{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) } [النساء]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(09) التكفير وآراء العلماء في معاملة المنافقين

(09) التكفير وآراء العلماء في معاملة المنافقين

تفصيل الإمام الشافعي في معاملة المنافقين:

وقد بيَّن الإمام الشافعي رحمه الله أن المنافقين لا يدخلون في أحكام المرتدين، مع شدة كفرهم،
بل تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، واستدل على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، ومما قاله فذلك ما يأتي:

قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} إلى { لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون].
قال الشافعي: فبين أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركاً حتى أظهر الإيمان، وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان، مانع لدم من أظهره في أي هذين الحالين كان، وإلى أي كفر صار، كفر يسره، أو كفر يظهره، وذلك أنه لم يكن للمنافقين دين يظهر كظهور الدين الذي له أعياد وإتيان كنائس، إنما كان كفر جحد وتعطيل. وذلك بين في كتاب الله تعالى، ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله تعالى، أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جُنة، يعني والله أعلم من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنة فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا..} [المنافقون].

فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفراً إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان، وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله جل ثناؤه: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ.. (74)} [التوبة]. فأخبر بكفرهم وجَحْدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية، ووسمهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان وكانوا على غيره، قال U: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)} [النساء].

فأخبر تعالى عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جُنة من القتل، وهم المسرون الكفر، المظهرون الإيمان. وبين على لسانه صلى الله عليه وسلم، مثل ما أنزل في كتابه، من أن إظهار القول بالإيمان جنة من القتل، أقر من شُهِد عليه بالإيمان بعد الكفر أو لم يقر، إذا أظهر الإيمان فإظهاره مانع من القتل.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين.

فكان بيِّنا في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله تعالى إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر؛ لأن أحداً منهم لا يعلم ما غاب، إلا ما علمه الله تعالى، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة، فلا يحكم على أحد بظن، وهكذا دلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت لا تختلف".

وقال رحمه الله في موضع آخر: "وأخبر الله جل ثناؤه عن المنافقين في عدد آي من كتابه، بإظهار الإيمان والاستسرار بالشرك، وأخبرنا بأن قد جزاهم بعلمه عنهم بالدرك الأسفل من النار، فقال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } فأعلم أن حكمهم في الآخرة النار بعلمه أسرارهم، وأن حكمه عليهم في الدنيا إن أظهروا الإيمان جُنَّة لهم، وأخبر عن طائفة غيرهم فقال: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)} [الأحزاب].

وهذه حكاية عنهم وعن الطائفة معهم، مع ما حكي من كفر المنافقين منفرداً، وحكي من أن الإيمان لم يدخل قلوب من حكي من الأعراب.. وكل مَن حقن دمه في الدنيا بما أظهر مما يعلم جل ثناؤه خلافه من شركهم؛ لأنه أبان أنه لم يول الحكم على السرائر غيره، وأن قد ولى نبيه الحكم على الظاهر، وعاشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتل منهم أحداً، ولم يحبسه، ولم يعاقبه، ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال، ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم والصلاة على موتاهم وجميع حكم الإسلام وهؤلاء من المنافقين"[انتهى كلام الإمام الشافعي من الأم (6/157 – (6/166).].

قلت: قد يشكل على ما سبق من تطبيق أحكام الإسلام على المنافقين، كما تُطبَّق على غيرهم من المسلمين، نَهيُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم، بعد أن صلى على رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، كما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة]. كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "لما مات عبد الله بن أُبي بن سلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على بن أُبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا.. أُعدد عليه قوله.

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (أخِّر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه، قال: (إني خُيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها). قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً.. } إلى { وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}. قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ.. والله ورسوله أعلم" [صحيح البخاري (1/459) رقم (1300) ورواه من حديث عبد الله بن عمر بلفظ آخر (1/ص427) رقم (1210) وهو صحيح مسلم (4/ 1865) رقم (2400)، والآية من سورة التوبة]..

وقد أجاب الشافعي رحمه الله عن هذا الإشكال، بقوله في تفسير الآية: "فأما أمره أن لا يصلي عليهم، فإن صلاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن يكون قضى إذ أمره بترك الصلاة على المنافقين، أن لا يصلي على أحد إلا غفر له، وقضى أن لا يغفر لمقيم على شرك، فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له".. إلى أن قال: "ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم مسلماً، ولم يقتل منهم بعد هذا أحداً" [أحكام القرآن للشافعي (1/297)].

وتوسع في الجواب على هذا الإشكال في "الأم": "فإن قال قائل: فإن الله تعالى، قال: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } إلى قوله: { وَهُمْ فَاسِقُونَ } فإن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة المسلمين سواه، لأنا نرجو أن لا يصلي على أحد إلا صلى الله عليه ورحمه، وقد قضى الله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيراً.. وقال جل ثناؤه: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.. (80)} [التوبة]. فإن قال قائل: ما دل علي الفرق بين صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عنهم، وصلاة المسلمين غيره؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى عن الصلاة عليهم بنهى الله له، ولم ينه الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، ولا عن مواريثهم"..

قال الشافعي: "وقد عاشروا أبا بكر وعمر وعثمان أئمة الهدي، وهم يعرفون بعضهم، فلم يقتلوا منهم أحداً، ولم يمنعوه حكم الإسلام في الظاهر، إذ كانوا يظهرون الإسلام. وكان عمر يمر بحذيفة بن اليمان إذا مات ميت، فإن أشار عليه أن أجلس جلس واستدل على أنه منافق، ولم يمنع من الصلاة عليه مسلماً، وإنما يجلس عمر عن الصلاة عليه؛ لأن الجلوس عن الصلاة عليه، مباح له في غير المنافق، إذا كان لهم من يصلي عليهم سواه..." [الأم (1/259- 260)].

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النهي عن الصلاة على المنافقين، كان في عدد معين منهم، قال: "ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي: أنبأنا معمر عن الزهري قال: قَال حذيفة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني مسر إليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان). رهط ذوي عدد من المنافقين" [فتح الباري فتح الباري (8/387-338)].

وبهذا يتضح أن الأصل بقاء تطبيق أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام منهم، ولو ظهرت على بعضهم علامات النفاق، وأن النهي عن الصلاة عليهم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه المسلمين عن الصلاة عليهم، وأن الصحابة استمروا في الصلاة عليهم، وأن عمر رضي الله عنه، الذي قال لرسول صلى الله عليه وسلم عندما أراد الصلاة على ابن أُبي: "أتصلي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا" لم ينه عن الصلاة على من كان يشير عليه حذيفة بأنه من المنافقين، بل يترك هو الصلاة عليه، ويترك غيره من الصحابة يصلون عليه.

قلت: وفيما سبق من معاملة الرسول صَلى الله عليه وسلم، وأصحابه للمنافقين الذين هم أعظم كفرا من الكفار الأصليين من اليهود والنصارى والمشركين، دليل على جهل بعض الجماعات المعاصرة وأتباعهم من خوارج العصر، الذين يحملون السلاح ويقتلون به المسلمين –وبالأخص الضباط الجيوش وأفراد الشرطة الذي يحمون البلدان الإسلامية من عدوان المعتدين، بحجة أنهم كفار عندهم لأنهم يحمون الحكام الذين لم يطبقوا شريعة الله، مع أنهم يظهرون شهادتهم بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويفعلون مل ما هو مطلوب من عامة المسلمين، وهم في الحقيقة مسلمون، وليسوا بمنافقين، إذ لا فرق بينهم وبين بقية المسلمين في العالم، وقد يكونون أكثر التزاما من الذين يكفرونهم ويقتلونهم.







السابق

الفهرس

التالي


14224959

عداد الصفحات العام

1795

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م