(012) أثر فقه عظمة الله في الخشوع له
تخصيص عباده المؤمنين بالرحمة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة:
تلك إشارة موجزة إلى سعة صفة رحمة الله تعالى اللائقة بجلاله، التي كان من آثارها خلق مائة رحمة أنعم على مخلوقاته كلها منها في الدنيا بجزء واحد يتراحم به جميع مخلوقاته في الدنيا، ويجعلهم يتراحمون بها فيما بينهم، وأبقى تسعة وتسعين جزءً منها عنده مدخرة لعباده المؤمنين في الآخرة.
فالمؤمنون يجمع الله لهم بين الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، بل أشار الله تعالى أنهم أحق برزقه في الدنيا من غيرهم، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.... (32)} [الأعراف]. وبيَّن تعالى أن الرحته الرضوانية، أي رضاه عنهم، وجزاؤهم الدائم في جناته التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهي الخالصة المذكورة في الآية.
وإنما خصهم الله تعالى برحمته لأنهم آمنوا بها وجاهدوا في الله حق جهاده في الدنيا راجين منه تلك الرحمة التي آمنوا بها، ملحين صادقين في طلبها، حذرين خائفين من حرمانهم منها وسخطه عليهم وعذابه لهم، بخلاف من كفروا بها ممن جهل عظمته وقدره، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)} [الزمر]. وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)} [الأعراف]. وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)} [الأحزاب].
قال ابن كثير رحمه الله: "{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم, وبصَّرهم الطريق الذي ضلَّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة, وأما رحمته بهم في الآخرة فأمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم" انتهى.
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى لشدة رحمته بعباده عظيم الفرح بتوبة من عصاه عن عصيانه، لأنه تعالى يحب أن يتوبوا لينالوا رحمته، ولا يُحرَموها، وعدم توبتهم، قد تحرمهم من تلك الرحمة، كما روى أَنَس بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ خَادِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للَّهُ أَفْرحُ بتْوبةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سقطَ عَلَى بعِيرِهِ وقد أَضلَّهُ في أَرضٍ فَلاةٍ...) [متفقٌ عليه].
مقارنة لطيفة:
جزء من مائة جزء من الرحمة أنزلها سبحانه وتعالى لجميع خلقه في الدنيا، وأبقى تسعة وتسعين جزءً، يرحم عباده بها يوم القيامة، ودلَّ حديث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن أهل النار تسعة وتسعون في الألف، وأن أهل الجنة واحد من الألف، وهذا يدل على إكرام الله لأهل طاعته، الذين يلقى كثير منهم من أعداء الله الصد والعدوان والاستضعاف من أهل الكفر والطغيان، الذين يفتنونهم بالسجون والاعتقال، والتعذيب بالرجم والحرق بالنار والنفي من بلدانهم وديارهم، والقتل والصلب، فسبحان الله الذي أعطى كلاً من القسمين ما يناسبه!
وهذا نص حديث أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد). قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: (أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً). ثم قال: (والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة). فكبرنا، فقال: (أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة). فكبرنا، فقال: (أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة). فكبرنا، فقال: (ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود) [الحديث في صحيح البخاري (3/1221) ومسلم (3/77)].
أعظم رحمة الله بخلقه إنزال كتبه وإرسال رسله إليهم:
وإن أعظم رحمة منحها الله تعالى البشر في هذه الدنيا، وفي الآخرة لمن قَبِلَها واهتدى بها، وحيه الذي أنزله لهداية عباده، ورسله الذين كلفهم تبليغهم، وآخر ما أنزله من الوحي وأكمله القرآن الكريم، وآخر الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً (3)} [المائدة]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ى الله عليه وسلم: (وأنا خاتم النبيين) [متفق عليه]. قال تعالى مبيناً أن وحيه رحمة لمن آمن به: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(203)} [الأعراف].
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته:
فرسالته تعالى رحمة كوحيه لكل من اهتدى بهما، وإنما خصَّ المؤمنين بكونه رحمةً لهم لانتفاعهم به، بخلاف الكافرين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم شديد العطف والرحمة والرأفة بأمته، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء].
وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان الناس كلهم بما جاء به من عند ربه، وشفقته عليهم، يحزن حزناً شديداً على عدم استجابتهم، خوفاً عليهم من سوء عاقبتهم عند ربهم، ولهذا كان الله تعالى يسليه بما ينزل عليه من آياته، مثل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام]. وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)} [النمل]. وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً(6)} [الكهف].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الكهف: {بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَسَفاً} يقول: لا تهلك نفسك أسفاً.... أي لا تأسف عليهم, بل أبلغهم رسالة الله, فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضلَّ فإنما يضل عليها, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات".
وكان يحزنه صلى الله عليه وسلم ويعظم عليه ما يصيب أمته المؤمنة من مشقة وعنت، كما قال تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة].
وتأمَّل شدة رحمته صلى الله عليه وسلم ورأفته، على أمته، التي تضمنها حديث جابرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مثَلِي ومثَلُكُمْ كَمَثَل رجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَراشُ يَقَعْنَ فيهَا وهُوَ يذُبُّهُنَّ عَنهَا، وأَنَا آخذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النارِ، وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ منْ يَدِي) [رواه مسلمٌ].
|
|