وما يسخطه ليجتنبه، وستكون في قلبه رقابة ذاتية لا تفارقه وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمة الإسلامية، بل العالم كله؟
ومع كمال علمه كمال قدرته؛ فإذا أضيف إلى ذلك علمه بكمال قدرة الله التي لا يقف أمامها شيء والتي يصورها قوله جل شأنه: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. [31]، زاده ذلك حرصاً على فعل الخير وترك الشر، لعلمه أن الله الذي أحاط بكل شيء علماً قد أحاط بكل شيء قدرة، فكما لا يخفى عليه شيء فإنه لا يعجزه شيء ومن ذا الذي لا يرغب في ثواب العليم القدير على ما يقدم من الحسنات، ومن لا يخاف من العليم القدير أن يعاقبه على ما يأتي من السيئات؟!
ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!
إن أعضاء الإنسان آلات تصوير ـ كاميرات ـ تصور حركاته في الليل وفي النهار، في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل ـ كاسيت ـ تسجل أصواته لتحتفظ بها فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ}. [32].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [33].
فالعلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا والإيمان بها، والتزكية بها والتربية على معانيها والتعبد لله بها، كل ذلك له أثره العظيم في صلاح الفرد والأسرة والأمة.
ولهذا يكثر ذكر اسم الله تعالى وغيره من أسمائه في القرآن والسنة في المناسبات المتنوعة في الموضوعات الإيمانية والأخلاقية والفقهية القضائية والأسرية، والجهادية والمالية وغيرها، لربط حركات المسلم وتصرفاته في تلك الأبواب كلها بالله تعالى، وكذلك أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}. [34].
كما ذكر الله تعالى أن من صفات عباده المؤمنين الإكثار من ذكره الذي أمرهم به، فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ}. [35]. لأن الذي يكثر من ذكر الله ـ بلسانه وقلبه ـ ويفقه معاني أسمائه وصفاته، الغالب أن يداوم على طاعته فيفوز برضاه، بخلاف من رددها بلسانه وقلبه لاهٍ، فإنه لا يحوز المقصد الذي أراده الله من ذكره بأسمائه الحسنى، وإن كان يرجى له مع تكرارها أن ينال بركتها فيحاول التفقه في معانيها والتعبد المطلوب بها.
ومن هنا كان المكثر من الصلة بأسماء الله ـ حفظاً وعلماً وتعبداً ـ جديراً بوعد الله له بالجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)). [البخاري (3/185)، ومسلم (4/262)].
وما ذلك إلا للتأثير الرباني الذي تحدثه معاني تلك الأسماء في حياة محصيها المتعبد لربه بها؛ لأنها زكته فأكثر من طاعة مولاه وازداد من شكره على ما أنعم عليه من التوفيق، وابتعد عن معاصيه، فهو دائماً مع ربه تراه في كل ميدان من ميادين الطاعة فإذا فتشت عنه في ميادين أهل الفسق والفجور لم تجد له أثراً إنه من أهل الله وفي ركب عباده الصالحين: {ومَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}. [37].
إن المؤمن بأسماء الله وصفاته المتعبد بها، ـ ومنها علم الله المحيط بكل شيء وقدرته الشاملة التي لا يشذ عنها شيء ـ لا بد أن تحدث في قلبه تلك الرقابة التي يسميها العلماء: (الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم) والتي لا تفارقه، فإذا وسوست له نفسه بفعل ما هو فساد، أو ترك ما هو صلاح أو وسوس له الشيطان بذلك، ذكره ذلك الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، بالعليم القدير الرقيب فتفتحت بصيرته، ورجع إلى ربه، وجعل الشيطان يولي خاسراً خزيان، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. [38].
تأمل ذكر اسميه تعالى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بعد أمر الله من أصابه نزغ من الشيطان بالاستعاذة به تعالى من نزغه، وتأمل قوله: {تَذَكَّرُوا} بعد قوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ}، ماذا يتذكرون إلا واعظ الله في قلوبهم من أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلا التي امتلأت بها قلوبهم حباً لله وولاءً وتقرباً إليه لنيل رضاه، ومهابةً، وإجلالاً، وخوفاً منه وهرباً من سخطه وعقابه؟!
ثم تأمل ثمرة الاستعاذة بالله السميع العليم في قول تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وما هو إبصارهم إلا رجوعهم إلى ربهم والسير في صراطه المستقيم الذي توجههم إليه أسماء الله وصفاته، وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمم في هذه الحياة.
وبهذا يعلم أن الإيمان بربوبية الله وخلقه وتدبيره، والإيمان بأنه الإله المعبود الحق وحده، والإيمان بأسمائه وصفاته والتعبد بها مع فقه ما آمن به، إن ذلك كله هو قاعدة قواعد الإسلام وأساس صلاح العالم، وكل فساد يحدث في الأرض، فسببه ما يحدث من خلل في تربية النفوس وتزكيتها على أساس تلك القاعدة.
وقد قال ابن القيم، رحمه الله عن هذا المطلب العظيم ـ الإيمان بأسماء الله وصفاته والتعبد بها ـ: "وهو باب المحبين حقاً لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كل ما بدا له منه علم ازداد شوقاً ومحبة وظمأ.. ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره ـ فضلاً أن يوفاه حقه ـ، فأعرف خلقه به وأحبهم له، صلى الله عليه وسلم: يقول: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)). ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم، فلو شاهدوه، ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه، لكان لهم في حبه شأن آخر وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به.." . [39].
قلت: ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله المتعبد بها لربه، جديراً بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، ـ مائة إلا واحداً ـ من أحصاها دخل الجنة)). [البخاري: (3/185) ومسلم (4/262)]. وفي رواية: ((من حفظها)).
وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه؛ لأنها زكته بألفاظها التي ذكره بها وبمعانيها التي تدبرها وعمل بمقتضاها، فأكثر من طاعة الله وشكره على نعمه وابتعد عن معاصيه، فلم يترك صلاحاً يقدر على فعله إلا أتاه، ولم ير فساداً إلا تجنبه وأباه.
7 ـ التدريس الفِرَقِي لأسماء الله وصفاته لا يحقق التزكية الربانية بها:
وهنا لابد من التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن الواجب على العلماء الذين يقومون بتدريس الإيمان (العقيدة)، وبخاصة أسماء الله وصفاته، أن يجعلوا جُلَّ اهتمامهم تزكية طلابهم بمعاني هذه الأسماء والصفات، بحيث يغرسون تلك المعاني في نفوسهم، ويفقهونهم فيها، تزكيةً وتفقيهاً يحدثان في حياتهم آثار تلك المعاني، من محبة الله وطاعته والطمع في ثوابه، ومن إجلاله وجبروته وعظمته والهيبة منه وخشيته والبعد عن معاصيه وتوقي عقابه.
ولا ينبغي أن يكون الهدف الأول من تدريس أسماء الله وصفاته، ذكر اختلاف الفرق فيها والمقارنة بين ذلك الاختلاف، من إثبات ونفي، وتأويل وتحريف. فالأصل في التعرف على الله بأسمائه وصفاته أن يتعبد المتعرفُ ربه بهذه الأسماء والصفات، ويملأ قلبه بمعانيها ويهتدي بها ليكون صالحاً مصلحاً في الأرض، محارباً للفساد والإفساد.
أما ذكر مذاهب الفرق في أسماء الله وصفاته فذلك أمر طارئ لا ينبغي أن يكون هو الأساس في تدريسها؛ لأنه لا يؤدي إلى المقصود من العلم بها والتعرف عليها وهو التعبد بها الذي أمر الله عباده به، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
فعلى من يريد التصدي لتدريس طلابه أسماء الله وصفاته، أن يهتم هو أولاً فيتفقه فيها ويعلم المقصود من التعرف عليها، ويزكي نفسه بمعانيها، حتى تحدث فيه الأثر الذي أراد الله أن تحدثه في النفوس، وبذلك يكون معلماً ومزكياً ربانياً وقدوةً حسنة يؤثر في طلابه بسلوكه قبل التأثير فيهم بتدريسه، ثم ينقل تلك المعاني التي أثَّرت فيه إلى طلابه بادئ ذي بدء، ولا يتعرض لمذاهب الفرق فيها إلا بعد أن يشعر بأنه قد غرس تلك المعاني في نفوسهم، وفقههم فيها تفقيها قرآنياً نبوياً، وليس تفقيها فِرَقِيّاً، فالعلم بها، والإيمان بمقتضاها، والتعبد بها، هو المقصود الأول من دراستها.
ثم يأتي بعد ذلك التنبيه على ما وقع من انحراف في منهج بعض الفرق في أسماء الله وصفاته، فيبين الحق من الباطل بأدلته، حتى يكون الدارس على علم بزلل تلك الفرق وانحرافها، سواء أكان ذلك تشبيهاً، أو تحريفاً، أو تأويلاً، مع بيان الأسباب التي أوجدت تلك الانحرافات، والحجج الدامغة لها.
وإن الطالب الذي يتبع في تدريسه هذا المنهج الرباني للأسماء والصفات، لجدير أن يرفض كل انحراف فِرَقِيٍّ فيها، لما وقر في نفسه وقلبه من معانيها العظيمة، ولما أحدثته في حياته من استقامة على صراط الله المستقيم. وتنبيهه بعد ذلك على تلك الانحرافات ما هو إلا تزويده بالحجج والبراهين التي تدحض تلك الانحرافات وشبه أهلها.
أما ما يسير عليه الآن كثير من مدرسي أصول الإيمان (العقيدة) من الاهتمام أولاً بمذاهب الفرق في الأسماء والصفات، وعدم اتباع المنهج الرباني الذي سلكه القرآن الكريم وسار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون من علماء السلف الصالح، من التزكية الإيمانية بالأسماء والصفات والتعبد بها، فهو منهج فرقي جاف مخالف لذلك المنهج الرباني و ينبغي إعادة النظر فيه، ووضعه في مكانه اللائق به، كما مضى.
وبهذا نعلم السبب وراء الجفاف الروحي الذي يتصف به كثير من الطلاب الدارسين للأسماء والصفات على المنهج الفرقي الجاف، فهو منهج يفقد صاحبه التزكية الربانية التي أراد الباري سبحانه من عباده بلوغها من التعبد له بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا.


1 - الشورى: 11
2 - الشورى 11
3 - طه:110
4 - راجع رسالة شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "منهج دراسة الأسماء والصفات"
5 - الإسراء: 110
6 - الأعراف: 180
7 - البقرة: 143
8 - راجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير
9 - البقرة: 173
10 - سورة البقرة:191 ـ 192، وراجع المصدر المذكور في الحاشية السابقة
11 - النساء: 29
12 - النساء: 64
13 - الأحزاب: 24
14 - الحشر: 22 ـ 24
15 - الجاثية:35 ـ 37
16 - البقرة: 209
17 - الحج: 40
18 - الحج: 74
19 - القمر:.42
20 - الحديد: 25
21 - إبراهيم:47
22 - البقرة:255
23 - الحج: 62
24 - النساء:34
25 - النساء: 58
26 - النساء: 135
27 - آل عمران: 5
28 - البقرة: 76-77
29 - آل عمران: 29 ـ 30
30 - مسلم (1/37)
31 - آل عمران:47
32 - فصلت: 19 ـ 23
33 - النور: 24
34 - الأحزاب: 41
35 - الأحزاب: 35
36 - البخاري (3/185)، ومسلم (4/262)
37 - النساء: 69
38 - الأعراف 200 ـ 201
39 - طريق الهجرتين وباب السعادتين: 561 ـ 562، طبع قطر
40 - البخاري: (3/185) ومسلم (4/262)



السابق

الفهرس

التالي


16123768

عداد الصفحات العام

2383

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م