﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


المبحث الثاني: العلم والخبرة

المبحث الثاني: العلم والخبرة
إن العلم والخبرة بالأمر المسند إلى المرء، كالبصر الذي لا قدرة له على رؤية الأشياء بدونه، فالذي لا خبرة له ولا علم له بالأمر، لا قدرة له على القيام به، وتكليفه القيام بذلك وإسناده إليه من الظلم له ولكل من له به علاقة..
لذلك حرص الشارع الحكيم أن يكون من يلي أمرا من الأمور على علم به، لتكون خطواته سائرة عن علم ودراية مؤدية إلى الهدف المرسوم؛ ولأن الجاهل بالعمل يؤدي جهله به في الغالب إلى فشله في وظيفته.
ولا أريد هنا استعراض النصوص الدالة على شرف العلم وفضله، فإنها لكثرتها تحتاج إلى مؤلف مستقل، وهي منتشرة في نصوص القرآن والسنة والسيرة النبوية والتفسير وشروح الحديث وتاريخ الإسلام، وقد ألف بعض العلماء في ذلك كتباً مستقلة. [1].
ويكفى من ذلك ذكر آيتين فيهما بيان عدم استواء العلماء وغيرهم، وتفاوت درجات الناس بتفاوت إيمانهم وعلمهم.
فقد بين سبحانه وتعالى أن العلماء هم الذين يداومون على طاعته وعبادته، ويحذرون عذابه في الآخرة، كما يرجون رحمة ربهم..
والذين هذه صفاتهم هم الذين يأمنهم الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، فإذا ما تولوا أمورهم قاموا بها خير قيام، لأن دوامهم على الطاعة وخوفهم من الله وخشيتهم من عذابه ورجاءهم رحمته، تجعلهم يحافظون على رضا ربهم في معاملة خلقه وأداء حقوقهم إليهم…
قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}. [الزمر:9].
وأوضح عز وجل أنه فاوت درجات الناس بتفاوت درجات إيمانهم وعلمهم، والحكمة تقتضي أن يكون الأرفع درجة عند الله بإيمانه وعلمه، هو الأرفع درجة عند الناس، لأن الإيمان يعصم من الهوى، والعلم يعصم من الخطأ، ونتيجة ذلك العدل والصواب وهما قوام حياة الناس.
قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. [المجادلة:11].
هاتان الآيتان من النصوص الدالة على فضل العلم والعلماء بصفة عامة، ويلزم من ذلك أن يكون أهل العلم هم قادة الأمة وولاة أمورهم، والعلم - وإن كان ظاهر النصوص يدل أن المقصود به علم الكتاب والسنة - شامل لكل علم نافع للناس في الدنيا والآخرة، ما دام غير مخالف لشرع الله..
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلمَ السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا..
ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين، لكن لا بنفسه، بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا..
والْمُلْك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه". [الإحياء (1/17)].
وهنا تنبيهان:
التنبيه الأول: أن يعلم أن قول الغزالي رحمه الله: "فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم".. المقصود به عندما أصبح للسلطان رجال وللفقه رجال، فكان لا بد للسلطان أن يكون تلميذاً للفقيه، لتكون غير مخالفة لشرع الله.
أما قبل ذلك فكان الفقيه هو صاحب السلطان، وهو أعلى درجة السياسة الشرعية، وأدناها أن يتعاون الفقيه والسلطان على تلك السياسة، الفقيه ينصح ويوضح.. والسلطان على ضوء ذلك ينفذ.
وأسوأ السياسة في حكم الله أن يختلف الفقيه والسلطان. الفقيه يبين ويدعو إلى هدى الله، والسلطان يشتط وينفذ غير ما أنزل الله..
وهذا هو الذي اتُّبِع في أغلب الشعوب الإسلامية في العصور المتأخرة، فذاق المسلمون بذلك وبال هذا الاختلاف الذي هز كيان الأمة الإسلامية ومزقها شر ممزق.
التنبيه الثاني: أن علماء المسلمين قد تنبهوا لدسيسة أعداء الإسلام الذين أرادوا أن يفرقوا بين الدين والسياسة..
كما هو شأن غلاة العلمانيين في هذا الزمان، الذين دعاهم اتباعُ أهوائهم التي لا يرضون أن يقيدها شرع الله في الحياة، إلى أن يحولوا بين تطبيق أحكام الدين على حياة الأمة، فدعوا إلى التفريق بين الدين والسياسة، ليضعوا من عند أنفسهم قوانين وأنظمة تحقق لهم رغباتهم بدون أن يتدخل شرع الله في حياتهم..
ولهذا ترى كلام العلماء، كالغزالي رحمه الله في غاية الوضوح في رد هذا الافتراء، بل الاعتداء على دين الله، تأمل قوله: "فالدين أصل، والسلطان حارس".
والشاهد من هذا أن كل علم ينفع الناس في دينهم ودنياهم، داخل في العلم المطلوب تحقيقه في ولاة الأمر، كل فيما يخصه، ولا يجوز لأي منهم تولي أمر من أمور الأمة وهو يجهله.
وهناك نصوص أخرى دلت على ضرورة وجود العلم فيمن يلي أمور المسلمين.. مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً}. [النساء:83].
دلت الآية أن عامة الناس، وهم الرعية، إذا نقل إليهم خبرُ أمرٍ من الأمور الخطيرة، سواء تعلق بالأمن أو الخوف، لا ينبغي لهم أن يذيعوا ذاك قبل أن يعودوا إلى ولاة أمورهم..
وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان حياً، إذ الفرض في ولاة الأمر أن يكون عندهم مقدرة على دراسة ذلك الأمر، ومعرفة حقيقته عن طريق ذوى العلم الخبرة به، فهم الذين يستطيعون أن يستنبطوا حكمه، وهل الفائدة في إذاعته أو في كتمانه؟
فولاة الأمر لابد أن يكونوا خبراء بما يتولونه، ولا يشترط أن يكونوا كلهم خبراء في كل أمر، بل قد يكون بعضهم ذا خبرة في شأن من شؤونهم، وبعضهم في شأن آخر، فيتشاورون ويتفقون على رأي بعد دراسته. [راجع جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (5/180) وما بعدها.. وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا (5/297) وما بعدها..].
ومثل قوله سبحانه وتعالى في شأن ملك مصر ويوسف عليه السلام: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. [يوسف:54-55].
فقد عرف الملك أمانة يوسف، فدعاه ذلك إلى تقريبه منه، وإشعاره بأنه محتاج إليه لمساعدته في شؤون ملكه، فلما عرف يوسف عليه السلام ذلك، عرض عليه أن يقوم بحفظ خزائنه وضبطها..
وأبرز له ما يؤهله لذلك وهما: الحفظ الناشئ عن الأمانة التي ظهرت له من عفة يوسف وعدم استجابته لإغراء امرأة العزيز، وتحمله عقوبة السجن، وكذلك القوة التي لا يمكنه حفظ أموال الدولة إلا بها، والعلم: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
ولعل يوسف عليه السلام رأى أن مال الدولة غير محفوظ، بسبب جهل الموظفين الذين أسند إليهم حفظه، أو خيانتهم وضعفهم، أو كل تلك الأسباب مجتمعه، مع حاجة الناس إلى حفظه وعدالة توزيعه، فاختار القيام بهذه الوظيفة التي يحفظ بها مال الدولة وحياة الشعب.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: "لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانتَه، وفهم أيضاً صبره وجلده، عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلاله، قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}. [(9/210) ].
وما فعله هذا الملك من إظهار الثقة في يوسف والاطمئنان إليه، و الثناء الحسن عليه، وتمكينه من اعتلاء هذا المنصب الخطير الذي أبدى يوسف رغبته في القيام به، لينقذ الناس من المجاعات، هذا الفعل الصادر من الملك، يدل على رجاحة عقله وحسن تدبيره.
فيوسف شاب غريب، بل هو - في عرف الناس - عبد بيع بثمن بخس دراهم معدودة، وقد عوقب بالسجن ظلما وعدوانا، ومع هذا كله رفع الملك مقامه الشريف عندما تبينت له فضائله وكفاءته ومؤهلاته....
وينبغي أن يتخذ زعماء الإدارات العامة والخاصة في الشعوب الإسلامية، من أعلى منصب فيها إلى أصغره عبرة من ملكٍ غير مسلم، دعاه إشفاقه على شعبه من نزول كوارث السنين به، أن يؤثر بالوظيفة التي تقيهم من تلك الكوارث رجلا يوصف بأنه أجنبي أو خادم، بل كان قبل أن يستخلصه الملك لنفسه عبدا يُنْزِل به العقابَ مالكُه، استجابة لرغبة امرأته التي لم يلب يوسف طلبها الآثم، فيخرجه الملك من السجن ويوليه منصبا لم ينله أحد من كبار دولته.
أقول: ينبغي لولاة أمر المسلمين المسئولين عن إدارات بلدانهم، أن يتخذوا من تدبير هذا الملك غير المسلم عبرة، فلا يولوا على الأمة إلا ذوي العلم والخبرة والأمانة، دون محاباة ولا مجاملة....
ويظهر من تعبير يوسف للرؤيا التي رآها الملك، أنه أراد من طلب الولاية على الشئون المالية "خزائن الأرض" تنفيذ تعبيره لتلك الرؤيا، وهو حفظ ما حُصِد وزُرِع، إلا القليل مما يأكل الناس، نظراً للقحط الذي سيعقب ذلك.. كما قال سبحانه وتعالى عنه، وكان في السجن: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ}. [يوسف:47-48].
ومثل قوله سبحانه وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}. [الأنبياء:78-79].
فقد كان نبي الله داود وابنه سليمان ملِكين ولاهما الله أمور الناس، وزودهما بالعلم النافع للقيام بواجبات الملك: {وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
ولما طلب بنو إسرائيل بعد نبيهم موسى عليه السلام من أحد أنبيائهم أن يولي عليهم ملكاً يقودهم لقتال أعدائهم، وأخبرهم بأن الله اختار لهم طالوت، واعترضوا على اختياره، بأنه لا مال له يؤهله لقيادتهم وأنهم هم أحق بالقيادة منه، بين لهم نبيهم سبب اصطفاء الله له، وهو أنه مؤهل لذلك بالقوة الجسمية والعلم..
قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. [البقرة:246-247].
ولا شك أن ولي الأمر الجاهل بما يسند إليه من أمور رعيته، يكون محلاً لازدراء الناس له واحتقارهم إياه، لأن الغالب على تصرفات الجاهل أن تكون غير سديدة، هذا بالإضافة إلى الضرر الذي يصيب الرعية من تصرفاته الناشئة عن جهله.
قال الزمخشري رحمه الله: "وذلك أن الْمَلِك لابد أن يكون من أهل العلم، فإن الجاهل مزدرى غير منتفع به". [الكشاف (1/379)].
ولقد ميز الله سبحانه وتعالى بين الحيوانات بالعلم، فأباح الاصطياد بالكلب المعلم وما أشبهه من سباع الوحوش والطيور، وحرم الاصطياد بغير المعلم، فجعل سبحانه وتعالى العِلمَ مؤهِّلاً للكلب بأن يصاد به ويؤكل صيده..
كما قال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. [المائدة:4].
والسبب في ذلك أن الكلب المُعَلَّم إنما يصيد الصيد لصاحبه وليس له، ولذا لا يأكل من الصيد الذي يصيده، وإذا أمره صاحبه ائتمر وإذا زجره ازدجر، فهو على عهده الفطري الذي تعلمه من صاحبه.
فكان أهلاً لتلك الوظيفة، والذي يتولى وظيفة، وهو يجهلها لا يرجى منه أن يؤدي ما يجب عليه فيها.
قال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما : أن يأتمر إذا أُمر وينزجر إذا زُجر.. لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش"..
ثم قال رحمه الله: "وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم..
وهذا ما روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أنه قال: "لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه". [الجامع لأحكام القرآن (6/69،74)].
وقال محمد بن علي الأزرق رحمه الله: "السلطان أحوج الخلق إلى العلم لوجهين:
أحدهما: افتقاره إليه في الأحكام التي تحوجه إلى المعرفة بها، ليكون على بصيرة في تنفيذ الفصل فيها وإلزام الوقوف عند حدودها.
الثاني: أن تَحَلِّيَه بالعلم من أعظم ما يتحبب به إلى الرعية، لما رسخ في النفس على الجملة من فضيلة العلم ومحبة من انتسب إليه، وإذا عرى منه أو فرط في العمل بمقتضى السؤال عنه، أخل بالسريرة الفاضلة فينفرون ويستوحشون منه". [بدائع السلك في طبائع المسلك (1/426)].
وإذا تولى الجاهل ولاية من ولايات المسلمين صغرت أم كبرت، فإنه سيضطر إلى أعوان عندهم خبرة بالولاية المسندة إليه، وهو لا يخلو من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يسلم لهم قياده ليسيِّروا أمر ولايته في الواقع، وهو يكتفي باللقب والرئاسة، وهو في هذه الحالة هيكل بلا روح ولا قيمة له عند رعيته، لأنهم يعلمون أنه كلابس ثوبي زور.
الحالة الثانية: أن ينصب نفسه آمراً وناهياً لذوى الخبرة: يأمرهم بنقيض ما يجب إبرامه، وينهاهم عن فعل ما يجب فعله، وهو في هذه الحالة أسوأ من الحالة الأولى، لأنه يبني ما يجب أن يهدم، ويهدم ما يجب أن يبني، وسيكون معرضاً لغضب العالم والجاهل على السواء، ومثله لا يرجى له البقاء في منصبه لأن سنة الله الكونية والشرعية تأبى ذلك.
الحالة الثالثة: أن يُقْصِي كلَّ من له خبرة وعلم بشؤون ولايته، ويقرب ذوي الجهل بها مثله: هرباً من أن يحتقره ذوو الخبرة وينكروا تصرفاته، وهذه الحالة هي الفوضى بذاتها، وبها يتحقق الفساد في الأرض، ويكون ولي الأمر وأعوانه..
كما يقول المثل: "عمياء تخضب مجنونة"..
وتصبح أمور الناس بذلك كما قال الشاعر:
[sh]
أقول له زيداً، فيسمع خالداً=ويكتبه عمراً، ويقرؤه بكراً
[/sh]
وهاتان الحالتان هما الغالبتان على ولاة الأمور في أغلب الشعوب الإسلامية في هذه العصور، وبخاصة أولئك الولاة الذين أقصوا حكم الله سبحانه وتعالى عن حياة الناس، ونصبوا أنفسهم حرباً على الإسلام و المسلمين، ولم يتعاونوا مع علماء الأمة على إقامة حكم الله.
أما ذوو الولايات الصغيرة، فإنهم لا يخلو منهم شعب من الشعوب الإسلامية، بل لا أبالغ إذا قلت: لا تخلو منهم مدينة أو قرية ممن يتصفون بإحدى هاتين الحالتين، وعلى قلة بالحالة الأولى.
وبهذا يعلم ضرورة أن يكون ولاة أمر المسلمين في الولاية العامة الكبرى، أو في الولايات الصغرى، عندهم علم و خبرة بالعمل الذي تسند إليهم ولايته، وأن يقرب كلُّ وال منهم إليه أهلَ العلم والخبرة في ذلك للمزيد من الفائدة وأداء الواجب.
ويجب أن يعرف بأن العلم المطلوب لمن يدير أي أمر من أمور الناس، علمان:
1 - مثل كتاب: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر
2 - راجع جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (5/180) وما بعدها.. وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا (5/297) وما بعدها..
3 - (9/210)
4 - الكشاف (1/379)
5 - الجامع لأحكام القرآن (6/69،74)
6 - بدائع السلك في طبائع المسلك (1/426)



السابق

الفهرس

التالي


16123970

عداد الصفحات العام

2585

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م