﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


كيف تتحقَّق قوةُ الصلة بالله؟

كيف تتحقَّق قوةُ الصلة بالله؟
وتتحقق قوة الصلة بالله بأن يكون المؤمن كله لله تعالى. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}. [لأنعام]
ولنفصل ذلك بعض التفصيل فيما يأتي:
تفقيهُ الأستاذِ طلابَه في الدين وتزكيتهم بالوحيين:
فعبادة الله والدعوة إلى الله تعالى لا بد أن يكون مصدرُهما الوحيين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقيهما يجب أن يكون على أيدي من وفَّقَه الله تعالى للتفقه فيهما؛ لأن الفقه فيهما شرط أساسي لمن يريد أن يعبد الله أو يبلغهما إلى الناس.
ومشايخ العلم الذين تفقهوا في دين الله تعالى هم المؤهلون للتبليغ، ومن أراد أن يتأهل للبلاغ المبين يجب أن يتفقه في الدين على أيديهم كما تفقهوا هم على أيدي الشيوخ من قبلهم.
هؤلاء العلماء المؤهلون لتبليغ دين الله والتزكية به، هم العلماء العاملون بما تعلموه، المتزكون به في أنفسهم، الذين يرى فيهم أتباعُهم القدوةَ الحسنة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن من لا يعمل بعلمه ليس أهلاً لتبليغ رسالةِ الله، وليس أهلاً لتزكية غيره بها.
فقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، آيات كتاب الله عن الروح الأمين جبريل عليه السلام، الذي أخذه مباشرة عن ربه سبحانه وتعالى، كما تلقى أصحاب الرسول، ذلك الكتاب والسنة النبوية عنه صلى الله عليه وسلم.
وتلقى عن الصحابة ذلك أبناؤهم، وتلقى كبار التابعين عن صغار الصحابة، وهكذا استمرت أجيال الأمة، يأخذ اللاحق عن السابق حتى وصل إلينا. وهكذا يجب على علماء المسلمين وطلابهم أن يسيروا على نفس الطريقة في التعليم والتزكية.
ومن حاد عنها فتتلمذ على الكتب والدفاتر لنفسه، دون شيخ يُفَقِّهُهُ على قواعد أهل العلم ويصقل قلبه وعقله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته المطهرة، لم يكن أهلاً للتعليم والتزكية لغيره؛ لأنه ما فعل ذلك أحد إلا زاغ غالباً عن النهج الصحيح العاصم من الزلل. كما سبق قول الشاطبي رحمه الله: "وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذُ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقةً زائغة ولا أحداً مخالفاً للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف".
الحرص على حفظ العلم للعمل به وتبليغه:
قال تعالى ناهيا رسوله عن العجلة في حفظ القرآن، حرصا على ضبطه، وخشية من نسيان بعضه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}. [طه]
"ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" عَلَّمَ سبحانه نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم، يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على الحفظ، وشفقةً على القرآن مخافةَ النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ..}. [لجامع لأحكام القرآن للقرطبي]
ومثل آية طه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}.[لقيامة]
وفي هذه الآيات وعدٌ له صلى الله عليه وسلم، من الله تعالى بأن يجمع له هذا القرآن كله في صدره ليقرأه كاملاً بدون تكلف، وهو من حفظ الله لهذا الكتاب الذي أكده تعالى في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. [لحجر]
وقد كان جبريل يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كل ليلة من ليالي رمضان، كلَّ سنة كما روى ابن عباس رضي الله عنهـما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله، أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي لفظ: "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السلام، كان يلقاه، في كل سنة، في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله القرآن...". [لبخاري ومسلم]
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرص هذا الحرص الشديد على حفظ الوحي، ليبلغه إلى الناس، فهو قدوة لكل طالب علم بأن يستفرغ وسعه في حفظ العلم وضبطه، ليكون أهلاً للاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، والعلم لا يأتي بدون كد وتعب في الحفظ والفهم.
فلا بد من الجد والمثابرة في طلب العلم، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتب أهل العلم الذين يتمسكون بهما، ولا يقدمون عليهما قول أحد كائناً من كان، والاجتهاد في كل علم نافع للطالب ولأمته، لكنه يوجد فرق بين كيفية حفظ الرسول للقرآن، وحفظ غيره من أمته، فهو لا يحتاج إلى إجهاد نفسه في حفظه، لأن ربه ضمن له جمعه في صدره دون أن يجهد نفسه في حفظه.
أما غيره، فليس مضمونا له حفظ القرآن بدون جد واجتهاد وتكرار ومداومة على مراجعته، والتساهل في ذلك يحرمه من دوام حفظه، وطلب العلم من حيث هو أو القعود عنه، يؤدي إلى لهبوط إلى الجهل، والقعود عن معالي الأمور التي لا تنال بدون العلم وإخلاص العمل فيه لله.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "فحُقَّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم، في الاستكثار من علمه، والصبر على عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خيرٌ إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام كتابه، نصاً واستدلالاً، وفَّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريَبُ، ونوَّرت في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضع الإمامة". [لرسالة بتحقيق أحمد شاكر، صفحة 19.]
تزكيتهم بالعمل بما تفقهوا فيه:
دعا أبونا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما يبنيان أعظمَ بيتٍ من بيوت الله في غابر التاريخ، أن يبعث الله تعالى في أمتنا التي ستبدأ رحلتها في عبادة الله والدعوة إليه، من هذا المسجد الحرام، رسولاً يقوم فيها داعياً إلى أصول تلك العبادة وفروعها، ومجاهداً في سبيل ربه لإرسائها ورفع رايتها في الأرض.
تلك الأصول هي تلاوةُ آياته التي سينزلها الله إلى ذلك المبعوث الكريم، الشاملة لقراءته لفظاً، والإيمان بها عقيدةً، واتباع منهجها شريعةً وعملاً وسلوكاً، وتعليمهم كتابه المشتمل على تلك الآيات، وما يبينه به من سنته، أو يشرعه بها، أمراً أو نهياً، أو يرشد إليه من سلوك وآداب.
وسنته، هي "الحكمة" كما ذكر ذلك كثير من العلماء، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله في كثير من كتبه، ومنها كتاباه الرسالة والأم.
وفسر ها بعض العلماء بأنها "المعرفة بالدين، والفقه في التأويل والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى".
ولا منافاة بين التفسيرين. فسنته الصحيحة تُعَرِّف بالدين، وتفقه في التأويل، وتكسب من ألَمَّ بها الفهمَ الصحيح لدين الله، وهي نور ككتاب الله.
قال تعالى عن تلك الدعوة الإبراهيمية الإسماعيلية الضاربة في أعماق التاريخ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)}. [لبقرة]
ولقد استجاب الله تعالى لتلك الدعوة الكريمة ومَنَّ على هذه الأمة بتحقيقها، مشتملة على تلك الأسس التي دعا الخليلُ وابنُه إسماعيل، أن يقوم بها ذلك الرسول المبعوث الكريم، كما قال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)}. [لبقرة]
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}. [ل عمران]
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)}. [لجمعة]
وبتعليم هذه الأمة الكتاب والحكمة وتزكيتهم بهما، جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانت قبل ذلك في تيه وضلال.
كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. [ل عمران]
وقام صلى الله عليه وسلم، بوظيفته التي كلفه الله القيام بها في أمته، من تلاوة آيات الله عليهم، ودعاها إلى الهدى، وبشر وأنذر، كما قال تعالى عنه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92)}. [لنمل]
التزكية تعني التطهير والتربية:
والتزكية الربانية التي يجب على الأستاذ صبغ طلابه بها هي التطهير من كل ما يُدَنِّس نفوسهم ويُدَسِّيها من شركٍ ومعاصٍ وسلوكٍ سيء، وأفكار تخالف دين الإسلام، ودعوتهم إلى الاستقامة على فطرة الله الصافية، وتمسكهم بمنهجه الذي كلفه وكلف أمته بعده الدعوة إليه.
فالتزكية تشمل تطهيرَ القلوب وصقلَها من كل ما يفسدها، كعقائد اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، وكل فكر يخالف ما جاء به الإسلام، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً... وإصلاحها بإحلال حقائق أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام وأحكامه محل تلك المفسدات، مع إقامة الحجج والبراهين على عقول أصحابها بصحة ما به صلاحها من هذا الدين، وبطلان ما به فسادها مما يخالفه.
وإذا طُهِّرت تلك القلوبُ من الفساد، وحل محلها الصلاح؛ عمَّ الصلاح كل عضو من أعضاء أصحابها؛ ليصبحوا مستقيمين على جادة عبادة الله وطاعته، بعيدين عن مشاقته ومعاصيه.
فالقلوب أئمةُ الأجسام، تصلح بصلاحها، وتفسد بفسادها، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}. [لحج]
فجميع أعضاء الجسم تفسد إذا القلب، فلا العقول تؤدي وظيفتها فتعي ما ينفع صاحبها، ولا الآذان تسمع الداعي إلى ما ينجيه، ولا الأبصار ترى النور الذي ينتشر ضوؤه ليهديه إلى صراط الله المستقيم، فحياته إذا لم يكن قلبه حياً مبصراً حياة من ذكرهم الله تعالى في القسم الثاني من هذه الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. [لأنعام]
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن أصحاب القلوب الصالحة المبصرة هم الذين لا يجاوزون الحلال إلى الحرام، بل يتقون الشبهات التي لا يظهر لهم حِلُّها من حُرمتِها، وأن أصحاب القلوب الفاسدة العمياء يتقحمون تلك الشبهات التي تؤدي بهم إلى تعاطي ما هو بيِّنُ الحرمة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).[متفق عليه]
قال الحافظ في شرح الحديث في الفتح: "وخصَّ القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه".
أسباب صلاح القلوب:
ومن أهم ما يصلح القلوب، ذكر الله الذي ينطق به اللسان مع حضور القلب وخشوعه ولينه ولين الأجسام.
قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (23)}. [لزمر]
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}. [لرعد]
فالقلوب المطمئنة بذكر الله هي التي يوفق الله أصحابها للإيمان والعمل الصالح، ويسدد جميع جوارحهم لطاعته والبعد عن معاصيه، لينالوا فضل الله وثوابه الجزيل الذي عبر عنه تعالى بقوله: { طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.
و"طوبى" فسَّرها ابن عباس ـما بـ"فرح وقرة عين" وفسرت بـ "الخير" وفسرت بـ"الجنة" وهو تفسير تنوع وليس تفسير تضاد؛ لأن الفرح وقرة العين والخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا لأهل الجنة.
{وَحُسْنُ مَآبٍ} أي خير مرجع عند الله تعالى، وهو رضاه تعالى عنهم وجزاؤه لهم يوم الحساب.
والاطمئنان هو السكون، أي تسكن وتنشرح قلوبهم لذكر الله، فلا يعتريها قلق ولا اضطراب، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيراً".
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه "الأذكار": "فصل‏:‏ المرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه‏.‏ فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيح المختار استحباب مدَّ الذاكر قول‏:‏ لا إله إلا اللّه، لما فيه من التدبر، وأقوالُ السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة‏"‏.




السابق

الفهرس

التالي


15992230

عداد الصفحات العام

1382

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م