﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


أهمية الموضوع.

أهمية الموضوع.
(1) عزوف الناس عن المبادئ التي لا يحملها رجال أكفياء والعكس:
إن أي مبدأ من المبادئ، إذا لم يكن له وجود عملي بحمل رجال أكفياء له على أكتافهم، لا يقدره الناس حق قدره، بل يعزفون عنه ويزهدون فيه، مهما كان ذلك المبدأ مفيداً وصحيحاً؛ لأن أغلب الناس لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتنقيب عن فائدة المبادئ وصحتها وإمكان تطبيقها والعمل بها، وجني ثمار ذلك التطبيق المفيد.
ولكنْ كثيراً من الناس إذا رأوا مبدأً له رجال يحملونه عملاً ويشرحونه تطبيقاً، ويرون أثره في حياتهم وسلوكهم، اهتموا بذلك المبدأ ودرسوا قواعده وقوانينه وتبينوا أهدافه وآثاره في الحياة، ثم منهم من يقتنع به وينتظم في سلك أهله ودعاته، ومنهم من يتركه ويحجم عنه لضعف نفسه واتباع هواه ـ إن كان ذلك المبدأ حقاً ـ ولكنه قد يسالم أهله ولا يحاربهم لما رأى من صلاح المبدأ وأثره الطيب في حياتهم، وقد يعارضهم عناداً واستكباراً عن الحق مع هزيمة منكرة في أعماق نفسه، لقوة برهان المبدأ وآثار تطبيقه المشاهدة في حياة الذين حملوه وطبقوه ودافعوا عنه ورفعوا رايته. [1].
والإسلام ـ وهو وحده الدين الحق في الأرض اليوم ـ عندما بعث به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ودعا قومه للدخول فيه، وأقام عليهم به الحجة، آمن به منهم نفر قليل ـ مع ابتلاء من قومهم وأذى ـ ووقفت الكثرة منهم محاربين معاندين، حتى اضطر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، إلى الهجرة من ديارهم في مكة التي هي أحب بقاع الأرض إليهم، لما لاقوا من أذى قومهم، وليتمكنوا من تطبيق دينهم في مكان تقوى فيه شوكتهم وينصرون فيه هذا الدين، فكانت هذه المدينة الطيبة المباركة، هي ذلك المكان المنشود، الذي بدأت آيات القرآن الكريم المتضمنة لتفاصيل شرع الله تتنزل فيه من عند الله رويداً رويداً.
فتسابق إلى الدخول في هذا الدين أهل المدينة من أنصار الله ورسوله، وأخذوا يطبقونه في حياتهم، ويبلغونه إلى الناس، قدوةً وتعليماً ودعوةً وجهاداً، حتى نصرهم الله على أعدائهم، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وفي طليعتهم زعماء قريش الذين حاربوا الله ورسوله بادئ ذي بدء، فانتشر بعد ذلك الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية، ثم انتشر بعده في مشارق الأرض ومغاربها، حتى طبق المعمورة في فترة قصيرة من الزمن من بلاد الصين شرقاً إلى بحر الظلمات ـ المحيط الأطلسي ـ غرباً، ومن اليمن جنوباً إلى أواسط أوروباً شمالاً.
(2) الأمة الإسلامية شاهدة على من سواها من الأمم ولا شهادة بدون قدوة حسنة:
كانت القدوة الحسنة التي يراها الناس في حياة المسلمين الفاتحين، من العدل والرحمة والإحسان والتواضع، من أهم أسباب دخول الناس في هذا الدين، وما كان جند الله من المسلمين، يؤدبون بالسيف إلا الطواغيت الجبارين الظلمة الذين تسلطوا على رقاب الناس، وقهروا شعوبهم وقادوها إلى أسوأ المصائر، وحالوا بينها وبين دين الله الذي أراد أن يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية المذلة للمخلوقين إلى عبودية العزة والكرامة لله رب العالمين.
وقد جعل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله إلى العالمين، و خاتم إخوانه من النبيين والمرسلين، وجعل كتابه المبين خاتم كتبه التي أنزلها لهداية خلقه السابقين، وأصبح هو المهيمن عليها إلى يوم الدين، وكان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن، وبه يقتدي المقتدون، فهو الشاهد على هذه الأمة، وهي الشاهدة على من سواها من أمم الأرض.
قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}. [2].
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}. [3].
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. [4].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [5].
وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. [6].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. [7].
وقد وردت أحاديث صحيحة في بيان شهادة هذه الأمة على غيرها من الأمم، من ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: الوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم)) . [تفسير القرآن العظيم (1/190) طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه]. والأحاديث في معناه كثيرة.
وأمر الله سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإخوانه النبيين قبله، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}. [9].
كما أمر أمته أن تقتدي به، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}. [10].
(3) فساد العالم بتخلي هذه الأمة عن تطبيق الشريعة الإسلامية:
وإذا كانت هذه هي منزلة الأمة الإسلامية عند الله تعالى، وكان دينها هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}. [11].
وإذا كانت هذه الأمة مأمورة أن تتبع نبيها وتقتدي به، وكانت الأمم الأخرى مأمورة أن تتبع هذه الأمة وتقتدي بها ـ وهي شاهدة على تلك الأمم ـ فطبيعي أن هذه الأمة إذا تخلت عن تطبيق شريعة الله ستضِل في نفسها، وتفسد أجيالها، حيث تنشأ ناشئتها على طريق المغضوب عليهم والضالين، وتحل العادات الفاسدة محل دين الله الذي لا صلاح للناس إلا به.
وعندئذ ستكون هذه الأمة ضالة غير مهتدية، على الباطل وليست على الحق، وستكون فتنة للذين كفروا، إذ يفسرون دينها الحق بسلوكها الباطل، وفي ذلك تنفير للناس من الدخول في هذا الدين، وإن كان أعداء الدين الذين يفسرونه بسلوك أتباعه المشين، يعلمون أن الإسلام من ذلك براء، وهذا ما دأب عليه كثير من المستشرقين والمنصرين والإعلاميين المحاربين لهذا الدين، حيث ينسبون في كتبهم وبحوثهم ومناهج تعليمهم ومحاضراتهم وأجهزة إعلامهم، كل نقيصة تظهر في المسلمين إلى دين الإسلام، فالتخلف والاعتداء والتظالم والحروب والمذلة، وغيرها من النقائص إنما سببها الإسلام في زعمهم. [وبهذا صرَّح بعض المستشرقين الذين قابلتهم في أوروبا، منهم الأستاذ فان كوننكز فيلد، في جامعة ليدن بهولندا، راجع كتابنا (حوارات مع أوروبيين غير مسلمين) ص117].
لقد غدت هذه الأمة التي يجب أن تكون قدوة حسنة للناس، تهديهم إلى الصراط المستقيم، فتنة لهم تنفرهم من الدخول في هذا الدين، ذلك أن المسلمين عندما يتمسكون بدينهم يكونون أقوياء في العلم والحكم وغيرهما، فيرى الناس الإسلام مطبقاً في حياتهم، ويشعرون بأنهم جديرون بقيادة العالم بهذا الدين؛ لأنهم أعزة أقوياء، أهل عدل ورحمة وهيبة، فيحترمونهم ويتسابقون إلى الدخول في دينهم، بخلاف ما إذا تخلو عنه فإنهم يكونون أذلة لأعدائهم، مع كثرة النزاع والشقاق بينهم، فيظن الناس أن هذا الدين ليس له مزية على سواه من الأديان الموجودة على ظهر الأرض، ظناً منهم ـ إن حسنت نواياهم ـ أن هذا السلوك هو تطبيق لهذا الدين، بل قد يظنون أن الإسلام هو دين تخلف ومذلة يجب نبذه ومحاربته، ومن هنا دعا عباد الله من أهل الصلاح والتقوى قائلين: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. [13].
وبهذا تظهر أهمية تطبيق الشريعة الإسلامية وخطره في حياة العالم كله؛ لأن هذا التطبيق سيكون سبباً في صلاح الأمة الإسلامية وفي صلاح كثير من الأمم الأخرى، وأن عدم تطبيق هذه الشريعة يكون سبباً في فساد الأمة الإسلامية وفساد أمم الأرض كلها، كما هو شأن العالم اليوم.
(4) وفرة الوسائل المُيَسِّرة لتطبيق الشريعة الإسلامية ومسؤولية هذه الأمة عنها:
هل للمسلمين عذر في عدم تطبيق الشريعة الإسلامية؟
هذا الموقف الخاسر الذي يقفه المسلمون اليوم من عدم تطبيق شريعة الله في حياتهم تطبيقاً شاملاً، لا عذر لهم فيه، لأمرين رئيسين:
الأمر الأول: أنه لا توجد أمة في الأرض تملك ديناً يرضاه الله غير الأمة الإسلامية، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. [14].
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ}. [15].
فتطبيق شريعة الإسلام متعين على هذه الأمة التي لا توجد أمة غيرها تملك هذه الشريعة الكاملة التي لا يؤمن بها إلا المسلمون.
الأمر الثاني: أن هذه الأمة تملك من الإمكانات والوسائل ـ وبخاصة في هذا العصر ـ ما يمكنها من حمل هذا الدين، وإبلاغه إلى العالم في كل أنحاء الأرض، لتنقذ البشرية من المهالك التي أحاطت ـ ولا تزال تحيط ـ بها، وكادت تدمرها تدميراً، ولا ينقص الأمة الإسلامية إلا الإرادة الصادقة و العزم المصمم على تطبيق هذه الشريعة.
إمكانات الأمة ووسائلها لتطبيق الشريعة الإسلامية:
( 1 ) من هذه الإمكانات: أن دين الله الذي تضمن هذه الشريعة، محفوظ بحفظ الله تعالى لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهما المرجع الذي يجب أخذ هذه الشريعة منه، فلم يصِب نصوصَ القرآن تحريفٌ ولا تغيير ولا تبديل، من يوم نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك حفظ الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بما هيأ لها من علماء الإسلام الذين حفظوا سندها ومتنها، وبينوا صحيحها من سقيمها، كما هيأهم الله لكشف كل زيف من المعاني المخالفة لمعاني كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان تحقيقاً لقول الحق جل جلاله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. [16].
وهذا بخلاف الأمم الأخرى التي أنزل الله إلى رسلها كتباً، وشرع لها شرائع، كاليهود والنصارى، فإنه لا يوجد لديهم كتب سليمة من التحريف والتبديل، ولذلك لو أرادوا أن يطبقوا ما في كتبهم المحرفة، لطبقوا ما ليس من شريعة الله في شيء، فلم تبق أمة لديها شريعة منزلة من عند الله سليمة من التحريف والتبديل إلا الأمة الإسلامية التي يتعين عليها تطبيق هذه الشريعة المباركة.
( 2 ) ومن تلك الإمكانات: وجود علماء بشريعة الله في هذه الأمة قادرين على إبراز أحكام الله تعالى في كل قضية من قضايا الحياة، وكثير من هؤلاء العلماء يرغبون ـ بل يدعون ـ إلى تطبيق هذه الشريعة، وكثير من شباب المسلمين عندهم استعداد للتفقه في دين الله والقيام بتطبيق شريعته.
( 3 ) ومن تلك الإمكانات: وجود كفاءات إدارية وتربوية وسياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية، من شباب هذه الأمة وشيوخها، ولديهم استعداد لحمل أمانة هذه الشريعة وتطبيقها، وكثير من هذه الكفاءات يستغل نشاطها أعداء الإسلام في البلدان الأجنبية، لعدم تمكنها من العمل في البلدان الإسلامية، ولو مُكِّنت هذه الكفاءات من العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية في بلدانها، كُلٌّ في مجال تخصصه، لكانت هذه الشريعة مرفوعة الراية قوية الجانب، ولكانت هذه الأمة عزيزة محترمة تقود العالم إلى الخير والصلاح بدلاً مما هي فيه من الذل والهوان والفساد، وحرمان العالم من نعمة هذا الدين وسعادته.
( 4 ) ومن تلك الإمكانات: كثرة الثروات والخيرات والأموال قي كثير من أراضي الأمة الإسلامية، وذلك يمكنها من الدعم المتواصل لتطبيق شريعة الله في أرضه، ومدها بكل ما تحتاج إليه في هذا التطبيق، في مجالات الإعلام والتعليم والقضاء والحسبة والعبادات والصناعات، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجهاد.
( 5 ) ومن تلك الإمكانات: سهولة المواصلات: البرية والجوية والبحرية، والاتصالات بوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، والصلات العالمية ذات العلاقات الكثيرة المتشابكة مع أمم الأرض كلها: سياسية وثقافية وتجارية واقتصادية وعسكرية ورياضية.
فلو كانت هذه الأمة تطبق شريعة الله حقاً في حياتها، وفي علاقاتها مع الآخرين، لكان لها شأن عظيم، ولكان تأثيرها في الأمم الأخرى كبيراً، ولكان الداخلون في هذا الدين كثراً.
هذا مع التنبيه إلى شدة حاجة العالم ـ بل ضرورته ـ إلى هذا الدين الذي فيه من الحلول لمشكلاته الكثيرة المستعصية، ما لا مطمع له في حلها في أي دين من الأديان أو أي نظام من الأنظمة غير شريعة الله ونظامه، وهو يرزح تحت نير تلك المشكلات، ويتلمس لها حلولاً في كل مذهب ونظام، ما عدا دين الإسلام الذي يملك وحده تلك الحلول.
ولقد أضاء أسلافنا العظام الأرض كلها بنور هذه الشريعة عندما طبقوها في المعمورة، مع قلة الإمكانات المادية التي كانوا يملكونها، ولذا دخلت شعوب بأكملها في دين الله في مشارق الأرض ومغاربها، بسبب ما رأوا في حمَلَة هذه الشريعة، من القدوة الحسنة والقيادة الراشدة ـ العملية لا المدعاة ـ فلقد كان حكام هذه الأمة وعلماؤها وتجارها وجيوشها وكل طبقاتها ـ إلا ما شذَّ ـ متعاونين على تطبيق هذه الشريعة، والدعوة إليها، بخلاف ما هي عليه اليوم، إذ يحارب أكثر حكامها هذا التطبيق، ويعينهم على محاربته جيوش ممن يسمون برجال الأمن وحماة الوطن الذين يحملون السلاح ضد دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، والحَوْل بينهم وبين وصول دعوتهم إلى عقول الأمة الإسلامية وغيرها، لئلا يجد هؤلاء الدعاة أنصاراً يكثرون سوادهم، ويمكنون لهذه الشريعة من الثبات والهيمنة، وهناك جيوش أخرى يستعين بها الطغاة المحاربون لتطبيق الشريعة الإسلامية، من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين وفنانين وعلماء سوء، وغيرهم ممن يقفون سداً منيعاً أمام تطبيق شريعة الله في أرضه.
( 6 ) ومن تلك الإمكانات: تهيؤ الشعوب الإسلامية لتطبيق الشريعة الإسلامية: فقد حُكِمَت تلك الشعوب ردحاً طويلاً من الزمن بغير شرع الله، من قبل المستعمرين أولاً، ثم من أذنابهم ثانياً، وذاقت من جراء ذلك كل أنواع القهر والذل و العسف والظلم، ثم عمتها بعد ذلك صحوة إسلامية جعلت تلك الشعوب تلح بلسان الحال والقال على تطبيق شرع الله في الأرض، ولم ينقص تلك الشعوب في تطبيق هذه الشريعة إلا وجود حكام يؤمنون بها ويحكِّمونها في الواقع.
جهل كثير من الأمة وتضليلهم وخطر ذلك عليهم:
هذا مع العلم أن كثيراً من جماهير الشعوب الإسلامية يجهلون حقائق الإسلام، بسبب تضليل عقولهم المتعمد من قبل أعداء هذا الدين الذين يرفعون ذلك الشعار المخدر لتلك الشعوب وهو: (أن دين الإسلام هو دين الدولة الرسمي) ويوهمون تلك الجماهير بأن تصرفاتهم لا تخالف الإسلام، مع أن كثيراً من الدول تحكم بغير ما أنزل الله.
ويكمن الخطر في هذا التضليل من وجهين:
الوجه الأول: فهم بعض الناس أن ما ليس من الإسلام هو من الإسلام.
الوجه الثاني: الصدام العنيف الذي يحصل بين المحاربين للإسلام وتطبيق شريعته، وبين من يعلمون كذب تلك الشعارات من المتمسكين بالإسلام الحريصين على تطبيق شريعته في الأرض. ولقد أبهج هذا الوضع السيئ أعداء الإسلام حيث يرون الانفصام النكد بين الحكام المحاربين لتطبيق الشريعة وبين علماء الأمة الصادقين والشباب المسلم الغيور الذي قد يسلك مسلك العنف المدمر ولو لم يحقق بمسلكه مبتغاه.
(6) وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية على هذه الأمة:
ضرورة اعتقاد وجوب تطبيق الشريعة:
إن اعتقاد وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، هو من صميم توحيد الله تعالى في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فإذا اعتقد الإنسان أن تطبيق شريعة الله غير واجب فقد كفر بالله تعالى رباً، وإلهاً، وكفر بأسمائه وصفاته، ولو ادَّعى أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فدعواه باطلة؛ لأن الرب هو السيد المدبر، والإنسان هو العبد المدَبَّر، والعبد إذا لم يعتقد ما أخبره به سيده من وجوب تطبيق ما شرع فقد كفر بربوبيته.
والإله هو المعبود بحق، واعتقاد وجوب تطبيق شريعته من صميم اعتقاد ألوهيته، إذ اعتقاد وجوب تحكيم شريعته داخل في معنى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) فمن لم يعتقد وجوب تطبيق شريعة الله، فقد كفر بـ((لا إله إلا الله)) ولو قالها وزعم أنه يؤمن بها؛ لأن اعتقاد تحكيم شريعة الله من جوهر توحيد الله في عبادته.
والإيمان بأسماء الله وصفاته لا يصح ممن لم يعتقد وجوب تحكيمه فيما شرع؛ لأنه تعالى هو الحاكم، وكيف يدعي الإيمان بالحاكم من لم يعتقد وجوب تحكيم شريعته!؟
وهكذا من ادعى الإيمان بالقرآن لا تصح دعواه، بل هو كافر به إذا لم يعتقد وجوب تحكيم شريعة الله، التي نزل القرآن مبيناً وجوب تحكيمها.
ومن ادعى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقد وجوب تحكيم شريعة الله التي جاء بها من عند الله، وأمر أن يحكم بها بين الناس، فقد كفر بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من ادعى أنه يؤمن بالملائكة الذين كانوا رسل الله إلى خلقه بوحيه الذي أنزل به شريعته، فقد كفر بهم، .... وكذلك القول في اليوم الآخر، وفي جميع أصول الإيمان وفروعه وقواعد الإسلام وأجزائه، لا يصح إيمان بها ممن لم يؤمن بوجوب تحكيم شريعة الله، فعدم الإيمان بوجوب تحكيم شريعة الله، كعدم الإيمان بقاعدة قواعد الإسلام: ((لا إله إلا الله)).
والذي لا يؤمن بوجوب تحكيم شريعة الله، فقد كفر بما أنزل الله، وآمن بالطاغوت، والإيمان بالطاغوت كفر بالله.
وجوب الحكم بشريعة الله:
وكما يجب اعتقاد وجوب تحكيم شريعة الله، يجب كذلك الحكم بها عملاً وتطبيقها في الحياة، وقد تضافرت آيات القرآن على ذلك، وأجمعت عليه الأمة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}. [17].
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [18].
وقال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ}. [الأنعام: 57].
وقال تعالى: {وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}. [الرعد: 41].
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. [المائدة: 50].
وقال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. [يوسف: 40].
وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. [النور: 51].
وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [الممتحنة:10].
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [النساء: 105].
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [المائدة: 44، 45، 47].
وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [5].
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [المائدة: 49].
الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي:
فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [الأنعام:118 ـ 121].
ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [الأنعام: 138-139].
فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه.
والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام.
وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده.
فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [هود: 84 ـ 87].
تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}..
نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي:
وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة.
فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها.
ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟
بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [سبق تخريج الآيات].
فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار.
هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافياً. [راجع ـ على سبيل المثال ـ: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (6/190)، وشرح الطحاوية: ص 363. وكتابنا السباق إلى العقول].



1 - ومن أوضح الأمثلة لذلك في هذه الحقبة من الزمن، سقوط النظم الشيوعية أمام النظام الرأسمالي الذي وقفت دوله بكل إمكاناتها منذ أكثر من خمسين عاماً، بأجهزتها السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية... ووقف كذلك النظام الشيوعي بدوله وإمكاناته، ضد النظام الرأسمالي، ولكن النظام الرأسمالي ـ مع سيئاته وأوضاره ـ كان أفضل من النظام الشيوعي، ولهذا تحطم الأخير وتمزقت دوله وأحزابه وأنظمته تباعاً خلال عام واحد تقريباً. ولو كان للإسلام ـ وهو دين الفطرة ـ رجال يحملونه ويبذلون في سبيل نشره وبيان محاسنه وتطبيق شريعته ما يبذله كثير من حكام المسلمين لمصالحهم الخاصة، لسقطت جميع الأنظمة البشرية المهيمنة على العالم اليوم، بما فيها النظام الرأسمالي الذي لم يجد له منافسا أفضل منه يحمله رجال أكفياء ويطبقونه في واقع الحياة. ولكن قادة المسلمين الذين نصبوا أنفسهم لحرب هذا الدين ودعاته، أضاعوه وخذلوه، فأذلهم الله وخذلهم وجعلهم عبيداً لعبيده الأذلاء، وسيبقون كذلك حتى يؤوبوا إلى الله أوبة صحيحة، أو يستبدل الله بهم غيرهم والله المستعان
2 - الأحزاب: 40
3 - الفرقان: 1
4 - الأعراف: 158
5 - المائدة: 48
6 - النساء: 41
7 - البقرة: 143
8 - تفسير القرآن العظيم (1/190) طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه
9 - الأنعام :90
10 - الأحزاب 31
11 - آل عمران 85
12 - وبهذا صرَّح بعض المستشرقين الذين قابلتهم في أوروبا، منهم الأستاذ فان كوننكز فيلد، في جامعة ليدن بهولندا، راجع كتابنا (حوارات مع أوروبيين غير مسلمين) ص117
13 - راجع تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن في تفسير هذه الآية، وغيره، والآية من سورة الممتحنة: 5
14 - آل عمران: 85
15 - آل عمران: 19
16 - الحجر:9
17 - النساء: 60
18 - النساء: 65
19 - الرعد: 41]]. وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. [[المائدة: 50]]. وقال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. [[يوسف: 40]]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. [[النور: 51]]. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [[الممتحنة:10]]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [[النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافياً. [[راجع ـ على سبيل المثال ـ: الجامع لأحكام القرآن، للق
20 - المائدة: 50]]. وقال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. [[يوسف: 40]]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. [[النور: 51]]. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [[الممتحنة:10]]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [[النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافياً. [
21 - يوسف: 40]]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. [[النور: 51]]. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [[الممتحنة:10]]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [[النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافياً. [[راجع ـ على سبيل المثال ـ:
22 - النور: 51]]. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [[الممتحنة:10]]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [[النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسل
23 - الممتحنة:10]]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}. [[النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافياً. [[راجع ـ على سبيل المثال ـ: ا
24 - النساء: 105]]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً شافي
25 - المائدة: 44، 45، 47]]. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}. [[المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أن
26 - المائدة: 48]]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}. [[المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحكم بما أنزل الله]]. وقد بين ذلك علماء الإسلام بياناً
27 - المائدة: 49]]. الدعوة إلى تحكيم الشريعة في العهد المكي: فلا يزعمنَّ زاعم أن الدعوة إلى تحكيم شريعة الله قد تأخرت عن العهد المكي إلى العهد المدني، لإخراج ذلك من أصل التوحيد الذي لا يصح إسلام أحد بدونه، فقد كان تحكيم شريعة الله جزءًا لا يتجزأ من الدعوة إلى كلمة التوحيد في العهد المكي، ولهذا نعى الله على المشركين وأنكر عليهم ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وحكم على من أطاعهم في ذلك التشريع بأنه مشرك، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [[الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله، أما من استحل ذلك واعتقد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ولو حكم في كل القضايا بما أنزل الله. [[كعلماني منافق، يكتم نفاقه، وُلِّي القضاء من قبل حاكم مسلم يلزم قضاته الحك
28 - الأنعام:118 ـ 121]]. ومثل هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. [[الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من
29 - الأنعام: 138-139]]. فالدعوة إلى تحكيم شريعة الله هي دعوة إلى كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل بها القرآن الكريم في السور المكية، ومنها سورة الأنعام هذه. والذي أخره الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤخر إلا ما أخره الله ـ إنما هو تفاصيل المعاملات والأحكام التي تأخر نزولها إلى العهد المدني، وكذلك إقامة الدولة التي تطبق على الناس شريعة الله تأخرت إلى العهد المدني، لعدم القدرة على إقامتها في مكة في أول الإسلام. وفرق بين إقامة الدولة، وتطبيق أحكام الشريعة على الناس، وبين الدعوة إلى تحكيم الشريعة، فتأخير الدعوة إلى تحكيم الشريعة هو من تأخير الدعوة إلى ((لا إله إلا الله))، وهو خلاف ما شرعه الله لرسوله، فالذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد، ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم حقيقة ((لا إله إلا الله))؛ لأن تحكيم شرع الله هو لب توحيد الله، وهو جوهر ((لا إله إلا الله)) وهو الذي فهمه أنبياء الله من تكليف الله لهم الدعوة إلى توحيده. فقد فهم قوم شعيب أن لهم أن يفعلوا في أموالهم مايشاؤن كما أن لهم أن يعبدوا ما يشاؤن، وليس له أن يعترض عليهم بتحليل ولا تحريم، ولذا جعل دعوتهم إلى نبذ ذلك الاعتقاد مقارناً لدعوتهم إلى ((لا إله إلا الله))، كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. [[هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}.. نزول القرآن بأصول الشريعة في العهد المكي: وقد بين الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كلياً، إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعمَّ منه مما نزل في مكة. فقال رحمه الله: "إذا رأيت في المدنيات أصلاً كلياً فتأمله تجده جزئياً بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصل كلي..." . [[راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة من قصر علمه عنها. ما المراد بكفر من لم يحكم بما أنزل الله؟ بقي أن ننبه على معنى قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ـ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}. [[سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسي
30 - هود: 84 ـ 87]]. تأمل ما أمر به شعيب قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ..} وتأمل رد قومه عليه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أمرهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا ـ عندئذ كفاراً ـ ولو كان تحكيم شرع الله في الأموال ليس من الإيمان بـ((لا إله إلا الله)) لأخر الدعوة إليه، حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان، ولذلك جعله في دعوته قومه إلى التوحيد، كما فهموا هم منه أن التسليم المطلق لله يدخل فيه تحكيم شريعة الله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ
31 - راجع الموافقات: (3/46 ـ 50) وراجع كتابنا: السباق إلى العقول ص: 60 مخطوط]]. وضرب لذلك أمثلة كثيرة تدحض أي شبهة قد يوردها على هذه القاعدة م
32 - سبق تخريج الآيات]]. فقد نقل عن بعض السلف أن المراد بالكفر والظلم والفسق ـ هنا ـ الكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر، وهي لا تخرج صاحبها من الملة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، أي إن ذلك كفر عملي وليس كفرا عَقَدِياً، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالكبائر ويخلدون أهلها في النار. هذا التفسير يجب أن يُحمل على من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، مع اعتقاده أن ذلك محرم عليه، وأن
33 -
34 - راجع ـ على سبيل المثال ـ: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (6/190)، وشرح



السابق

الفهرس

التالي


16123398

عداد الصفحات العام

2013

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م