{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) } [النساء]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(08) التكفير واختلاف العلماء فيه

(08) التكفير واختلاف العلماء فيه

تَعَيُّنُ الجمع بين النصوص:

ومن أهم أسباب اختلاف العلماء، وجود نصوص من القرآن والسنة، قد يبدو من ظاهرها، تعارض، فيأخذ كل منهم بما يبدو له أنه الحق، مع ما أن ظاهره التعارض منها يمكن الجمع بين النصوص، فيتعين الجمع ويزول ما يظهر منه ذلك التعارض.

لذلك يجب الجمع في موضوعنا هذا بين النصوص النافية للإيمان عن مرتكبي الكبائر، والنصوص المثبتة لإيمانهم. مثل حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقَه). [صحيح البخاري (5/2240) رقم (5670) وصحيح مسلم (1/68) ورقم (46)]. ومثله حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطرُ الحق وغَمْط الناس). [صحيح مسلم (1/93) رقم (91)].

فقد نفى صلى الله عليه وسلم، عمن آذى جاره فخدعه أو خانه دخول الجنة، ونفى ذلك عمن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولو حمل الحديثان على ظاهرهما -وهو عدم دخوله الجنة- لما كان بينهما وبين من يعبد الأوثان فرق، لاشتراكهم في الخلود في النار، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وجهلة المغالين في التكفير، ممن قد ينتسبون إلى أهل السنة، ولكان في ذلك إهدارٌ لمعاني كل ما ورد من النصوص الدالة على غفران الله ذنوب من لقي الله لا يشرك به شيئاً، والنصوص التي تضمنت خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان بشفاعة وبغير شفاعة.

ومثل نفيِ دخول الجنة عمن ارتكب كبيرة، نفْيُ الإيمان عنه كحديث أبي هريرة ـ أيضاً ـ الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن). [البخاري (2/875) رقم (2343) ومسلم (1/76)].

فهذان الحديثان وغيرهما من الأحاديث التي نُفِيَ فيها الإيمانُ أو دخولُ الجنة عن مرتكبي الكبائر، يدل ظاهرها على سلب الإيمان عنهم، وسلب الإيمان يقتضي ظاهره إثبات الكفر المخرج لهم من الملة وعدم

مغفرة الله لهم وخلودهم في النار.. والأخذ بظاهر هذين الحديثين وما في معناهما يلزم منه إهدار نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وقد مضى ذكر بعضها في المسألة الثانية.

ومنها حديث أبي ذر [تقدم في الحلقة السايقة] الصريح في أنه (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة). وفيه كرر أبو ذر سؤاله للرسول صلى الله عليه وسلم "وإن زنى وإن سرق؟" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر له الجواب: (وإن زنى وإن سرق). ولم ينته أبو ذر من ترديد سؤاله الذي أبدى فيه عَجَبَه من نيل هذا العبد الذي يعصي ربه بالتعدي على حقوقه وحقوق عباده، هذه الرحمةَ العظيمة من خالقه، لم ينته أبو ذر من سؤاله، إلا بعد أكد له رسول الله بهذه العبارة النبوية (على رغم أنف أبي ذر) أن تلك الهبة الربانية لمن مات على توحيد حقيقة، لا مرية فيها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.. والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى حق الله تعالى وحق العباد.. وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)؛ لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر.. لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة، بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار" [فتح الباري (3/111)].

والإيمان الكامل المنفي هنا يجب حمله على الواجب منه، مثل نفيه صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لا يأمن جاره آذاه وخيانته، وفرق بين نفي أصل الإيمان، ونفي الواجب منه، فإن نفي أصل يفقد صاحبه الإيمان الذي يقابله الكفر، ومن باب أولى نفي الإيمان المندوب، مثل رد السلام الذي قام به غيره، ومثل الصلاة على الجنازة التي قام بالصلاة عليها سواه، فإن كلاً منهما من الإيمان، فالإيمان غير الواجب إذا تركه المسلم لا ينفى عنه الإيمان، وإنما ينفى عمن ترك الإيمان الواجب. قال ابن تيمية رحمه الله: "وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد..." [مجموع الفتاوى (7/258)]..

وفيما سلكه الراسخون في العلم للأمة نجاة:

وإن فيما ذكر عن ابن عباس وغيره من الصحابة، مخرجا من ورطة الخوارج والمعتزلة، الذين أخذوا
بظواهر بعض الأدلة وأهملوا غيرها، حيث قال  في كفر من حكم بغير ما أنزل الله: "كفر دون كفر"، وحملوا الكفر المخرج من الملة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله. ومعلوم أن في مسلك المجتهدين الراسخين في العلم من سلف هذه الأمة، قدوة للمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم؛ لأن اجتهاد الأولين وعملهم بالدليل يزيده قوة، ولهذا لم يخرج عن اجتهادهم في الحكم بالكفر المخرج من الملة على العصاة، إلا من فقد الاجتهاد -الحق الذي دلت عليه النصوص، وسلكه سلف الأمة الذين تمسكوا بذلك، -أو اتبع هواه كالخوارج والمعتزلة.

قال الشاطبي رحمه الله: "ولكن المخالف على ضربين:

أحدهما: أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا.. فإن كان كذلك، فلا حرج عليه، وهو مأجور على كل حال، وإن لم يُعطِ الاجتهادَ حقَّه، وقصَّر فيه، فهو آثم، حسبماً بينه أهل الأصول.

والثاني: أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطاً أو مغالطة، إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة، ولا رأوه أهلاً للدخول معهم فهذا مذموم، وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم؛ لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها، لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون، أوفى مسألة موارد الظنون لا ذكر لهم فيها.. فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل" [الموافقات (3/76)].

نخلص من كل ما مضى في هذه المسألة إلى أمور أربعة:

الأمر الأول: تعين الجمع حيث أمكن بين الأدلة التي قد يظهر منها التعارض عند بعض المجتهدين.

الأمر الثاني: أنه لا يجوز لغير المجتهدين المحققين إدخال أنفسهم في ميادين الاجتهاد؛ لأنهم ليسوا من أهله.

الأمر الثالث: أنه لا يجوز لأحد إخراج أحد من ملة الإسلام تحقق دخوله فيها إلا بدليل قطعي فيه من الله برهان.
الأمر الرابع: أن عامة من حكموا على أهل المعاصي بالكفر أو الخلود في النار، هم من أهل الأهواء أو ممن ليسوا أهلاً للاجتهاد.




السابق

الفهرس

التالي


14239895

عداد الصفحات العام

1404

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م