عظمة الله في 12:
إن تدبر الع9لاء أسماء الله تعالى وتدبر بعض ما يدخل في كل اسم منها من معان مما يظهر للمتدبر، ليظهر من عظمة الله تعالى ما يجعل ال9لوب تخشع وتذل له سبحانه وتوجل هيبة ورهبة وخشية من جلاله، ورغبةً إليه ومحبةً له وطمعاً في رحماته وتوفي9ه وهداه.
إن رجلا يُمَلِّكه الله تعالى 9طعةً في الأرض تشتمل على خيرات من الأرزا9 في ظاهرها وباطنها، يتربع على سرير الرئاسة أو 12 يسيطر على شعب متنوع الأصناف: ف9ير وغني وجاهل وعالم، و9وي وضعيف، يحيط به الجيوش الكثيرة، والخدم والحشم الوفيره، يتساب9ون في السمع له والطاعة، تجد الناس ينظرون إليه نظرة احترام وهيبة، وخوف ورهبة، لا يعصون له أمراً، ولا يرتكبون له زجراً، يرجون منه الكرم والفضل، ويخافون الحرمان والعزل، يدعونه بصاحب الفخامة أوالجلاله احتراماً له وتعظيماً، وت9رباً إليه وتسليماً، مع أن ملكه مجاز وليس ح9ي9ة؛ لأن الذي منحه ذلك 12 هو خال9ه ومالكه الذي يعطي ويمنع ويعز ويذل، ويميت ويحيي، الذي 9ال لنبيه ولكل من يصلح لتوجيه الخطاب إليه: {9ُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ 9َدِيرٌ (26)} [1]
وملك غير الله من المخلو9ين مع كونه نسبياً في الزمن الذي 9د يمتد لصاحبه مدة حياته، و9د يسلب منه 9بل ذلك، هو نسبي في المضمون كذلك؛ لأنه مهما عظم في نظر المخلو9 يعد شيئاً ضئيلاً بجانب 12 الخال9 العظيم، فهو ملك مضمحل باطل في ح9ي9ة الأمر؛ لأن الله تعالى مالك كل شيء في الدنيا وفي الآخرة، وغيره مالك ما ملَّكه 12 الح9 في و9ت دون و9ت، كما 9ال تعالى عن نفسه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَ9ُّ...(114)} [2]
9ال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية: "أي وجوده وملكه وكماله ح9، فصفات الكمال، لا تكون ح9ي9ة إلا لذي الجلال، ومن ذلك: 12، فإن غيره من الخل9، وإن كان له ملك في بعض الأو9ات، على بعض الأشياء، فإنه ملك 9اصر باطل يزول، وأما الرب، فلا يزال ولا يزال ملكاً حياً 9يوماً جليلاً". انتهى.
فهو تعالى وحده الذي يخفض ويرفع، ويهب ويمنع، ويذل ويعز، لا يملك أحد من خل9ه شيئاً إلا ما ملكه إياه تمليكاً مؤ9تاً يهبه متى شاء لمن يشاء على ما يشاء، ويسلبه متى شاء.
هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة فهو تعالى وحده مالك يوم الدين، يخاطب فيه عباده الذين برزوا من 9بورهم للجزاء العادل الذي لا يتميز فيه أحد عن أحد، بل ينال كل منهم جزاء ما 9دم، كما 9ال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْ9َهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} [3]
ترى ألا تجعل عظمة الله تعالى في ملكه في الدنيا والآخرة، جلود الع9لاء من البشر ت9شعر، و9لوبهم ترتجف وتخبت وتخشى وتخشع لهذا الرب العظيم؟
كررت في هذا البحث ذكر "ع9لاء البشر" عن 9صد، مع أن المسلمين وحدهم هم المنتفعون بع9ولهم التي تجعلهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويخبتون لله تعالى؛ لأن آيات الله الكونية 9د أخضعت ع9ول كثير من علماء الكون غير المسلمين من ذوي التخصصات المتنوعة، من فلك وطب وجيولوجيا وفيزياء، إلى الإيمان بأن هذا الكون لا بد له من خال9 مدبر، إذ أدهشهم ما في الكون العلوي والسفلي من د9ة ونظام، دال على أنه من المستحيل أن يكون هذا الكون وُجد بدون خال9، ومن البحوث التي ألفت في ذلك كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان". و9د أسلم بعض هؤلاء العلماء بناء على ذلك، وبعضهم اعترف بوجود الله بعد أن كان ملحداً.
و9د دعا هذا بعضَ المسلمين، أن يزعموا أن هؤلاء العلماء من غير المسلمين، من أشد الناس خشيةً لله تعالى، لعلمهم 9درة الله تعالى، وذكر عدداً منهم لم يدخلوا في الإسلام، 9ال: "ولو حاولت تتبع بعض سير مؤسسي العلوم الحديثة فستجد أن معظمهم ـ إن لم ن9ل كلهم ـ من أشد الناس خشية لله تعالى ولو عُرض عليهم الإسلام بصورته الصحيحة لما ترددوا في اعتنا9ه أمثال: نيوتن وكابلر وليوناردو دافنشي وآينشتاين".
http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=979&select_page=13.
ونحن نسلم بأن كثيراً من أولئك العلماء 9د أثَّر فيهم د9ة الكون ونظامه وأخضع ع9ولهم ونفوسهم، للاستسلام لخال9 مدبر، وأن الذين أسلموا من هؤلاء وتمكنوا من الف9ه في أصول الدين ف9هاً صحيحاً، 9د عرفوا الله ح9 المعرفة، وأن هؤلاء 9د يكونون أشد خشيةً وخضوعاً وخشوعاً لله؛ لأنهم جمعوا بين الف9ه الشرعي والعلم الكوني الذي يزيد صاحبه إيماناً، أما من تأثروا بالعلوم الكونية تأثراً لا يجعلهم يؤمنون بخال9 لهذا الكون، فإيمانهم بالخال9 إيمان عام، لم يعرفوا ح9ي9ة أوصاف هذا الخال9 الشرعية التي لم تعد توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله، ولم يعرفوا ما لهذا الإله على خل9ه من عبادته، فلا يصح ال9ول: إن هؤلاء من أشد الناس خشية.
عظمته في علمه المحيط بكل شيء:
وتتجلى عظمته تعالى في علمه الميحط بكل شيء من جزئيات الكون، لا تخفى عليه منه خافية، لا غيب عنده من خل9ه، بل هو يعلم ما هو غيب عن عباده أو شهادة على السواء، وهذه الصفة العظيمة يعبر عنها بعدد من أسمائه التي ذكرها لنا في كتابه: مثل عالم وعليم وخبير وسميع وبصير...
9ال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْ9ُطُ مِنْ وَرَ9َةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [4]
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [4، والتوبة: (94) (105) والرعد: (9) والمؤمنون: (92) والسجدة: (6) و25]
{وَاللَّهُ خَلَ9َكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْ9َصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)} [6]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْ9ِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)} [7]
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [3]
{وَلَ9َدْ خَلَ9ْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَ9ْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ} [9]
أما خل9ه تعالى، مهما بلغوا من العلم، فما أح9ر علمهم بجانب علم الخال9 سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ...(255)} [ال9رة]
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)} [11]
{وَأَسِرُّوا 9َوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَ9َ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [12]
ولشمول علمه تعالى بكل شيء في الكون أطل9 العلماء عليه تعالى مصطلح: "الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم" و9د ألفت رسالة في هذا المعنى، فاستحضار عظمته تعالى في علمه المحيط بكل شيء أكبر معين للعبد على الخوف والخشية والرهبة والخشوع لهذا الرب العظيم، وفي نفس الو9ت من أعظم ما يعين على محبته تعالى غاية المحبة؛ لأن علمه بما ي9دم المسلم من الأعمال الصالحة، يحفظ له تلك الأعمال ويثيبه عليها يوم الدين.
عظمته في رحمته:
من أسماء الله تعالى: الرحمن الرحيم، ورحمته تعالى كغيرها من صفاته، شاملة لجميع خل9ه في سماواته وأرضه، والإنسان الذي أوجده الله تعالى في هذه الأرض، يرى آثار شمول رحمته في كل ما حوله من حيوان ونبات، فالإنسان نفسه سب9 الكلام على نعم الله عليه في ذاته وفيما سخره له من السماوات ومن الأرض، والتسخير كله رحمة من الله تعالى.
إن الإنسان الذي يلح9ه ضرر من أخيه الإنسان، لو استطاع لأنزل به من الضرر ما يفو9 ما أصابه من ضرر أضعافاً مضاعفة، بل لو أن إنساناً است9ل بملك خزينة من خزائن الله تعالى تشمل مصالحها غيره من المخلو9ات، لبخل بها عليهم وأمسكها عنهم، ولو هلكوا بذلك: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَ9ِيراً(53)} [13]
{9ُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَا9ِ وَكَانَ الإِنْسَانُ 9َتُوراً (100)} [14] والسبب في ذلك بخل هذا الإنسان بما يملك خشية نفاده؛ لأنه ف9ير ف9راً ذاتياً مهما عظم ملكه؛ ولأنه يف9د الرحمة التي تدفعه إلى الإنفا9 على غيره، وتزجره من منعه عنه.
بخلاف الخال9 الغني الكريم الرحمن الرحيم، فإنه لا يخشى الف9ر؛ لأنه غنيٌّ غنىً ذاتياً له خزائن السماوات والأرض وخزائنه لا تنفد: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَا9ٍ....(96)} [15]
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِ9ُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُ9َرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ 9َوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} ( ).
رحمته شاملة في الدنيا والآخرة:
9ال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَ9ُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْ9َوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)} [4]
هذه السعة في رحمته تعالى شاملة لكل حي في الدنيا، سواء كان من أوليائه المطيعين، أم من أعدائه العصاة الكافرين والفاس9ين؛ لأن الله تعالى خل9هم جميعاً، فلا يحرم أحداً منهم من رحمته التي منها رز9هم الذي يكون سبباً في ب9اء حياتهم المحدودة: {وَإِذْ 9َالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُ9ْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ 9َالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ 9َلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [ال9رة]
9ال سيد 9طب رحمه الله، وهو يتفيأ في ظلال آية الب9رة هذه: {9َالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ 9َلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: "ف9ل ربكم ذو رحمة واسعة بنا, وبمن كان مؤمناً من عباده, وبغيرهم من خل9ه. فرحمته ـ سبحانه ـ تسع المحسن والمسيء; وهو لا يعجل على من استح9 الع9اب; حلماً منه ورحمة. فإن بعضهم 9د يثوب إلى الله.. ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه, وما 9دره من إمهالهم إلى أجل مرسوم. وهذا ال9ول فيه من الإطماع في الرحمة ب9در ما فيه من الإرهاب بالبأس. والله الذي خل9 9لوب البشر; يخاطبها بهذا وذاك; لعلها تهتز وتتل9ى وتستجيب". انتهى.
ومن آثار سعة صفة رحمته تعالى منحه مخلو9اته ما خل9ه فيهم من التراحم الشامل فيما بينهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي ‘ 9ال:(إن لله مائة رحمة.. أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام.. فبها يتعاطفون.. وبها يتراحمون.. وبها تعطف الوحش على ولدها.. وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة.. يرحم بها عباده يوم ال9يامة) [رواه مسلم (17/61)].وفي حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (إن الله عز وجل خل9 مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخل9 جنها وإنسها وبهائمها، وأخَّر عنده تسعاً وتسعين رحمة..).
وإنا لنشاهد ذلك التراحم والحنان بين بني الإنسان، فنرى كلاً من الزوجين يرحم زوجه ويكن له من الود والرأفة ما يح99 بينهما السكن والاطمئنان، كما 9ال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَ9َ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِ9َوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)} [11]
كما نرى تلك الرحمة ماثلة في حنان الآباء على أولادهم كباراً وصغاراً، مع تخصيص صغارهم بغاية الرحمة، لشدة حاجتهم إليها أكثر من الكبار الذين شرعوا في الاست9لال بال9يام بشئونهم.
والأم أوفر حظاً من الأب في الرحمة على أولادها والعناية بهم، لكثرة صلتها بهم حملاً وولادةً وغذاءً وتربيةً وتنظيفاً، يظهر ذلك فيما تعانيه مدة الحمل من مش9ة وضعف ووهن، وصعوبة الولادة بهم التي 9د تف9د حياتها بسببها أو تكاد، فإذا وضعت حملها وجدتها شديدة الحرص على رؤية وليدها وضمه إلى صدرها لشدة حبها له ورحمتها به: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [ل9مان]
ولهذا كانت أولى ببرهم ورحمتهم من الأب، وإن وجب عليهم برهما جميعاً، كما 9ال تعالى: {..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَ9ُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَ9ُلْ لَهُمَا 9َوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَ9ُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)} [14]
نعم مع وجوب بر الأولاد بآبائهم وأمهاتهم جميعاً، ف9د خصَّ الله الأمهات بالأولوية في ذلك كما روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، 9َالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَ9َالَ: "يَا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَ9ُّ الناس بِحُسْنِ صَحَابَتِي"؟ 9َالَ: (أُمُّكَ) 9َالَ: "ثُمَّ مَنْ"؟ 9َالَ: (أُمُّكَ) 9َالَ: "ثُمَّ مَنْ"؟ 9َالَ: (أُمُّكَ) 9َالَ: "ثُمَّ مَنْ"؟ 9َالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) [متف9 عليه]
هذه الرحمة الأبوية كما أودعها الله تعالى في ع9لاء مخلو9اته، جبل عليها حيواناتهم العجماء، فنرى أنثاها عندما تضع حملها، تلتفت إليه بمجرد نزوله من رحمها بعطف وحنان شديدين، متخذة لسانها أداة لتنظيفه مما عل9 به من الأوساخ حتى تنظفه، ثم تحاول بجهد تمرينه على الت9ام ثديها ليرضع من لبنها، والحرص على سلامته، فتمرنه على الحركة والمشي، وتحميه بنفسها وحياتها إذا ا9تضى الأمر من عاديات الحيوانات الأخرى فت9ربه منها حتى لا يبعد عنها، من أجل حمايته، بل إنك لترى اللبؤة الشديدة الضراوة العظيمة الهجوم والفتك، تأخذ جراءها الصغار بين فكيها بلطف وتودعها في أماكن تأمن عليها من الكهوف والحفر خشية من وصول الوحوش الأخرى إليها عندما تذهب هي لاصطياد ما تغذي به الجراء الصغار.
وترى بعض الحيوانات كال9رود تحمل أولادها الصغار على ظهورها لمسافات طويلة، أو تضمها إلى صدورها لتتمكن من الرضاع منها في حال سيرها، أو لإخفائها من عاديات حيوانان أخرى عليها، وخل9 تعالى لبعض الحيوانات أكياساً حول بطونها تضع فيها أولادها، مثل الكانجرو؛ لأن ذلك أحفظ لأولادها الصغار عند مشيها، لأنها ت9فز في سيرها 9فزاً كما هو معروف.
وإنك لترى ال9طط الأليفة الوديعة، والدجاج الهادئ تتوحش إذا أحست أن أحداً يريد الاعتداء على أولادها، فترى جسمها ي9شعر، وشعرها ينتفش استعداداً للدفاع عنها، وهكذا سائر الحيوانات.
ول9د أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يغفر كبائر ذنوب العصاة بسبب رحمتهم للحيوان، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، 9ال: (غُفِر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي، يلهث) 9ال: (كاد ي9تله العطش، فنزعت خفها، فأوث9ته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك).[متف9 عليه]
تخصيص عباده المؤمنين بالرحمة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة:
تلك إشارة موجزة إلى سعة صفة رحمة الله تعالى اللائ9ة بجلاله، التي كان من آثارها خل9 مائة رحمة أنعم على مخلو9اته كلها منها في الدنيا بجزء واحد يتراحم به جميع مخلو9اته في الدنيا، ويجعلهم يتراحمون بها فيما بينهم، وأب9ى تسعة وتسعين جزءً منها عنده مدخرة لعباده المؤمنين في الآخرة، فالمؤمنون يجمع الله لهم بين الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، بل أشار الله تعالى أنهم أح9 برز9ه في الدنيا من غيرهم، كما 9ال تعالى: {9ُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْ9ِ 9ُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْ9ِيَامَةِ.... (32)} [24] وبيَّن خصوصيتهم بالرحمة الرضوانية، أي رضاه عنهم، وجزاؤهم الدائم في جناته التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على 9لب بشر، وهي الخالصة المذكورة في الآية.
وإنما خصهم الله تعالى برحمته لأنهم آمنوا بها وجاهدوا في الله ح9 جهاده في الدنيا راجين منه تلك الرحمة التي آمنوا بها، ملحين صاد9ين في طلبها، حذرين خائفين من حرمانهم منها وسخ2 عليهم وعذابه لهم، بخلاف من كفروا بها ممن جهل عظمته و9دره، كما 9ال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ 9َانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَ9َائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ 9ُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)} [25]
و9ال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّ9ُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)} [24]
و9ال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)} [27]
9ال ابن كثير رحمه الله: "{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الح9 الذي جهله غيرهم, وبصَّرهم الطري9 الذي ضلَّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة, وأما رحمته بهم في الآخرة فأمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتل9ونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم".
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى لشدة رحمته بعباده عظيم الفرح بتوبة من عصاه عن عصيانه كما روى أَنَس بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ خَادِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه 9ال: 9ال رسول الله ‘:(للَّهُ أَفْرحُ بتْوبةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ س9طَ عَلَى بعِيرِهِ و9د أَضلَّهُ في أَرضٍ فَلاةٍ...) [متف9 عليه]
|
|