﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


المبحث الثاني: فساد الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد في الأرض:

المبحث الثاني: فساد الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد في الأرض:
1 ـ لا يلزم من الإيمان بالقدر رضا الله بكل أفعال المخلوقين.
2 ـ الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد في الأرض من سنن المشركين.
3 ـ ما الذي يجب على المؤمن الصبر عليه مما قدره الله وقضاه؟
4 ـ واقع الحياة يتفق مع ما دلت عليه النصوص.
5 ـ آثار الإيمان بالقدر على الوجه السابق ونماذج لذلك:
( أ ) الجد في العمل.
(ب) التواضع.
(ج ) الاطمئنان والرضا.
6 ـ آثار عدم الإيمان بالقدر على الوجه السابق ونماذج لذلك.

1 ـ لا يلزم من الإيمان بالقدر رضا الله بكل أفعال المخلوقين:
لا يلزم من الإيمان بأن الله تعالى هو الذي يقدر الأمور كلها، رضاه سبحانه بكل ما يفعل المخلوق، مما يخالف أمره ونهيه، كما لا يلزم منه رضا المخلوق بكل مقضي مقدر، صلاحاً كان أم فساداً؛ لأن لله تعالى إرادتين: إرادة كونية عامة، وهي الإرادة المقتضية وجود المراد، وقد دل عليها مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . [يس: 82].
وإرادة شرعية خاصة ـ وهي بمعنى المحبة ـ ودل عليها مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} . [النساء: 27].
فالله تعالى يريد الأعمال الصالحة، أي يحبها ويأمر بها ويثيب عليها ـ مثل التوبة عن المعاصي ـ ولكنه لا يريد، أي لا يحب، الميل عن طاعته إلى معصيته، واتباع الشهوات المنكرة التي يريدها الشيطان وأتباعه، وهذا واضح جداً في الإرادتين المذكورتين في هذه الآية، فالله يريد التوبة، ولا يريد اتباع الشهوات والميل إلى المعاصي، والشيطان وأتباعه يريدون اتباع الشهوات والميل عن الطاعة إلى المعصية، وهذا ما فهمه علماء الإسلام الذين رزقهم الله الفقه في دينه، فلم يكونوا يخلطون بين الإرادتين، ولم يحتجوا بالقدر ـ المتضمن للإرادة الكونية العامة ـ على رضا الله بالمعاصي والفساد في الأرض.
2 ـ الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد في الأرض من سنن المشركين:
والذين فهموا خلاف هذا الفهم، فظنوا أن تقدير الله الكوني دليل على رضاه بالفساد في الأرض هم المشركون الذين قال الله عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، فرد الله عليهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} . [الأنعام 148].
فمن فهم من قدر الله أن العبد غير مسؤول عما يعمله؛ لأن الله هو الذي قدر عليه عمله وأن تقديره لذلك العمل دليل على رضاه تعالى به، وأن العبد يجب أن يرضى به، ولو كان مخالفاً لشرعه، فقد سلك سبيل المشركين الذين أنكر الله عليهم ما زعموه واتبع سننهم، كما هو واضح من آية الأنعام السالفة الذكر.
فالإسلام بريء من فهم المتكلين على القدر احتجاجاً به على ترك العمل، أو الزعم بأن الله يرضى بفعل المعاصي؛ لأنه هو الذي قدرها عليهم.
3 ـ ما الذي يجب على المؤمن الصبر عليه مما قدره الله وقضاه؟
ومن هنا نعلم أن المقضي المقدر الذي يجب الصبر عليه بعد وقوعه ويشرع الرضا به، هو المصائب التي يبتلي الله بها عباده، من فقر ومرض وموت قريب ونزول وباء، وقحط وجوائح، وزلازل وبراكين وفيضانات، وما شابه ذلك من الكوارث النازلة في الأنفس والأموال والأهل..
وقد ورد ذلك في نصوص القرآن والسنة، ومن أوضح الآيات قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} . [البقرة:155 ـ 157].
فقول المؤمنين عندما يصابون بمصيبة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} علامة واضحة على صبرهم الذي أوجبه الله عليهم بما قدر الله عليهم، لتأكيدهم بأنهم هم وكل ما لهم به صلة له تعالى؛ أي عبيده وملكه يتصرف فيهم بما يشاء، وأنهم راجعون إليه بعد هذه الحياة فيجزيهم بما قدموا فيها من عمل صالح، ومنه الصبر على الابتلاء، وخير الصابرين على ما قدره الله عليهم من مصائب، من رزقه الله الرضا بذلك.
ومن الأحاديث، ما رواه صهيب، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)) . [الحديث في صحيح مسلم، وهو في جامع الأصول (9/369)].
ويجب الرضا بما شرعه الله وأمر به، أما الذنوب والمعاصي فإن الواجب على العبد أن يبغضها في كل حال من الأحوال، وأن يجتهد في البعد عنها وعدم ارتكابها قبل وقوعها، ولا يجوز له الرضا بها مطلقاً، سواء أكانت منه أو من غيره، فإذا وقعت منه وجب عليه التوبة منها، ومن شروط التوبة الندم على فعل المعصية.
قال ابن تيمية، رحمه الله: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مَقْضِيٍّ مقدر، من أفعال العباد، حسنها وسيئها، فهذا أصل يجب أن يعتنى به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . [التوبة: 59].
وذكر الرسول ـ هنا ـ يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي، لا الكوني القدري، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً)) . [مسلم (1/62)].
وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب، التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر، أو مرض أو ذل، وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا فهو مشروع، ولكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين، لأصحاب أحمد وغيرهم، أصحهما أنه مستحب" . [مجموع الفتاوى (8/190)، و(10/158)، و(11/257). وراجع طريق الهجرتين، لابن القيم، ص: 152 طبع قطر].
فالواجب على المؤمن أن يعتقد أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن مشيئة الله العامة ـ وهي الكونية القدرية ـ هي سر الله الذي لا نعلم عن مقدوره شيئاً إلا بعد وقوعه. وأن يقوم بما أمره الله به فعلاً، وما نهاه عنه تركاً، ولا يجوز له أن يحتج بالقدر على مخالفة أمر الله ونهيه، وأن الله تعالى لا يأمر العبد، ولا ينهاه عن شيء، إلا إذا كان قادراً على فعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه، وأن الله سبحانه رضي لعباده الإسلام والإيمان والطاعة، وكره لهم الكفر والفسوق والعصيان، وأن على العبد أن يحب ما يحبه الله، وأن يبغض ما يبغضه الله، وأن يسعى لتحقيق ما أمره الله به أو نهاه عنه، وأنه لا يجوز له أن يتكل على ما كُتب وقُدِّر في علم الله المكنون، ولو جاز هذا الاتكال وشُرِع لما صح أن يطلب من أحد عمل شيء في حياته، لا للدنيا، ولا للآخرة..
4 ـ واقع الحياة يتفق مع ما دلت عليه النصوص:
وقد قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لمن قال له: أفراراً من قدر الله؟: ((نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟" . [البخاري (7/21)، ومسلم (4/1740)، وراجع كتابنا الشورى: ص 64].
لقد ألزم عمر، رضي الله عنه السائل بما يتعاطاه الناس في حياتهم، من تحري مواطن المصالح والمنافع والسعي الجاد في الحصول على تلك المصالح والمنافع منها، ومن البعد عن المواطن التي لا يرجى منها الحصول على منافع، وهذا المعنى لا يخلو منه عمل أحد يومياً، فلو استحضره السائل وغيره لكان كافياً له في هذا الباب.
إن ما وردت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، في شأن القدر تدل على أنه لا يكون شيء إلا بإذن الله وقدره، سواء كان خيراً أم شراً، وأن تعاطي الأسباب مشروع في أمور المعاش والمعاد، ولكنها لا تقتضي حتمية ترتب مسبباتها عليها بدون مشيئة الله، وأنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر، فيقعد عما يجب عليه عمله، أو يتعاطى ما لا يجوز له تعاطيه احتجاجاً بأن الله قدره عليه، كما يدل على هذه المعاني الواقع الذي نراه في حياة الناس وأعمالهم التي لا تحصى كثرة.
فنحن نشاهد مريضين بمرض واحد، وصحتهما وأعمارهما متقاربة أو متماثلة، يذهبان إلى طبيب واحد، فيهتم بمعالجتهما اهتماماً متساوياً، فيشفى أحدهما ولا يشفى الآخر، أو يشفى أحدهما في وقت قصير ولا يشفى الآخر إلا بعد زمن طويل، وقد يشفى أحدهما ويموت الآخر..
ونرى تاجرين يملكان بضاعة من صنف واحد ذات جودة واحدة في متجرين متجاورين ولا يوجد بينهما فرق واضح يرجح نجاح أحدهما على الآخر، فيربح أحدهما أكثر من صاحبه وقد يربح هذا ويخسر ذاك..
ونرى آخرين يجتهد كل منهما في الحصول على مال، وكلاهما فقير فيصير أحدهما غنياً ويبقى صاحبه على فقره، وقد يفتقر الغني ويغنى الفقير، ونرى هذا يسعى للحصول على رزقه فيرزقه الله، ويقعد ذاك عن السعي فيبيت جائعاً، ونشاهد آخر يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، ونرى عددا من الناس تغرق بهم السفينة في البحر فينجو بعضهم ويهلك الآخرون..
وهكذا آلاف الحوادث تقع في الأرض تدل دلالة لا تقبل الشك أن وراءها تقديراً من القادر على كل شيء، وأنه لا بد من تعاطي الأسباب للحصول عل النتائج المتوقع ترتبها على تلك الأسباب غالباً ولكن تلك النتائج ليست حتمية، وهذا كله يدل على تلك المعاني التي جاءت في الكتاب والسنة، في موضوع القدر.
5 ـ آثار الإيمان بالقدر على الوجه السابق ونماذج لذلك:
الإيمان بالقدر على الوجه السابق يحدث في حياة المؤمن آثاراً مهمة، أهمها:
( أ ) الجد في العمل وعدم الاتكال على ما سبق به القلم: وقد سبق الكلام عليه.
(ب) التواضع، والبعد عن الغرور:
إن الذي يؤمن بقدرة الله التامة على كل شيء، لا بد أن يتصف دائماً بصفة التواضع والخضوع لربه وأن يقدره حق قدره سبحانه، ويبتعد عن الكبرياء والغرور، ومحبة إطراء النفس ونسبة الكمال إليها، سواء كان هذا الإطراء صادراً منه، أو من غيره؛ لأنه يعلم أن أعماله كلها ليست مستقلة بالنتائج المترتبة عليها، وإنما هي مرتبطة بمشيئة الله تعالى، وأنه هو نفسه لولا فضل الله عليه لما وجد على ظهر الأرض، وأن قواه العقلية والبدنية، هو سبحانه الذي أوجدها له ابتداء، وهو الذي أنعم عليه بدوامها، ولو شاء لسلبها منه كلها أو بعضها.
وهذه هي سمة أنبياء الله ورسله، وسمة عباده الصالحين الذين قدروا الله حق قدره، ونشير ـ هنا ـ إلى نماذج منها:
الأنموذج الأول: نبي الله يوسف عليه السلام:
الذي، اُبتلي بالعدوان عليه من إخوانه في صغره بفراق أبيه وأسرته، وابتُلي بالاسترقاق والبيع والشراء، وهو ابن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وابتُلي بالغربة والبعد عن وطنه، وابتُلي بإغراء ربات القصور والمْلُْك بارتكاب الفواحش، فعصمه الله ثم ابتلي بالتهديد والاتهام بما هو منه براء، فلطف الله به، فلقد أنزل الله تعالى حب يوسف في قلب عزيز مصر فوصى امرأته بإكرامه، فأكرمته، وظنت أنها بإكرامها له ـ وهي سيدة القصر ويوسف شاب غريب الدار رقيق ـ سيكون طوع بنانها، سعيداً بالاستجابة لتحقيق رغبتها العارمة لتمكنه من نفسها، رداً للجميل والإكرام..
ولكن يوسف المؤمن بقدر الله أبى أن يستجيب لإغرائها وأضاف ذلك الإكرام إلى الله الذي استعاذ به من الوقوع في حبائل سيدات القصور، وليس إلى أمر عزيز مصر بإكرامه الذي لم يأت إلا بقدر الله ولطفه به، كما قال الله تعالى في ذلك: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ـ إلى قوله تعالى ـ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . [يوسف: 21، 23، وهذا على القول بأن الضمير في {إِنَّهُ} يعود إلى لفظ الجلالة في قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} وهو الظاهر؛ لأن الله تعالى هو الذي سخر ليوسف كل سبل الخير التي أحاطه بها في مسيرة ابتلائه من وقت عزم إخوته على قتله إلى أن جمع الله بينه وبين أسرته، وقال في سياق إظهار شكره لربه على ذلك كله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وقد ذكر المفسرون هذا الاحتمال في مرجع الضمير عند تفسير الآية، ورجح ذلك ابن حيان في "البحر المحيط (5/294) فقال: "والضمير في{ إِنَّهُ} الأصح أنه يعود على الله تعالى، أي أن الله ربي أحسن مثواي، إذ نجاني من الجب وأقامني في أحسن مقام...".. ويرى كثير من المفسرين أن الضمير للشأن، وأن المراد به زوج المرأة الذي أمر بإكرام مثواه].
ثم ابتلي بالسجن فترة من الزمن ثم ختم ذلك الابتلاء بالعز والتمكين والملك، ونعمة انضمام أسرته إليه وهو في تلك الحال العظيمة، فما كان منه إلا أن يحمد ربه، ويناديه نداء العبد المعترف له بفضله عليه ونعمته، مسندا ذلك كله إليه شاكرا له عليه، كما قال تعالى عنه:{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. [يوسف:100 ـ 101].
الأنموذج الثاني: نبي الله سليمان عليه السلام:
الذي آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحداً من العالمين، آتاه هو وأباه العلم، وعلمه منطق الطير، وجعل جنوده من الجن والإنس والطير، وسخر له الريح التي كان غدوها شهراً، ورواحها شهراً، فاعترف لربه بالفضل والنعمة، وطلب منه أن يوفقه لشكره على ما أنعم عليه وتفضل..
قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}. [النمل: 15 ـ 19].
وقال عندما أحضر له عرش ملكة سبأ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. [النمل: 40].
الأنموذج الثالث: قصة ثالث الثلاثة المبتلين:
أي الذين ابتلاهم الله تعالى بالنعم بعد النقم، فشكر هو النعمة، وكفرها صاحباه؛ ((فقد كان أعمى، فرد الله عليه بصره، ورزقه وادياً من الغنم، فجاءه الملك في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله ما أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل. فقال: أمسك مالك، إنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)). [الحديث رواه أبو هريرة، عن الرسول صلى الله عليه وسله، وهو متفق عليه، (رياض الصالحين رقم 65 ص: 43)].
(ج ) ـ الاطمئنان والرضا:
والمؤمن بالقدر على الوجه السابق يمنحه الله الرضا والطمأنينة، والصبر والثبات، ويدفع عنه الضجر والتسخط، والقلق والاضطراب؛ لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله يبتليه بالنعماء ليشكر، ويبتليه بالضراء ليصبر، وأن ذلك كله له خير، فلا يضيع وقته في الفرح والبطر بالنعماء، ولا يتعب نفسه بالندم والحزن والتحسر على ما فاته في الماضي من مال أو ولد أو جاه أو منصب، ولا يستسلم للغم بسبب المصائب والنكبات النازلة به في الحاضر، ولا للهم لما يتوقع أن يصيبه في مستقبل الزمان.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ}. [البقرة: 155-157].
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. [الحديد: 22 ـ 23].
وسبق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)). [7].
ولا يقدر نعمة الرضا والطمأنينة إلا من فقدهما فظل يكابد الشقاء والقلق، وأصيب بالأمراض النفسية، وفضَّل الموت بإزهاق روحه منتحراً على الحياة، كما هو واقع كثير من الناس اليوم، وإن الذي يقارن بين حياة المسلمين اليوم ـ مع بعد كثير منهم عن التمسك بالإسلام ـ وبين غيرهم يجد فرقاً كبيراً في هذا المجال، مع أن ما ينزل بالمسلمين من المحن والفقر والحرمان والعدوان من أعدائهم أشد مما ينزل بغيرهم، وهم أشد صبراً وأقل قلقاً، ونسبة الانتحار فيهم ليست شيئاً يذكر بجانب ما يحصل عند غيرهم.
وإن ذلك لمصداق لقول الله تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}. [طه: 123 ـ 124].
6 ـ آثار عدم الإيمان بالقدر على الوجه السابق ونماذج لذلك:
وعلى عكس ذلك يصاب الذي لا يؤمن بقدر الله بالغرور والكبرياء، ويظن أنه هو صاحب الفضل على نفسه وعلى غيره، وليس الله القادر على كل شيء، وهذا زعم فاسد وغرور كاذب مقيت، كثيراً ما يري الله صاحبه عاقبة غروره وكبريائه، ويجعله عبرة لغيره.
ومما ذكر في القرآن الكريم ثلاث قصص، فيها عبرة لمن اعتبر:
النموذج الأول: قصة صاحب الجنتين:
الذي أنساه كبره مشيئة ربه، وجعله يفتخر على غيره بما رزقه الله من مال وولد، ويزعم أنه جدير بهما، وبتلك الجدارة استحقهما، ولا يمكن أن يسلبهما، قال تعالى عنه وعن مُحَاوره الذي حاول تذكيره بالمنعم عليه بخلقه، وبما أنعم الله عليه من المال والولد، فلم تنفعه الذكرى، فندم ولات ساعة مندم..
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}. [الكهف: 32 ـ 44].
النموذج الثاني : قصة قارون:
الذي بغى على نبي الله موسى عليه السلام وقومه، ناسياً فضل الله عليه، ناسباً ما أنعم الله به عليه إلى كفاءته وخبرته، متباهياً بذلك على الناس، فتمنى من غرتهم الحياة الدنيا أن يكون لهم مثله، ونصحه عباد الله الذين يقدرون الله حق قدره بالتواضع لله وشكر المنعم عليه بتلك النعم التي أبطرته، فلم تنفعه الذكرى، ونصحوا كذلك من اغتروا بغناه وكبريائه، فكانت عاقبته ما ذكر الله عنه..
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. [القصص: 76 ـ 82].
تأمل قول الله تعالى فيه: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} وقوله في صاحب الجنتين: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً}، الدالين على أن المتكبر الذي لا يقدر الله حق قدره لا ينصر نفسه ولا يجد من ينصره من دون الله، أي لا يمنعه أحد من عقاب الله له.
النموذج الثالث : قصة فرعون:
وقد وردت بأساليب متنوعة في القرآن الكريم، يكفي أن أذكر منها بعض الآيات المناسبة للمقام في موضعين:
الموضع الأول: قول الله تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}. [القصص: 38 ـ 40].
الموضع الثاني: قول الله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ}. [الزخرف: 51-56، وهكذا تجد من ينسى قدرة الخالق سبحانه، يتكبر ويتعالى في الأرض، وينسب ما آتاه الله إلى قدرته هو وعلمه وخبرته، وتكون نهايته هي نهاية فرعون وقارون وصاحب الجنتين، ولقد بلغت الكبرياء والغرور ونسيان الخالق سبحانه في هذا العصر الذروة، ممن ابتلاهم الله تعالى باستعمال عقولهم التي أنعم بها عليهم واستغلال خيرات الأرض والسماء، والاستمتاع بها في الأرض، مسكناً ومركباً، ومأكلاً ومشرباً، واختراعات متنوعة مكنتهم من تقريب الزمان والمكان، انتقالاً، وصوتاً، ورؤية، وأكسبتهم قدرة على جمع المال، وقوة السلاح، وغير ذلك مما يصعب تعداده، فاغتروا بذلك أيما غرور، وكفروا نعمة الله، قولاً واعتقاداً وعملاً، فتسمع كثيراً منهم يقولون: قهرنا الطبيعة وحققنا المعجزات، وأنكر كثير منهم وجود الله، وقدرته، ووصفوا الدين الذي يوجههم إلى صراط الله بأنه أفيون الشعوب، واستكبروا في الأرض فعاثوا فساداً وأهلكوا الحرث والنسل، ونشروا الظلم، وقد حق عليهم عذاب الله في الدنيا فأنزل بهم بأسه ففرق جمعهم وشتت شملهم وجعلهم شيعاً وأحزاباً ولا يزالون في تشتت وتمزق، كما حصل ذلك فيما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وسينزل الله بأعدائه الظالمين الذين لا يزالون يجاهرون بعلوهم وفسادهم في الأرض، وينصرون الظالم على المظلوم، كنصر اليهود والهندوس والنصارى على المسلين، في فلسطين، والهند، والفلبين والبوسنة والهرسك، وغيرها.. ولقد بدأت بوادر نقمة الله تظهر في أقوى دولة مادية، على يد أبنائها، ومن ذلك حادث أوكلاهوما، وحوادث العنف في لوس إنجلوس، وغيرهما إضافة إلى التفسخ الأخلاقي والتمزق الاجتماعي والتدني الاقتصادي والأمراض النفسية والجسدية، وسنة الله تأبى العلو والفساد في الأرض ولكن الله يمهل ولا يهمل ولايغترن أحد بالطول النسبي لعمر الدول، فهي تصاب بالأمراض والهرم والشيخوخة والموت كالأفراد.. {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آل عمران:196 ـ 197].
هذا، ويحسن ـ هنا ـ نقل جمل تناسب المقام، لابن القيم رحمه الله، في وصف فقر العبد الذاتي المطلق، وحاجته المطلقة إلى الله، وفي غنى الله الذاتي المطلق وتفضله على العبد بكل نعمة، ثم وصف حال من نسي فضل الله عليه، فاغتر بما آتاه الله وتكبر..
قال رحمه الله: "فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرفه بالقدرة التامة، عرف نفسه بالعجز التام ـ إلى أن قال ـ: بل لم يزل عبداً فقيراً إلى بارئه وفاطره، فلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه وحركه، مكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، حفر [9]. الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أن له نصيبا من الملك، وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج.." . [طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:13 ـ 14). طبع قطر].


1 - الحديث في صحيح مسلم، وهو في جامع الأصول (9/369)
2 - مسلم (1/62)
3 - مجموع الفتاوى (8/190)، و(10/158)، و(11/257). وراجع طريق الهجرتين، لابن القيم، ص: 152 طبع قطر
4 - البخاري (7/21)، ومسلم (4/1740)، وراجع كتابنا الشورى: ص 64
5 - يوسف: 21، 23، وهذا على القول بأن الضمير في {إِنَّهُ} يعود إلى لفظ الجلالة في قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} وهو الظاهر؛ لأن الله تعالى هو الذي سخر ليوسف كل سبل الخير التي أحاطه بها في مسيرة ابتلائه من وقت عزم إخوته على قتله إلى أن جمع الله بينه وبين أسرته، وقال في سياق إظهار شكره لربه على ذلك كله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وقد ذكر المفسرون هذا الاحتمال في مرجع الضمير عند تفسير الآية، ورجح ذلك ابن حيان في "البحر المحيط (5/294) فقال: "والضمير في{ إِنَّهُ} الأصح أنه يعود على الله تعالى، أي أن الله ربي أحسن مثواي، إذ نجاني من الجب وأقامني في أحسن مقام...".. ويرى كثير من المفسرين أن الضمير للشأن، وأن المراد به زوج المرأة الذي أمر بإكرام مثواه
6 - الحديث رواه أبو هريرة، عن الرسول صلى الله عليه وسله، وهو متفق عليه، (رياض الصالحين رقم 65 ص: 43)
7 - سبق تخريج الحديث
8 - الزخرف: 51-56، وهكذا تجد من ينسى قدرة الخالق سبحانه، يتكبر ويتعالى في الأرض، وينسب ما آتاه الله إلى قدرته هو وعلمه وخبرته، وتكون نهايته هي نهاية فرعون وقارون وصاحب الجنتين، ولقد بلغت الكبرياء والغرور ونسيان الخالق سبحانه في هذا العصر الذروة، ممن ابتلاهم الله تعالى باستعمال عقولهم التي أنعم بها عليهم واستغلال خيرات الأرض والسماء، والاستمتاع بها في الأرض، مسكناً ومركباً، ومأكلاً ومشرباً، واختراعات متنوعة مكنتهم من تقريب الزمان والمكان، انتقالاً، وصوتاً، ورؤية، وأكسبتهم قدرة على جمع المال، وقوة السلاح، وغير ذلك مما يصعب تعداده، فاغتروا بذلك أيما غرور، وكفروا نعمة الله، قولاً واعتقاداً وعملاً، فتسمع كثيراً منهم يقولون: قهرنا الطبيعة وحققنا المعجزات، وأنكر كثير منهم وجود الله، وقدرته، ووصفوا الدين الذي يوجههم إلى صراط الله بأنه أفيون الشعوب، واستكبروا في الأرض فعاثوا فساداً وأهلكوا الحرث والنسل، ونشروا الظلم، وقد حق عليهم عذاب الله في الدنيا فأنزل بهم بأسه ففرق جمعهم وشتت شملهم وجعلهم شيعاً وأحزاباً ولا يزالون في تشتت وتمزق، كما حصل ذلك فيما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وسينزل الله بأعدائه الظالمين الذين لا يزالون يجاهرون بعلوهم وفسادهم في الأرض، وينصرون الظالم على المظلوم، كنصر اليهود والهندوس والنصارى على المسلين، في فلسطين، والهند، والفلبين والبوسنة والهرسك، وغيرها.. ولقد بدأت بوادر نقمة الله تظهر في أقوى دولة مادية، على يد أبنائها، ومن ذلك حادث أوكلاهوما، وحوادث العنف في لوس إنجلوس، وغيرهما إضافة إلى التفسخ الأخلاقي والتمزق الاجتماعي والتدني الاقتصادي والأمراض النفسية والجسدية، وسنة الله تأبى العلو والفساد في الأرض ولكن الله يمهل ولا يهمل ولايغترن أحد بالطول النسبي لعمر الدول، فهي تصاب بالأمراض والهرم والشيخوخة والموت كالأفراد.. {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آل عمران:196 ـ 197
9 - هكذا، ولعله: وأجرى له..
10 - طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:13 ـ 14). طبع قطر



السابق

الفهرس

التالي


16123507

عداد الصفحات العام

2122

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م