﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(044) سافر معي في المشارق والمغارب

(044) سافر معي في المشارق والمغارب

معركة حوار طويلة ساخنة، وأترك هذه الحلقة كاملة بدون تقسيم، لترابط سير التحاورين.

مع حركة الشعب ضد العصابات والإجرام والمخدرات:

كنت قد سمعت عن جماعة إسلامية في جنوب أفريقيا تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنها تحارب عصابات الإجرام وبيع المخدرات، ورأيت مرة في التلفاز السعودي لقطات عن مظاهرات ومصادمات في الشوارع ـ لا أدري في أي مدينة من مدن جنوب أفريقيا ـ قتل فيها بعض الأشخاص، كان ذلك قبل سفري إلى هذا البلد بأكثر من سنة. ولم أكن أعرف شيئاً عن هذه الجماعة.

وعندما زرت مدينة "كيب تاون" هذه السنة (1420ﻫ) في شهر ربيع الأول وجدت في جدول زياراتي "مؤسسة باجاد BAGAD )، وسألت عنها فوجدت غالب من أسألهم يصفونها بالعنف والشدة وإحداث قلاقل وتشويه لصورة الإسلام، وتتسبب في تخويف الناس من المسلمين، وأنها قد لا تتورع عن العنف مع من يخالف أسلوبها من المسلمين.

ومن عادتي أني لا أكتفي بقول جماعة في جماعة أخرى، بل أحاول أن أجتمع بالجماعات مباشرة وآخذ عنها المعلومات منها. وكان لي لقاء مع هذه الجماعة مساء هذا اليوم بعد صلاة العشاء، وكان معي الأخ محمد الأعمش المغربي، والأخ محمد نور، صلينا العشاء في مسجد القدس وحملنا بعض أعضاء الجماعة في سيارة لهم إلى منزل أحدهم.



تعارف وامتناع ومصارحة ثم مشاورة وتحفظ:

اجتمع عدد منهم - غالبهم من الشباب من الرجال والنساء - وعَرَّفهم الأخ محمد نور بالزائر
وقصده من الزيارة، ومن ذلك أخذ معلومات عن الجمعيات الإسلامية. فتشاوروا باللغة الإنجليزية فيمن يتحدث منهم وبماذا يرد على طلبي، واتفقوا على شاب منهم، فقال: نحن قررنا عدم الإجابة عن أسئلة الزائرين، لأن كثيراً منهم يسمعون منا ثم يذهبون ويحرفون كلامنا ويكذبون علينا.

قلت لهم: أنا ضيف عندكم، وقد أخبرتكم برغبتي، وقد زرت جمعيات وشخصيات إسلامية في العالم وكتبت عنهم، ولستم مجبرين على الإجابة عن أسئلتي، فإن شئتم أن تجيبوا فهذا ما أريد، وإن شئتم ألا تجيبوا فأنتم وشأنكم. ولكني أود أن تعلموا أنني قد سمعت عنكم معلومات من غيركم، وأحببت أن لا أعتمد عليها وإنما أردت أن آخذ المعلومات عنكم منكم مباشرة.

فالتفت بعضهم إلى بعض ثم تهامسوا قليلاً، وقال الناطق باسمهم: نحن نستأذنك لنتحول إلى مكان آخر، لنجري الشورى فيما بيننا ثم نعود إليك بالجواب. قلت: ولكم ذلك. مكثوا ربع ساعة تقريباً ورجعوا، وقال صاحبهم: نحن نسمع أسئلتك، ولسنا ملزمين بالإجابة عن كل سؤال، بل نجيب عما نريد الإجابة عنه.

قلت: ولكم ذلك، بل لو أردتم أن تقولوا عن كل سؤال: لا جواب قبلت ذلك منكم. قالوا: والذي يتولى الإجابة هو أميرنا ـ وكان أميرهم جالسا بجواري ـ ولم يكن هو الذي يتحدث معي قبل ذلك.

قلت: ما اسمك الكريم؟ قال: قاسم باركر. قلت: كم عمرك؟ قال: لا جواب!!! قلت: تخصصك؟ قال: لا جواب!!!

قلت: ما اسم مؤسستكم؟ قال: مؤسسة الشعب ضد العصابات والإجرام والمخدرات؟
قلت: ما أهدافها؟ قال: الهدف الرئيس تطهير المجتمع من العصابات الإجرامية والمخدرات.
قلت: ما الوسيلة التي تتخذونها لتحقيق هذا الهدف؟ قال: التعليم والتربية والتحرك الجماعي للضغط على الحكومة لتطهير المجتمع من ذلك.

قلت: ما موقف الحكومة من ذلك؟ وهنا انطلق يسرد تاريخاً طويلاً لعمل الحركة وصدامها مع الدولة فقال: الأصل أن الحكومة يجب أن تطهر المجتمع، لكن هذه الحكومة لا تفعل ذلك، الحكومة بسبب تساهلها تدعم وجود ذلك بطريقة غير مباشرة.

في شهر نوفمبر من عام 1996م اجتمعنا مع ثلاثة وزراء، وهم: وزير العدل ووزير السجون ووزير الأمن والمباحث، وأوضحنا لهم أهداف المجتمع وما يطلبه الشعب، وعرضنا عليهم خطة مشتركة بيننا وبينهم لتحقيق التطهير. ولم تقبل الحكومة الخطة المعروضة كاملة، وكُوِّنت لجنة منا ومن الحكومة على أن يرأس اللجنة المدعي العام لـ(الكيب الغربية) وثلاثة أشخاص من كل وزارة من الوزارات المذكورة، وخمسة من مؤسستنا (BAGAD).

وفي الجلسة الأولى اقترح المدعي العام أول خطوة من الخطوات التي تحقق الهدف المطلوب، وهي: إغلاق جميع المنافذ في البلد أمام المخدرات، ولكنهم اعتذروا لعدم الإمكانات الكافية لتنفيذ هذه الخطوة. واقترح المدعي العام إقامة مظاهرة من قبل الحركة في المطار الدولي في كيب تاون، لتنبيه الناس على خطر المخدرات، وضرورة إيجاد وسائل لمنعها.

واتبعنا الإجراءات اللازمة لإصدار تصريح بإقامة المظاهرة وأخذنا التصريح فعلاً.

وقبل يوم من إقامة المظاهرة، جاءنا بلاغ من وزير المواصلات بمنع قيام المظاهرة، فأخبرناه أن لدينا تصريحاً بذلك بناء على اقتراح المدعي العام، فأجاب أن هذا المنع مبني على توجيهات الرئيس. ولكنا قررنا عدم التراجع وأقمنا المظاهرة، ولم تمنع الشرطة المظاهرة في أول الأمر، ولكنهم

تدخلوا بعد ذلك وطاردوا الجماهير، واعتقلوا اثنين وعشرين منهم، وتبين في المحكمة أن تصرف الشرطة لم يكن قانونياً، وقُبِل الحكم. وبعد ذلك أعلن المدعي العام على التلفاز أن هذه الحركة ليست أفضل من عصابة، وأنها تقوم بأعمال ضد الشرطة. عندئذ توقف عمل اللجنة المشتركة.

واجتمعنا بالشرطة في شهر سبتمبر من عام 1997م وحضر مندوبون من مكتب المدعي العام، ومن سكرتارية الأمن، ومن الاستخبارات المشرفة على أعمال الشرطة، بإشراف مركز الإصلاح بين المختلفين التابع لجامعة كيب تاون، وأكدنا للشرطة أننا لا خلاف لنا معهم، وافقنا مع الشرطة على إيجاد عمل مشترك ضد المخدرات، وكان هذا هو الإطار العام للاتفاق.

ثم حصلت اجتماعات لمناقشة تفاصيل هذا الإطار، مثل إعطاء الشرطة معلومات عن الأماكن التي توجد فيها المخدرات. وكنا ـ بعد ذلك ـ نقوم مرتين في الأسبوع بمسيرات. ولكن الشرطة برغم علمها بأماكن المخدرات لم تقم بواجبها، فأعلنا ذلك، وطلبت منا الشرطة إيقاف المسيرات لمدة شهر.

واجتمعنا مع الشرطة وحصل بيننا اتفاق وقعنا عليه جميعاً، توقفنا بموجبه عن المسيرات شهراً، ولكن الشرطة لم تفعل شيئاً مما اتفقنا عليه، ولم تهاجم أي موقع من مواقع العصابات، بل قاموا بعكس ذلك، فمنعوا الحركة من عملها، واعتقلوا بعض أعضائها، وحجزوا سلاحها المصرح به.
بعد ذلك حصل اجتماع بيننا وبين مندوبيهم، وقد غيروا الأعضاء السابقين بأعضاء كانوا موظفين مع الحكومة العنصرية السابقة، وأظهر هؤلاء السخرية منا، وقالوا: نحن لا نتحدث مع أناس قد دخلوا المعتقلات، أرادوا بذلك استفزازنا.

ثم أخبرنا اللجنة بالاعتقالات التي جرت لأعضاء الحركة، حتى لا يدعوا عدم معرفتهم لذلك، وسلمنا الشرطة لائحة تضمنت (18 بنداً) وضحنا فيها أسباب توقفنا عن إكمال المحادثة مع الحكومة، ولم يحصل بيننا وبين الشرطة اجتماع بعد ذلك. قلت: وماذا تفعلون الآن؟ قال: نحن واصلنا اجتماعاتنا ومظاهراتنا، وازداد العنف والمضايقة علينا من الشرطة التي سجنت بعض أعضائنا ولا زالت تتابعنا. وسنقوم يوم الأحد القادم بمظاهرات.

قلت: وهل للحركة نشاط في التربية و التعليم ؟

وهنا أردت أن أتدرج معهم في الحوار بأسلوب لا يزعجهم، فسألتهم: هل أقمتم مساجد أو مدارس تعلمون الناس فيها مبادئ الإسلام وتبينون لهم أهدافكم؟ قال: حركتنا ليست خاصة بالمسلمين، بل يدخل فيها كل كتابي، ولكن المسلمين في البلد يعترفون بأهدافنا، وكل تصرفاتنا مؤيدة بالكتاب والسنة.

قلت: ولكن التربية والتعليم هما الأصل في إقناع الناس باتباع الحق وترك الباطل، ويمكنكم أن تلقوا محاضرات عامة يحضر فيها المسلم وغير المسلم لبيان أهدافكم. قال: كنا نقوم بأنشطة في المدارس الحكومية، ولكن الحكومة خافت أن يكون للحركة مستقبل سياسي، فمنعت نشاطنا في المدارس.

قلت: لو أنكم سلكتم مسلك التربية والتعليم، وحاولتم توعية الناس في حدود طاقتكم، وأسستم لكم مدارس وعلمتم أبناء المسلمين مبادئ الإسلام من الكتاب والسنة، وفي نفس الوقت تبينون هدفكم وتحثون الناس على تحقيقه بالأساليب الممكنة، لو أنكم فعلتم ذلك لكان أفضل من الصدام الذي قد لا ينجح في تحقيق المراد.

قال: إن كثيراً من القسس والرهبان وأئمة المساجد أهم أهدافهم توفير متطلبات الحكومة، وليس طاعة الله، بما في ذلك المسلمون، وكثير من المساجد والمنشآت الإسلامية وغيرها قد أقفلت في وجوهنا، وذلك بأمر من الحكومة.

فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قلت: لعل السبب هو أسلوبكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الباب له فقه خاص عند علماء المسلمين وفقههم له مبني على نصوص من القرآن والسنة وقواعد الإسلام ومقاصده العامة، لذلك يجب أن تدرسوا فقه هذا الباب. وهنا بدأت تثور ثائرة القوم، وأخذ كل واحد يتحفز للحوار بطريقة يغلب عليها الامتعاض.

قالوا: إن من أعضاء الحركة من درس العلوم الإسلامية في الخارج، وهم علماء ودخلوا في الحركة.
قلت: البلاد ليست بلاداً إسلامية، والحكومة ليست حكومة إسلامية، وإنما هي حكومة علمانية، والمسلمون أقلية، ويجب أن تفهموا ذلك وتبنوا تصرفاتكم على ما تطيقون.

قالوا: هذا البلد يوجد فيه مسلمون، وكثير منهم يتعاطون المخدرات ويدخلون في العصابات، ويتعاملون بالقمار، ويؤيدون السحاق، وبذلك تزداد درجة الانحطاط، والحكومة والعلماء لم يفعلوا شيئاً لتغيير هذا الوضع، والمساجد والكنائس أقيمت أمامها محلات المخدرات والخمور في غالب البلاد. والمؤسف أنه خلال (35) عاماً الماضية دخلت المخدرات في الغالب عن طريق تجار مسلمين، والأنكى من ذلك أن بعضهم كانوا أعضاء في لجان بعض المساجد.

وقد سجن أحد المسلمين المتعاطين لبيع المخدرات، وتظاهر المسلمون ضده وطلبوا من الشرطة عدم إطلاقه، فساء ذلك رئيس العصابة، لأن الذي سجن يعتبر ساعده الأيمن، فذهب إلى إمام المسجد وهدده وتكلم بكلام فيه اعتداء على الله تعالى. [لا يليق إثبات العبارة التي نقلت عنه كتابة ولا تلفظاً، وإن كان حاكي الكفر ليس بكافر]. والذي قال ذلك هو "رشاد" الذي قتل. وأفتى الشيخ بجواز قتله حيث وجد. وبعد كلامه مع إمام المسجد هرب الإمام من منزله خوفاً منه، ثم عندما رجع الإمام إلى المسجد تحدث عن الصلح بين المسلمين وتاجر المخدرات.

واجتمع التاجر المذكور مع الهيئات والعلماء والمجالس الإسلامية الثلاثة [المجلس الإسلامي الأعلى، ومجلس القضاء الإسلامي، ومجلس الشورى، وقد زرتها كلها وسجلت المعلومات عنها]. وأعلن توبته، ولكنه صرح بأن لا يتوقف عن تجارة المخدرات، ومع ذلك صافحوه وعانقوه، وكان هو وأخوه رشاد الذي لا يزال حياً وقد أعلن الردة عن الإسلام. والأصل أن تقوم المساجد والمدارس بإصلاح المجتمع، ولكنها عجزت عن ذلك، بسبب سيطرة العصابات، ولهذا لم تؤد غرضها، فرأت الحركة أن تتولى القيام بذلك.

وكان الناس يثنون على المسلمين في السابق، ولكنهم الآن يذمونهم بسبب قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد وصل الأمر ببعض المسلمين أن يبيع عرض ابنته للبحارين، من أجل أن يشتري المخدرات، وبعض أولاد المسلمين يسرقون المجوهرات وأثاث المنازل لنفس الغرض، وقد قتل ولد إمام مسجد صاحبه وقطع جسده تحت تأثير المخدرات.

وطلب أحد الشباب ـ وهو مسلم ـ من أمه أن تعطيه مالاً يشتري به مخدرات، فلما لم تعطه بال عليها. ومما يدل على شدة خوف المسلمين من العصابات، أنه تم اجتماع للمسلمين في أحد المساجد، وكان كثير من أئمة المساجد موجودين، وكان المقصود من الاجتماع أن يدرس العلماء والشرطة هدف الحركة، وكان يوجد (300 مسلح) من الشرطة ومن المسلمين، وعندما جاءت سيارة فيها أربعة أشخاص انبطح كثير من المسلمين أرضاً، ظناً منهم أن الأربعة من أفراد العصابة والإجرام، ودخل نظيم محمد تحت الطاولة، مع أن الأربعة لم يكونوا من أعضاء العصابة، ومع وجود 300 مسلح في المسجد. ‍

لهذا أرادت الحركة أن تزيل هذا الخوف من قلوب المسلمين، فقامت بمسيرة إلى منزل "رشاد" وخلال المسيرة أطلق قناصون ـ كانوا موجودين على أسطح المنازل ـ النار على المتظاهرين فجرحوا (18) من المسلمين، وفي تلك المسيرة قتل المسلمون "رشادا".

قلت لهم: للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث مراتب، فهل وضعكم الحالي يرقى إلى مرتبة التغيير باليد؟ قال قاسم باركر: ليس عندنا جواب مباشر، وقد تساءل بعض العلماء في الصحف قائلاً : أي عمل وحشي مثل قتل هذا الرجل؟ قلت: إن وراء تجار المخدرات البارزين رؤوساً كبيرة في الدول، ولهذا نجد أولئك التجار يظهرون الشجاعة.

قال: نعم أنا أوافق على ذلك، وهم يقومون بإطلاق المجرمين ويسجنون أعضاءنا، ولكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. قلت: ولكن هناك سنناً طبيعية أو عادية، وسنناً شرعية، وللقوة والعدد مكانهما في الإسلام، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. قال: الله يجعل المستحيل ممكناً، والمهم أن الله أمرنا بالجهاد. قلت: أرى أنكم في حاجة إلى قراءة فقه الجهاد وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتعرفوا أن لكل حالة ما يناسبها من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا وقد بدا لي بعد هذا الحوار الطويل الذي أخذوا هم غالبه في الحديث، أن القوم كغيرهم من الشباب المتحمس للإسلام، مع قلة فقهه في الدين وظنه في نفسه خلاف ذلك وهو أن عنده من العلم ما لا يحتاج معه إلى توجيهه من العلماء، وظنهم أن كل من خالفهم من العلماء متخاذل أو خائف، أو مناصر للحكومات المحاربة للإسلام.

وظهر لي خطأ فهمهم لقواعد خطيرة من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

القاعدة الأولى: معنى القدرة. فهم يفهمون أن المراد بالقدرة كون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر وينهى على أي حال من الأحوال، سواء ترتب على أمره ونهيه مصلحة راجحة أو مرجوحة، ومفسدة عظمى أو صغرى وقد يظن الآمر والناهي أن أمره ونهيه ستتحقق بهما حصول مصالح راجحة، وإزالة مفاسد عظمى، بدون دراسة مستقصية، مع أن المقصود بالقدرة أن يغلب على ظن الآمر الناهي أنه يستطيع ـ إذا غير بيده ـ تحقيق هدف الأمر والنهي، وهو إزالة المنكر دون أن يحدث منكر أعظم منه.

لذلك تجد كثيراً من المتحمسين الذين لا يفقهون هذه القاعدة، يغيرون بأيديهم ما تترتب عليه مفاسد أعظم من المنكر الذي أرادوا تغييره، فيحدثون بفعلهم منكراً أشد من المنكر السابق ولا يزول المنكر الذي أرادوا تغييره بل قد يقوى ويزيد.

القاعدة الثانية: الأصل في الأمر والنهي أن يبدأ الآمر الناهي بالمرتبة الأدنى ـ إذا علم أنه لا قدرة له على التغيير بالمرتبة الأعلى ـ ولا يقفز من مرتبة أدنى هي المناسبة في وقتها، إلى مرتبة أعلى لم يحن وقتها بعد، لعدم إعداد العدة المناسبة لها، كمن يباشر تغيير منكر بيده تدل القرائن القوية التي تقرب من اليقين أن المشروع في هذه الحالة التغيير باللسان لا باليد، وأن التغيير باليد أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح.

القاعدة الثالثة: أن هناك أولوياتٍ البدءُ بها يحقق المصالح الراجحة ويخفف من المفاسد الكبرى أو يزيلها، وترك تلك الأولويات وتعاطي غيرها يفوت المصالح العليا ويجلب المفاسد العظمى.

ومن أمثلة ذلك هنا: أن الأولوية الملحة للمسلمين في جنوب أفريقيا هي الاجتهاد في تفقيه قومهم بأمور دينهم وتربيتهم على تطبيقه في أنفسهم، حتى يكونوا قدوة حسنة يهتدي بهداهم غير المسلمين، هذه الأولوية هي التي يجب عليهم أن يهتموا بها الآن، لأنها هي التي ستحقق لهم الثبات على دينهم، ونشره بين غيرهم، وليست الأولوية الآن أن يغيروا المنكر السائد في البلد بأيديهم.

والواجب عليهم في التغيير الآن أن ينصحوا الحكومة والشعب بلسانهم ويبينوا لهم الأضرار المترتبة على ترك تلك المنكرات، ومن أعظمها تدمير الحياة الاجتماعية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، وهذا هو المقدور عليه عندهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وطال النقاش بيني وبينهم حاولت أن أبين لهم تلك القواعد، ولخصت لهم في آخر الاجتماع ـ بعد أن تأكد لي عدم استعدادهم للحوار المبني على الدليل الواضح ـ ما ظننت أن الحجة تقوم عليهم ببيانه، فقلت لهم: لقد اجتهدت في أن أبين لكم ما أعتقد انه الحق، ومع ذلك فلكم أن تتمسكوا بما تدينون الله تعالى به، إلا أنني أريد أن أصارحكم بثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنني عربي الأصل والمنشأ واللغة والتعليم، وأنني تتلمذت على كبار علماء الإسلام ـ المتضلعين في اللغة العربية ـ في القرآن وتفسيره، والحديث وعلومه، وفي الفقه الإسلامي وأصوله، وفي العقيدة، وفي اللغة العربية، وفي سيرة الرسول الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي … وقرأت عشرات الكتب، ومارست الدعوة، ولي الآن في طلب العلم (46 عاماً) وقمت بالتعليم من المرحلة المتوسطة إلى الدراسات العليا، ولا أزال أطلب العلم إلى الآن.

ومع ذلك كله لا أزال أشعر بقلة بضاعتي في العلم، ويخفى عليَّ كثير من المسائل في كل علم من العلوم الإسلامية، وأحتاج إلى سؤال العلماء الكبار وزملائي من طلبة العلم، ولم أعرف ـ فيما قرأت ـ أن ما تقومون به هو الصحيح، بل ما ذكرته لكم هو الذي فهمته من القرآن والسنة وما قرره أساتذتي الكبار.

الأمر الثاني: يبدو لي أن دراساتكم الإسلامية ضعيفة، لذلك أنصحكم أن تراجعوا أنفسكم وتطلبوا العلم على أيدي العلماء، ولا تغتروا بما فهمتم من دراساتكم الخاصة، فإن دين الله لا يؤخذ إلا ممن تفقهوا فيه.

الأمر الثالث: أريد أن أنقل لكم خلاصة لما قرره العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن للأمر والنهي ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن لا يترتب على الأمر والنهي تفويت مصلحة كبرى، ولا جلب مفسدة كبرى، وفي هذه الحالة يجب الأمر والنهي، وهو فرض كفاية لا يسقط عن الأمة إلا إذا قامت به طائفة كافية.

الحالة الثانية: أن يترتب على الأمر والنهي حصول مفسدة أكبر من مفسدة المنكر المراد تغييره، أو تفويت مصلحة أعظم من المنكر المراد تغييره، وفي هذه الحالة لا يجوز الأمر ولا النهي.

الحالة الثالثة: أن تتساوى مفسدة المنكر الموجود، ومفسدة تغييره، وفي هذه الحالة يكون الآمر الناهي مخيراً بين الأمر والنهي أو تركهما. ويجب أن يعلم أن تقدير المفاسد والمصالح يحتاج فقهاء دين ذوي خبرة ورأي وذوي تخصص يجعلهم يحكمون على الأمر بعد تصوره وحقيقته، وليس كل واحد صالحاً لذلك. فإن كنتم تحترمون رأي علماء المسلمين ـ ورأيهم مبني على الدليل ـ فذاك هو الواجب، وإن كان عندكم علم أعلى من علمهم فامضوا وشأنكم.

فنزل عليهم هذا الكلام نزول الصاعقة، فأظهروا تذمراً شديداً، وقال لي زعيمهم: ما كنت أظن أن عالماً مثلك يأتي من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، يكون موقفه هذا الموقف. [إلا أنني رأيت على وجوه بعض الحاضرين علامة الرضا أحياناً، وأذكر هنا أمراً مهماً جداً، وهو أن أحد العلماء الذي كان منضماً إليهم قرر تركهم، اقتناعاً بما سمعه مني في جلسة أخرى، وهو لم يكن حاضراً في هذا الاجتماع].

ثم سألني: هل أنت على استعداد أن تضحي بمالك ونفسك في سبيل الله؟ فقلت له: ليس عندي إجابة على هذا السؤال، فالله يعلم ما القلوب، والدعاوى تحتاج إلى بينات. قال: أنا تحديتك بهذا السؤال، فلم تجبني عليه، ولهذا ظهر أن كلامك الذي سبق كله يدل على عدم استعدادك للجهاد والتضحية. قلت له: افهم ما تريد.
وقد امتد حوارنا أكثر من ثلاث ساعات، فقد بدأنا الحوار في الساعة السابعة والنصف مساء، وانتهينا في الساعة الحادية عشرة.

ومن العجيب أن الحكومة ليست مسلمة وتتحاور معهم، وتتفق معهم على بعض ما يمكن الاستفادة منه، ولكنهم يصرون على تنفيذ ما يريدون على رغم أنف الحكومة، ولا يبالون بقوتها وشرطتها ووزرائها، وكأنهم حزب معارض قوي في الحكومة، يريد التغلب عليها!





السابق

الفهرس

التالي


15335914

عداد الصفحات العام

39

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م