(046)الإيمان هو الأساس- الأمر الثالث: دور علماء الأمة في الاجتماع والتفرق:
وسأحصر الكلام عن العلماء في مسألتين:
المسألة الأولى: في اجتماعهم أو اختلافهم فيما بينهم:
العلماء حقاً هم ورثة الأنبياء الذين ينشرون العلم ويزكون الناس بالعمل به، ويسعون في جمع كلمة الأمة على الحق، ويكونون قدوة حسنة للناس.
والأصل عندهم عدم الاختلاف فيما بينهم فيما ثبت لهم دليله، وظهر لهم معناه، فإذا التبس الحق واحتاج إلى اجتهاد، واختلفت فيه وجهات النظر، فإنهم يختلفون، ولكنهم جميعاً لا يقصدون إلا الحق، فإذا ظهر لأحدهم الصواب مع غيره اتبعه وعمل به، وإلا أخذ كل منهم بما ظهر له، معتقداً أن ما عنده صواب يحتمل الخطأ، وما عند غيره خطأ يحتمل الصواب، وبذلك يعذر بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، - وإن تباحثوا فيما بينهم لتجلية الأمر - ولا يفسد اختلافهم في ذلك ما بينهم من ود واحترام، ولا يفسِّق بعضهم بعضاً ولا يبدِّعه ولا يكفِّره، بل يثبت له ما أثبته الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الأجر الواحد فيما اجتهد فيه وأخطأ، والأجران فيما اجتهد فيه وأصاب، وقد جرى على ذلك أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، والتابعون وغيرهم من علماء الإسلام الصادقين.
وقد بين هذه القاعدة الإمام الشافعي رحمه الله، فقال: "كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه، منصوصاً، بيناً، لم يحل الاختلاف فيه، لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل إنه يُضيَّق عليه ضِيقَ الخلاف في المنصوص" [الرسالة: (ص: 560، م: 1674، 1675) وراجع (ص: 494، م: 1406 ـ 1409). وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله أربعة قيود فيما لا يجوز الخلاف فيه الأول: أن يوجد دليل من الكتاب والسنة في المسألة. الثاني: أن يكون حكم المسألة منصوصاً. الثالث: أن يكون بيناً. الرابع: أن يطلع العالم على ذلك الدليل.].
وقال ابن تيمية رحمه الله: "ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه، من ثناء ودعاء وغيره" [مجموع الفتاوى (8/234).].
وقال في موضع آخر: "وقد اتفق الصحابة - في مسائل تنازعوا فيها - على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والسياسة.. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد عليه الصلاة والسلام، ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة" [مجموع الفتاوى (19/122 ـ 123). تأمل قوله رحمه الله: "وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية... مع بقاء الجماعة والألفة.." مع ما ينشره من ضاقت صدورهم باختلاف العلماء في الفقه، في بعض جزئيات في العقيدة، كالذي ذكره ابن تيمية هنا، فأخرجوا أولئك العلماء المجتهدين من زمرة أهل السنة والجماعة، كالحافظ ابن حجر، والإمام النووي، وأمثالهما من رواد العلم، ويرددون عبارة: لا يجوز الخلاف في الأصول، لأن السلف لم يختلفوا في الأصول، وهي عبارة صحيحة في أصول الاعتقاد، كأركان الإيمان، وليست على إطلاقها في كل الجزئيات العقدية، كما هو واضح في الأمثلة التي ذكرها ابن تيمية، وكاختلافهم في فناء الجنة والنار.].
فللعلماء حالتان:
الحالة الأولى: أن يثبت عندهم الدليل، ويظهر المعنى لهم جميعاً على وجه واحد لا يحتمل غيره، وفي هذه الحال لا يسعهم الخلاف، لعدم وجود المسوغ له.
الحالة الثانية: أن يثبت عندهم الدليل، ويكون لمعناه احتمالان أو أكثر، وتختلف فيه وجهة نظرهم، فيرى هذا ما لا يراه الآخر، وهنا لا يلزم أحدَهم ما فهمه الآخر، بل يُقر كلُّ فريق على العمل باجتهاده كما قال ابن تيمية، مع بقاء الجماعة والألفة بينهم، وقيام كل منهم بما أوجب الله لصاحبه من حقوق، وعدم جواز ذكره بذم أو تأثيم.
فما نصيب علماء المسلمين اليوم من هذه القاعدة التي تجمع، ولا تفرق؟
بادئ ذي بدء نقول: إنه يوجد في الأقطار الإسلامية - وفي غير الأقطار الإسلامية -ـ علماء ذوو بصيرة وتقوى وورع، يسعون جادين في تطبيق هذه القاعدة، ويحزنهم ما يرون من تفرق علماء المسلمين وتمزقهم ويهيبون بإخوانهم العلماء أن يسيروا على نهج هذه القاعدة، ولكن هذا الصنف من العلماء قليل، سنة الله في عباده الصالحين: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [متفق عليه، وهو في اللؤلؤ والمرجان (ص 691، رقم: 1651).].
فإذا استثنيتَ هؤلاء وحزمت حقائبك وجلت في الأرض - في بلدان المسلمين أو غيرها - وجدت عجباً من الكثرة الكاثرة من المنتسبين إلى العلم، سواء أكانوا من جماعة واحدة أو من جماعات، وكثيراً ما تجد السبب في تنازعهم اتباع الهوى والجري وراء زعامات ومصالح مادية ولكنهم قد يسوغون مواقفهم بأسباب دينية، إذا سبرتها وجدتها أوهى من بيت العنكبوت. [وقد يكون سبب الخلاف دينياً، ولكنه لا يرقى إلى جواز المفاصلة والتنازع المؤدي إلى الفشل.].
إنك تجد بلداً إسلامياً يكاد عدد المسلمين فيه يتساوى مع عدد غيرالمسلمين، وتجد فيه أحزاباً كثيرة للمسلمين، وأحزاباً أخرى لغير المسلمين، فإذا فتشت عن علماء ذلك البلد وجدتهم قد تفرقوا في تلك الأحزاب كلها، فتجد بعضهم في حزب إسلامي وتجد بعضهم في حزب علماني [الكلام هنا لا يقصد منه نقد وجود عالم في حكومة علمانية أو غيرها، وإنما المراد وصف حال العلماء في التفرق والتنازع. وقد اشترك بعض الشباب الصالحين في حكومة علمانية في بعض الدول في جنوب شرق آسيا، فكان لهم أثر واضح في الإصلاح.] وتجد آخرين في حزب نصراني، فإذا جاءت جولة جديدة، ظن العالِم أن النصر الانتخابي فيها سيكون لحزب آخر انتقل إليه وترك الحزب الذي كان فيه، وكال المديح لحزبه الجديد ولو كان علمانياً، وكال الشتائم لحزبه القديم ولو كان إسلامياً!
وتجد بلدا آخر من بلدان المسلمين يتنافس فيه على زعامته رجل وامرأة، وتصدر فتاوى من غالب علماء المسلمين، في ذلك البلد وفي غيره، بعدم جواز تولي المرأة الولاية العظمى، ولكن علماء ذلك البلد ينقسمون قسمين: قسم يؤيد اختيار الرجل، وآخر يؤيد اختيار المرأة، ووراء كل عالم أتباعه، والمسوغات جاهزة لدى الجميع![وليس المقصود هنا حكم تولي المرأة منااصب قيادية في بلدان المسلمين، فهذا بحث آخر، وإنما المقصود تنازع العلماء الضار بهم]
وتجد في بلدان كثيرة جماعة واحدة، لا خلاف بين أفرادها في عقيدة ولا في مذهب فقهي، ولا في اتجاه فكري، ينشق منها أحد أعضائها – من العلماء! ـ ويكوِّن جماعة أخرى صغيرة، فإذا بحثت عن سبب الانشقاق وجدته الاستقلال بتلقي المساعدات المالية، ليس إلا.
وإذا تتبعت المواقف السياسية في البلدان الإسلامية، وجدت كثيراً من العلماء يتناقضون في فتاواهم في قضية واحدة كانت منكراً قبل سنين ولكنها اليوم أصبحت معروفاً، والمفتون هم المفتون والمسوغات جاهزة!
وإذا بحث أعداء تطبيق الشريعة الإسلامية عن مفت يحل ما حرم الله وأجمعت على تحريمه الأمة، كتحريم الربا، وجدوا من يفتي في ذلك ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ووُجد من يؤيد ذلك المفتي من أمثاله، بل قد يجد محاربو الإسلام من يفتيهم بشرعية قطع رقاب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقد يقبل أن يكون عضواً في صف الجواسيس على العلماء العاملين!
وتجد علماء السنة [السنة ـ هنا ـ يقابلها (الشيعة).] في بلد السنة متفقين على مذهب أهل السنة فينتدِب من بينهم أحد أدعياء العلم، لنشر مذهب الرافضة ويبني المدارس والمعاهد، ويجتذب الطلاب والمدرسين، ويحدث شقاً جديداً في صف المسلمين، والسبب الحصول على المال والسعي وراء الظهور.
وتجد بلداً تنتشر فيه السنة، وتتقلص البدعة، فيستاء من ذلك علماء البدع والخرافات، فيسعون في إيجاد مراكز وأوكار لبدعهم وخرافاتهم، فيجمعون لذلك المال، ويعمرون المدارس والمساجد، ويدرسون الطلاب ويدربونهم على تلك البدع والخرافات ويعدونهم لتدريسها ونشرها، ثم يسلطونهم على ذلك البلد لإحداث فتنة بين أهله!
وتجد آخرين لا همَّ لهم إلا الطعن في دعاة الإسلام الذين جاهدوا في الله حق جهاده ينسبون إليهم زوراً وبهتاناً ما هم منه براء، أو يتتبعون بعض الهفوات الصغيرة التي لا يسلم منها إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام، ويضخمونها ليخرجوهم بها من دائرة الإسلام.
وتجد طائفة من العلماء اتجهت في نشاطها إلى بعض أبواب الإسلام وقل نشاطها في سواه، والإسلام منهج شامل لكل حياة المسلمين، فإذا رأت جماعات أخرى اهتمت بأبواب الإسلام الأخرى جن جنونها، وفَسَّقتْ وبدَّعتْ واتهمت، وزعمت أنها وحدها حاملة الإسلام؛ لأنها تريد الجماعات كلها تنضوي تحت لوائها وتلتزم بمنهجها، مع أنها لو تأملت قليلاً لوجدت أن الجماعات الأخر تسقط عنها فرض الكفاية الذي لو لم يقم به أحد لكانت هي من الآثمين [ولقد انتقل هذا النزاع والصراع الموجود في بلدان المسلمين إلى المسلمين الذين نزحوا إلى البلدان غير الإسلامية، كدول أوربا وأمريكا، فوجد من التنافس على الزعامات في بعض المراكز الإسلامية ما وصل إلى درجة تدخل الشرطة في فض النزاعات، ووجدت صراعات الأحزاب والجماعات والدول بكاملها في تلك البلدان، مما أعطى لمن يتعمدون تشويه الإسلام دليلاً يدعمون به دعاواهم الماكرة، وقد بينت ذلك في رحلاتي إلى أوروبا، وأشرت إليه في محاضرة ألقيتها في القاعة الكبرى في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقد طبعت.].
وتجد من هؤلاء من يناصبون العداء للعلماء الذين ترجح عندهم الدخول في المعترك السياسي بعد دراسة هذا الأمر والتشاور فيه والمقارنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على الدخول في هذا العمل أو عدم الدخول فيه، والقصد من ذلك محاولة التقليل من الشر والظلم، والإكثار من الخير والعدل، وتقوية الدعوة إلى الله ونشرها والدفاع عن الدعاة، حسب الاستطاعة، كالدخول في الانتخابات البرلمانية وتولي بعض الوظائف، كالوزارات، فيسارع أولئك في اتهام هؤلاء بأنهم يقرون الطواغيت على الحكم بغير ما أنزل الله، ويشاركونهم في الإثم، وهذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها وجهات النظر، وقد يختلف حكمها في بلد عن بلد آخر، كما يختلف باختلاف الأشخاص، وعلماء كل بلد أولى بالحكم فيها من غيرهم، لأنهم أعلم بواقع بلدهم من غيرهم..
والذي يطلع على معركة علماء اليمن فيما يتعلق بالدستور، ويقارن بين الدستور الدائم للجمهورية العربية اليمنية [وكان لبعض العلماء جهود عظيمة في إثبات بعض مواده التي صبغت بالصبغة الإسلامية، في وقت لا يجرؤ فيه على التقدم باقتراح مواد إسلامية في الدستور إلا عظماء الرجال، إذ كان في عهد سيطرة عبد الناصر على اليمن، وكان الداعية المسلم يعد رجعياً يستحق القتل، وقد اغتيل الأستاذ الزبيري، رحمه الله، وكان شجاعاً في قول كلمة الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.] والميثاق الوطني الذي يعد منطلق المؤتمر الشعبي [وكان لعلماء اليمن ـ أيضاً ـ جهود موفقة في إدخال كثير من القواعد والأفكار الإسلامية.] ومشروع الدستور الذي أُرِيدَ إقراره بعد قيام الوحدة، وقد وضع بعناية لزحزحة الحكم بالإسلام في اليمن، أقول الذي يقارن بين هذه الثلاثة من جهة، وبين دستور الجمهورية اليمنية الذي أقره الشعب اليمني بعد هزيمة الحزب الاشتراكي، يعرف قدر هؤلاء العلماء وجهادهم المتواصل لتسديد حكامهم والحفاظ على إيمان الشعب اليمني الذي هو من أهم سماته بشهادة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء العلماء هم الذين نشروا الدعوة في اليمن، ونشروا السنة في أماكن ما كان أحد يجرؤ على المجاهرة بالعمل بها، فضلاً عن الدعوة إليها، وغالبهم [نعم غالبهم، وإلا فمنهم علماء مجاهدون كبار لم يأخذوا العلم في خارج اليمن، ومنهم القاضي يحيى بن لطف الفسيل رحمه الله، الذي أنشأ أول معهد علمي في اليمن بعد الثورة.] من علماء الأزهر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة أم القرى، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية [الجامعات الثلاث الأخيرة كلها في المملكة العربية السعودية.]. وهؤلاء العلماء الذين وفقهم الله فمكنوا بعض الدعاة من نشر الدعوة السلفية في معقل الجارودية [الذين مثلهم الحوثيون في هذه الفترة القائمين بالدعوة السلفية في دماج وأخرجوا أساتذتهم وعوائلهم وطلابهم وشردوهم في هذا العام 1435ه-2014م ].
وهؤلاء العلماءهم الذين تسببوا في إقامة مئات المعاهد العلمية في كل نواحي اليمن، وهم الذين جاهدوا في سبيل وضع مناهج المدارس الحكومية والكتب الدينية التي نفع الله بها وقضى على الإلحاد الذي كاد يتغلغل إلى كل بيت في اليمن عن طريق المدرسين اليساريين الذين درسوا في البلدان الشيوعية من اليمنيين وغيرهم، وعن طريق الطلاب الذين كانوا يتلقون الشبه الإلحادية وينقلونها إلى أسرهم.
وكانوا مع جهادهم هذا يطارَدون ليزج بهم في السجون فيتركون منازلهم ويفرون إلى الجبال والوديان لينشروا الدعوة والوعي المطلوب بين القبائل، وهم الذين قضوا، بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة، على كثير من الخرافات التي كانت منتشرة في اليمن.
وهم الذين نجحوا في مناصرة بعض زعماء قبائل اليمن الدعوة إلى الله وتحكيم شرع الله في اليمن.
وهم الذين كافحوا ولا زالوا يكافحون في كل ميدان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مجلس النواب، وفي مجلس الوزراء، وفي المؤسسات الشعبية، وفي المساجد، وفي المؤسسات التعليمية، والمؤسسات الإعلامية، في حدود طاقتهم، وكل وزير منهم - عندما اشتركوا في الحكم بعد الوحدة - يسعى جهده في وزارته لتحقيق المصالح ودفع المفاسد والأمر ليس كله بيدهم، حتى يطبقوا كل ما يريدون من الخير.
وقبل ذلك هم الذين كسروا شوكة الشيوعيين الذين أرعبوا الناس في المناطق الوسطى من شمال اليمن في الثمانينات، حتى أصبحوا يسيطرون على كثير من المناطق يسفكون الدماء ويحتلون الأعراض وينهبون الأموال، فاختل الأمن واستسلم الناس لهم.
وهم الذين شاركوا في إزالة قوة كابوس الشيوعية والإلحاد في الحرب الأخيرة التي وحدت الشطرين اللذين كانا منفصلين.
أهؤلاء - وأمثالهم - يجزون بالتأثيم والتفسيق ودعوة الناس إلى مقاطعتهم واتهامهم بممالأة تحكيم القوانين المخالفة للإسلام، وهم يبذلون كل جهد في كل مادة في الدستور أو القوانين لتكون متفقة مع شرع الله!؟
هذا من حيث الواقع، فما حكم تَقَلُّد أعمال حكومية لا يستطيع الموظف فيها أن يقوم بكل ما يجب عليه أو يستحب القيام به من حيث الشرع؟
هنا تجيب المصالح التي جاء الشرع لجلبها، والمفاسد التي جاء الشرع لدفعها، وسأدع الجواب للعلامة الفقيه الداعية المجاهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي فقهه الله في دينه، وهو يتحرك بالدعوة، بتفقه في النصوص ويعمل بها، ويتعرف على الواقع وينزل النصوص عليه، كما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعلون [وليس من الذين يحفظون بعض النصوص، ويجهلون الواقع الذي تنزل عليه فيصدرون الفتاوى المتسرعة بناء على هذا الجهل!.].
فقد قال رحمه الله: "إذا كان المتولي للسلطان العام، أو بعض فروعه، كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت... وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً، فتوسط رجل بينهما، ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم، مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسناً، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً... ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً... ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[ التغابن: 16، مجموع الفتاوى (20/55 ـ 57).]".
وقال في موضع آخر: "والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.." [مجموع الفتاوى (19/218).].
ولا شك أن التخفيف من الشر خير من تركه يكثر، إذا لم يُستَطَعْ إزالته كله، وتكثير الخير خير من تركه يقل إذا لم يُستَطَعْ جلبه كله، ونور في ظلمة خير من ظلمة لا نور فيها، كما قال ابن تيمية في موضع ثالث: "فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل على نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك، يخرج من النور بالكلية" [مجموع الفتاوى (10/364). هذا مع العلم أن بعض حكام المسلمين يقرون بشرع الله، ويطبقونه مع نقص، ووجود العلماء في بعض المناصب يساعدهم عل تكميل شيء من ذلك النقص، فليسوا كملك مصر، وقد عمل يوسف عليه السلام والياً عنده.].
فالواجب على العلماء أن يتدبروا المسائل الاجتهادية النازلة ويتدارسوها حتى يتبين لهم وجه الحق فيها، ولا يتسرعوا في حكم بعضهم على بعض، فإن تبين لهم جميعاً وجه الحق، عملوا به، وإلا أقر كل فريق صاحبه على ما أداه إليه اجتهاده الذي سيثيبه الله عليه أخطأ أم أصاب، كما مضى.
ويجب التنبيه هنا، على قاعدة مهمة، كثيراً ما ينساها، أو يتناساها، بعض المنتسبين إلى العلم، وهي أنه قد يحصل من بعض العلماء ما يخالف شرع الله مخالفة صريحة، مما لا يبلغ حد الكفر، كالمعاصي وبعض البدع، والواجب في هذه الحال نصحه، وأمره ونهيه، ولا مانع من هجره [راجع في موضوع الهجر, وأنه يتبع المصلحة: مجموع الفتاوى (28/203 ـ 210).] ، إذا أدى إلى صلاحه أو إلى تحذير الناس من الاغترار به، ولكن ذلك لا يقضي على ما له من حق الموالاة بقدر ما عنده من الخير، ومعاداته بقدر ما عنده من الشر..
فالولاء والبراء يتجزآن، كما يتجزأ الإيمان، فما يراه بعض من ينسى هذه القاعدة من أن الولاء لا يتجزأ وكذلك البراء، ويبنون على ذلك المعاداة المطلقة للعلماء أو الدعاة الذين يدخلون في هذا الصنف، هو مذهب الخوارج الذين يرون أن الشخص الواحد، إما أن يكون مستحقاً للثواب فقط أو مستحقاً للعقاب فقط..
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله على من يعتقد هذا الاعتقاد، فقال: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة... هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة..." [مجموع الفتاوى (28/209).].
هذه هي المسألة الأولى، وهي اجتماع العلماء أو اختلافهم فيما بينهم، وإذا كانت هذه هي حال العلماء في التنازع والتفرق والتدابر والتقاطع، فكيف ينال المسلمون العزة التي من أهم مقوماتها اجتماع الكلمة على الحق، والعلماء هم قدوة الأمة، والناس لهم تبع؟ [قلت في إحدى قصائدي:
وتفرق العلماء كل يدعي،،،،،،،،،،،أن الهدى تحت العمامة والرداء
والأرض يغمرها الضلال وتصطلي،،،،فيها الخلائق كلها نار الشقاء
هتاف العزة والجهاد (ص: 88).].
|
|