﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


المبحث الأول: الأمانة:

المبحث الأول: الأمانة:
إن الأمانة من أهم الأسس التي، إذا وجدت في ولي الأمر - في أي ولاية صغرت أم كبرت - سعد الناس بولايته واطمأنوا إلى وصول حقوقهم إليهم..
وإذا فقدت شقي الناس بولايته شقاء كاملاً.. وإذا ضعفت فيه كان شقاؤهم بمقدار ذلك الضعف..
ولما للأمانة من خطر عظيم في الحياة عَظَّم الله شأنها في القرآن الكريم كما عظم شأنها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة، وعني علماء المسلمين بالحث عليها والتحذير من ضدها، وهى الخيانة.
قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }. [الأحزاب:72].
والأمانة عامة شاملة لكل وظيفة يقوم بها الإنسان، سواء تعلقت بحق ربه أو حق نفسه أو حق أهله، أو حق سائر الناس عليه، فلا تخلو تصرفات الفرد والأسرة والأمة من مسئولية الأمانة.
قال القرطبي رحمه الله: "والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال". [الجامع لأحكام القرآن (14/253)].
وقال السعدي رحمه الله: "الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها أي كاملة موفرة لا منقوصة ولا مبخوسة ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله". [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/183)].
أما كيفية عرض الله الأمانة على الأجرام العظيمة الجامدة، هذه الكيفية لا ندري عنها، ولا ندري عن كيفية إجابتها كذلك، ولكنا نعلم يقينا أن الله الذي خلقها قادر على عرض الأمانة عليها بالكيفية التي يشاء، لأنه هو خالقها القادر على كل ما يريد صنعه في خلقه.
ولا ندري كذلك كيف كان ردها على هذا العرض، ولكنا نعلم أن خالقها قادر على جعلها تنطق بصوت يسمعه سبحانه وتعالى منها، لأنه سبحانه وتعالى إذا أردا شيئا فإنما يقول له: {كن فيكون}.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن أعضاء أعداء تشهد عليهم نطقا يوم القيامة بما عملوا، ويحصل بينهم وبينها حوار كما يحصل بين العقلاء..
كما قال سبحانه وتعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}. [فصلت:19-22]
وقد مكن الله سبحانه وتعالى سليمان صلى الله عليه وسلم من فهم كلام النملة، وهي تنصح أخواتها بالحذر من أن يحطمها هو وجنوده وهم لا يشعرون، فطلب سليمان من ربه أن يلهمه المزيد من شكر نعمه التي منها تمكينه من فهم لغة تلك النملة..
كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }. [النمل:18-19]
ونحن نؤمن بكل ما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به في كتابه أو صحت به سنة رسوله، ولا نحتاج إلى ما يؤكد لنا ذلك من خارجهما، لأننا قد آمنا به وبكتابه وبرسوله، فلا نعارض ذلك بعقول ولا شبهات.
ومع هذا نقول للمتشككين في مثل هذه الأمور الغيبية: لقد ظهر في هذا الزمن من صنع البشر الذي مكنهم الله سبحانه وتعالى منه ما يدل على كمال القدرة الإلهية،فالله هو الذي خلق هذا الإنسان ومنحه من الآلات المادية والفكرية، ما جعله يصنع ما يدهش العقول في هذه الحياة، ومن ذلك جعل الجمادات محلا للأصوات والصور مع قرب المسافات وبعدها، كالمذياع والتلفاز وأشرطة الكاسيت والفيديو والهاتف وغيرها، والشبكة العالمية "الإنترنت" فكيف يستبعد المخلوق الذي مكنه الله سبحانه وتعالى من هذه الأمور، قدرة الخالق على جعل مخلوقاته من الجمادات تنطق؟
وعلمنا كذلك أن تلك الأجرام العظيمة أبت أن تحمل الأمانة التي عرضها ربها عليها، كما أخبرنا سبحانه وتعالى عن ذلك، ولكنا نقطع بأن إباءها ليس عصياناً وخروجاً عن طاعة الله سبحانه وتعالى، بل الظاهر أن الله سبحانه وتعالى بين لها معنى الأمانة وخيرها في حملها، مع الثواب على القيام بها والعقاب على عدمه، فاختارت عدم حملها إشفاقاً منها... من عدم قدرتها على القيام بحملها، واكتفت بوظائفها التي فطرها الله عليها بدون تكليف شرعي ومحاسبة.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه عندما أمر السموات والأرض بالإتيان طوعا أو كرها، أجابتا بالإتيان طوعاً..
كما قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }. [ فصلت(11)]
والمراد بالإتيان هنا التسخير والخلق، أي قال لهما قبل أن يخلقهما: ائتيا، أي كونا فكانتا، أو المراد به أمرهما بعد خلقهما: فقال للسماء: أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك ورياحك... وقال للأرض: شقي أنهارك وأنبتي أشجارك وعشبك...
وقال شيخنا الشنقيطي رحمه الله في قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }: "ذكر جل جلاله في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه.
وهذا العرض والإباء والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل جلاله ونحن لا بعلمه وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها وأبت وأشفقت أي خافت، ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة.
فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكور، قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة في الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. [البقرة (74)] فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو سبحانه وتعالى.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}. [الإسراء (44)].
ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}. [الأنبياء (79)] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك، قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر، وهي في صحيح البخاري وغيره.
ومنها ما ثبت في صحيح مسلم. [برقم(2277)]. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأعرف حجراً كان يسلم علي في مكة)) وأمثال هذا كثيرة.
فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله، ونحن لا نعلمه كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه كما هو معلوم وقد دلت عليه آيات كثيرة". [أضواء البيان (6/258-259)].
وفي إخبار الله لنا بأنه عرض الأمانة على تلك المخلوقات وإبائها من حملها خوفا من عدم القيام بها، مع عظمتها وكبر أحجامها، تنبيه لنا على أن حمل الأمانة ثقيل يحتاج إلى مجاهدة واجتهاد للقيام بها...
قال القرطبي في تفسير الآية: "عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}. قال: الأمانة الفرائض عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به"
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "يعظم سبحانه وتعالى شأن الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين التي هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم، في حال السر والخفية كحال العلانية، وأنه سبحانه وتعالى عرضها على المخلوقات العظيمة والسموات والأرض والجبال عرض تخيير لا تحتيم، وأنكِ إن قمت بها وأديتها على وجهها فلك الثواب، وإن لم تقومي بها ولم تؤديها فعليك العقاب {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي خوفاً أن لا يقمن بما حملن، لا عصياناً لربهن ولا زهداً في ثوابه.
وعرضها الله على الإنسان على ذلك الشرط المذكور فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل. [5].
ومن حكمة الله أن يكلف من هو أهل للتكليف، كالإنسان الذي أمده بالعقل والتمييز، وكرمه بالمنهاج السماوي الذي هو الوحي، وبإرسال الرسل ليقوموا بهدايته وتعليمه وتزكيته.
ولما كانت الأمانة يحتاج صاحبها إلى رعايتها وحفظها وأدائها بعد أن قبل أن يحملها، ذَكَّره الله محذراً له من إضاعتها بالجهل والظلم، وذلك يستدعي أن يكون على علم وبصيرة بأسباب حفظها..
والعلم بها يكون عن طريق الوحي، وقد يكون عن طريق الفطرة والعقل السليم، فيجب أن يتزود بالعلم، وأن يستخدم عقله فيما خلقه الله له من التفكر في الحقوق والواجبات، حتى لا يضيع الأمانة بسبب إعراضه عن هدى الله الذي أنزل به وحيه، أو عدم استخدامه نعمة العقل الذي منحه الله.
كما يجب أن يتصف بالعدل، حتى يؤدي الحقوق إلى أهلها، حقوق الله وحقوق عباده، ولا يكون مثل الكافرين المشركين الذين يصدون عن سبيل الله ولا يقبلون هداه، ولا مثل المنافق الذي يعلم حكم الله ويتظاهر بطاعته وقلبه منطوٍ على المخالفة.
ولهذا ذكر سبحانه وتعالى هذه الأصناف الثلاثة –بعد أن بين أن الإنسان قَبِلَ حملَ الأمانة -: فذكر المؤمنين الذين يؤدون الأمانة وأنه يتوب عليهم، وذكر المشركين والمنافقين الذين لا يؤدون تلك الأمانة، وأنهم جديرون بسخطه وعذابه، فقال سبحانه وتعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. [الأحزاب (7)]
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: " فانقسم الناس ـ بحسب قيامهم بها وعدمه ـ إلى ثلاثة أقسام منافقون قاموا بها ظاهراً لا باطناً، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً.
فذكر الله سبحانه وتعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة وما لهم من الثواب والعقاب، فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/672-673)].
وقد أكَّد الله سبحانه وتعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}. [النساء:58].
قال القرطبي رحمه الله:
"هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع".
ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم فقال:
"والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم ". إلى أن قال: "فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة". [الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)].
ومما يدل على خطر الأمانة وكونها من أهم الأسس التي يجب أن تتوافر في كل مسلم، وبخاصة من ولي أيَّ أمرٍ من أمور هذه الأمة، جَعْلَها مقارنةً لصفة الرسالة التي اختص الله بها خيرة خلقه، وهم أنبياؤه ورسله..
كما قال سبحانه وتعالى عن نوح وغيره من الرسل الذين جاءوا من بعده: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. [الشعراء:107،143،162،193].
وقال سبحانه وتعالى عن هود وهو يخاطب قومه مبيناً كفاءته لقيادتهم وأمرهم ونهيهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}. [الأعراف:68].
وقد أبرز العفريتُ الذي أراد أن يتشرف بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ لنبي الله سليمان عليه السلام، الأمانةَ من أهم صفاته المؤهلة له للقيام بخدمة سليمان..
فقال الله سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}. [النمل:39].
بل جعل الله سبحانه وتعالى الأمانة من أبرز الصفات المؤهلة لجبريل ليكون سفيراً بينه وبين رسله بوحيه..
فقال سبحانه وتعالى عنه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}. [التكوير:19-21].
وكما أمر بأداء الأمانة، وجعَلَها من صفات عباده الصالحين في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. [المؤمنون:8].
فإنه حذر من إضاعة الأمانة ونهى عن الخيانة، وهى ضد الأمانة نهيا شديداً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. [الأنفال:27].
وإذا فقدت الأمانة فُقِدتْ الثقةُ بين الناس، وفقْدُ الثقة يؤدي إلى الخوف من الخيانة وعدم الاطمئنان إلى صدق المعاملة في الأمور العادية، كالبيع والشراء..
فكيف إذا فقدت الأمانة ممن يلي أمور المسلمين، أو يقضي في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم؟
وإذا وجدت الأمانة اطمأن الناس إلى صاحبها، وأمنوه على كل شيء في حياتهم، بل إن الأمانة قد تفقد في الناس، فإذا رأى الناس في بعض أفرادهم ما يدل على أدنى أثر للأمانة، مدحوه وأثنوا عليه بالعقل والجَلَد والظرف، مع فقده لأصل الإيمان الذي لا أمانة لفاقده، إلا إذا تصنعها مضطراً إليها لقضاء حاجات مادية يستفيدها، بخلاف من ثبت الإيمان في قلبه عن علم بهدى الله فإن الأمانة تثبت في قلبه كثبات إيمانه.
وقد دل على هذه المعاني حديث حذيفة، رضي الله عنه قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: ((أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة))..
وحدثنا عن زَمَنَهَا قال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت [8] ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل [9] كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبراً،[يعني مرتفعاً، راجع صحيح البخاري (7/189) ]. وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان))، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً رده علي إسلامه، وإن كان نصرانياً رده علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً". [البخاري (7/188-189) ومسلم (1/126-127)].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) . [البخاري (7/188)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكه وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين)). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: ((لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) . [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ((لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه)) . [15].
والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفاً بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤاً لولاية أمور المسلمين.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعامل المنافقين معاملة سائر المسلمين بحسب ظواهرهم، ولكنه لم يكن يسند إليهم ولاية شئون أمته، لأنه قد وصفهم بالخيانة على ما يؤتمنون عليه.

روى أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((آية المنافق ثلاث..))، وفيها: ((وإذا اؤتمن خان)) .[البخاري (1/14) ومسلم (1/78)].
وقد عرف صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) . [سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: "هذا حديث حسن صحيح].
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه)). [المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: "وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها].
وأقسم صلى الله عليه وسلم على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح وأبي هريرة رضي الله عنهـما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن)) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) . [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46) ].
ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، و من أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه.
هذا هو الأساس الأول من أسس الكفاءة للولايات الإسلامية وهو الأمانة.
وإن الذي يتأمل واقع العالم في هذا العصر تبرز له أضرار فقد الأمانة أو ضعفها في كل مجال..
الخيانات المالية في البيع والشراء والمعاملات التجارية على وجه العموم.
والخيانات الأسرية بين الأزواج، وبخاصة في المجتمعات التي تعمد حكام شعوبها إضعاف الإيمان في النفوس، والبعد عن طاعة الله سبحانه وتعالى، ونشر وسائل تُجَرِّئ تلك النفوس على الخيانة بدلاً من تعويدها على الأمانة، فانتشر من جراء ذلك تصدع الأسر بسبب الطلاق أو القطيعة والشك في الأنساب.
بل كثيرا ما ينجم عنه الانفصال بين الخطيب وخطيبته، بسبب شك أحدهما في الآخر، وقد يتم الانفصال بعد عقد النكاح.
وكذلك الخيانات السياسية بين الحكام والشعوب، حيث تعقد الاتفاقات وتبرم العقود وتوثق بالعهود، ثم تنقض كلها من قبل أحد الطرفين إذا قوى وظن أنه ليس في حاجة إلى الوفاء بذلك..
فينقلب أقرب المقربين على أصدق الأصدقاء - في ظاهر الأمر - ويغدر هذا الحزب بذاك، ويعيث الجيش الذي كان الهدف من تدريبه حفظ الأمن والذود عن الأوطان من الأعداء، يعيث فساداً بالانقلابات وإزهاق النفوس وانتهاك الحرمات..
ويصبح اللسان الذي كان كله مدحاً وثناء على ولي الأمر السابق، يصبح كله ذماً له وثناء على خصمه وكافرِ نعمته.
وكذلك تجد نقض العهود والغدر والخيانة بين الدول التي تعقد الاتفاقات وتبرم المعاهدات في مجالات العلاقات المتنوعة: اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية وإعلامية وأمنية وعسكرية..
ثم تنقض تلك الاتفاقات والمعاهدات من قبل الدولة التي ظنت أنها لم تعد في حاجة إلى إتمامها مع الدولة الأخرى.
وكذلك الموظف الذي أسند إليه الأمر في حكومته للقيام بخدمة أبناء شعبه في أي عمل من الأعمال، تجده خائناً لحكومته وشعبه، حيث يأخذ راتب عمله كاملاً، ويتحايل بشتى الوسائل على تقليص وقت عمله، حتى لو قدر على عدم الحضور في أوقات الدوام كلها لعدم وجود من يراقبه من البشر لفعل..
وإذا حضر عامل الناس الذين وظف لخدمتهم معاملة سيئة، إما بإساءة خلقه، وإما بتسويف قضاء حاجاتهم، حتى إن العمل الذي يمكن أن ينجزه في ساعة قد لا يحصل عليه مستحقه إلا بعد أسبوع أو أكثر، اللهم إلا إذا كان من أصدقائه أو أصدقاء من يتوسط له عنده..
وقد يَحرِم صاحبَ الحق من حقَّه إما اتباعاً لهواه، وإما محاباة لقريبه أو صديقه، وإما بأخذ رشوة من خصم صاحب الحق..
إن الناس اليوم في قلق من فقد الأمانة وإن الحقوق لتهدر بسبب ذلك، وهذا ما يفسر اهتمام الشريعة الإسلامية بالأمانة في العاملين، وبخاصة ولاة أمور المسلمين.
1 - الجامع لأحكام القرآن (14/253)
2 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/183)
3 - برقم(2277)
4 - أضواء البيان (6/258-259)
5 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان الجزء الأول 674
6 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/672-673)
7 - الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)
8 - هو أثر الشيء اليسير
9 - تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل وغيره
10 - يعني مرتفعاً، راجع صحيح البخاري (7/189)
11 - البخاري (7/188-189) ومسلم (1/126-127)
12 - البخاري (7/188)
13 - البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)
14 - البخاري (4/216)
15 - المرجع السابق..
16 - البخاري (1/14) ومسلم (1/78)
17 - سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: "هذا حديث حسن صحيح
18 - المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: "وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها
19 - صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46)



السابق

الفهرس

التالي


16124293

عداد الصفحات العام

2908

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م