(049) سافر معي في المشارق والمغارب
من بانكوك إلى هونغ كونغ:
وكان الإقلاع من مطار بانكوك إلى هونغ كونغ، على الطائرة التايلندية في الساعة: 00،15 وهبطت في مطار هونج كونج في الساعة: 12, 17 بتوقيت بانكوك الذي ينقص عن توقيت هونج كونج بساعة واحدة، أي إن مدة الطيران كانت ساعتين واثنتي عشرة دقيقة من بانكوك إلى هونغ كونغ [هذا وقد ذكرت ما سجلته من معلومات في هونغ كونغ التي مررت بها ذاهباً إلى الصين وراجعاً منها في الجزء الخاص برحلات هونغ كونغ في المجلد الثالث من هذه السلسلة، وعنونت له بالزيارة الرابعة لـ(هونغ كونغ) فليراجع هناك].
من هونغ كونغ إلى بكين: الأحد 25/2/1416ﻫ ـ 23/7/1995م
ودعني الأخوان إمام المسجد في المركز الإسلامي الأخ "عثمان" والأخ "علي تنج" ـ وسيأتي التعريف بهما ـ في مطار هونغ كونغ، وأقلعت بنا الطائرة الصينية: في الساعة: 30، 12 ظهراً، وكنت ضمن ركاب درجة رجال الأعمال، وهي مزحومة ـ فعلاً ـ برجال الأعمال من الصينيين والأوربيين، الذين لا يدعون آلاتهم الحاسبة إلا لتناول الطعام والشراب، وكان بجانبي رجل أعمال صيني، وكنت أشاركهم في العمل على الآلة [المفكرة الرقمية العربية]. إلا أنهم يسجلون في آلاتهم مبالغ الدولارات وحسابات التجارة ومواعيد الأعمال التجارية المالية، وأنا أسجل ملحوظاتي حول مقابلاتي وتنقلاتي واستفساراتي فيما يتعلق برحلتي وتحقيق أهدافها.
ابن الوزير والفأر!
كان صاحبي الصيني يلتفت إليَّ خلسة بين وقت وآخر، وأنا ألحظه دون أن أظهر له أي انتباه، ثم أخذ ينظر إلى كتابتي في المفكرة الرقمية، بدون تحفظ، فلم يشف غلته، ثم التفت إلي قائلاً: (معذرة EXCUSE ME). قلت له: تفضل. قال: هل هذه أول زيارة لك إلى الصين؟ قلت: نعم. قال: وما الهدف من زيارتك؟ قلت: قضاء إجازة. قال: ما عملك؟ قلت: مدرس. قال: هل تعرف أحداً في بكين؟ قلت: لا. قال: وأين تنزل؟ قلت: أي فندق. قال: هل ستزور مدنا أخرى في الصين؟
قلت: يمكن. قال: من أين أنت؟ FROM WHERE?. قلت: من السعودية. قال: في دبي؟! FROM DUBAI قلت: على مقربة منها! ثم حاولت أن أتشاغل عنه بالالتفات من النافذة إلى الأرض، لشدة ما أحسست به من الفضول، ولقد ندمت على الانفتاح معه في الكلام، لأني تعب كثيراً في تلمس المفردات الإنجليزية التي كنت أخلط فيها عباساً بدباس، كما أني أتعب كذلك في فهم عبارات صاحبي، وقد أفهم من كلمةِ زيدٍ عمراً، ومن كلمةِ خالدٍ بكراً، ولكن الرجل كان يصبر كثيراً ويكرر لي الكلمات بتأني لأفهم منه، على خلاف أبناء جنسه الذين يسرعون في الكلام ويطوونه طياً في مخارج حروفهم الصينية العجيبة، كما كان يصبر كثيراً علي حتى أجمع له بعض المفردات، ولعل له مأرباً تجارياً أو أمنياً جعله يستمر في مخاطبتي ويصبر!
أقول: ندمت لأن عادتي أن أريح نفسي في أسفاري، إذا لم أكن محتاجاً إلى الرطانة الصعبة، فأقول لمن يتكلم معي: (SPEAK ENGLISH NO)
وكان هذا الرجل من أحق الناس بهذه الحيلة.
دلالة الحوار:
خرجت من هذا الحوار بما يأتي:
أولاً: أن هذا الرجل، إما كثير الفضول، وإما أنه من رجال المخابرات الصينيين أو غيرهم، وإما أنه كان يطمع في أن أكون رجل أعمال أحتاج إلى عميل أو وسيط لينال مني شيئاً، ولعل الثلاث مجتمعة فيه.
ثانياً: ذكرني قوله مستفهماً، بعد أن ذكرت له: أني من السعودية ـ : من دبي؟ بقصة تحكى لمن عرف شيئاً فَنسب كلَّ شيء إليه، ذلك أن ملِكاً سجن أحد الوزراء لجريرة صدرت منه، وكان للوزير ابن متعلق به، فاستأذن من الملك في أن يرافقه ابنه في السجن، فأذن له، وعندما دخل غرفته في السجن رأى ابنه الصغير دويبة تتحرك في الغرفة، فسأل أباه: ما هذا؟ قال له: فأر، فسكت، ثم كان كلما قدِّم لهما طعام مع اللحم ـ تارة يكون لحم ضأن، وتارة لحم دجاج، وتارة لحم بقر، وتارة لحم جمل ـ يسأل الولد أباه: هل هذا هو لحم الفأر؟!
وقد ذكر ابن خلدون رحمه الله حكاية ابن الوزير، في سياق من ينكر أحوال الدول لمجرد أن بعضها ليس بمعهود عنده: "إياك أن تستكثر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن. وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين، رَبيَ فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحم الذي كان يتغذى به؟
فقال أبوه: هذا لحم الغنم، فيصفها أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبتِ تراها مثل الفأر، فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟
وكذا في لحم الإبل والبقر، إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر..."()..
فهذا الرجل يبدو أنه لم يسمع من البلدان العربية إلا دولة دبي، لأنها بلد تجاري مشهور، ولذلك جعل السعودية من دبي أو العكس، واتضح لي بعد ذلك أن كثيراً من الصينيين لا يعرفون من العالم شيئاً، بل ربما بعضهم لا يعرفون بعض مدن بلدهم، فلعل غالبهم أبناء وزراء لا يعرفون من اللحوم إلا لحم الفأرة!.
سهولة لم أتوقعها في مطار بكين:
وهبطت بنا الطائرة في مطار بكين الدولي في الساعة: 15. 00، وكنت قد حملت معي كمية من التمر، بدلاً من الكتب التي جرت عادتي أن أملأ حقائبي بها، من مؤلفاتي وغيرها لأهديها للمسلمين في البلد الذي أقصده، لأن كل من سألته عن أحوال الصين وموقف الحكومة من الزوار، يبالغ في تحذيري، وبخاصة من حمل الكتب، فلم أحمل معي أي كتاب سوى المصحف الذي وضعته في جيبي خشية مصادرته، وكنت أتوقع تفتيشاً دقيقاً يتعبني في ترتيب متاعي، الذي أصبحت بعض حقائبي تشكو إلى بارئها منه.
وكنت كتبت معلومات الجوازات في البطاقة، مثل كتابة الطفل الذي يبدأ التعلم في أول مراحله، واتضح لي بعد المرور بموظفي الجوازات، ثم بالجمارك أن الصين تحاول أن تثبت للناس أنها بدأت تسير ـ في الجملة ـ في المعاملة الغربية المتسامحة التي لا تضايق الناس في دخولهم وخروجهم في الجوازات والجمارك().. فلم يطلب مني موظفو الجمرك أي شيء.. وهنا ندمت على عدم حملي بعض الكتب التي ظهر لي شدة حاجة المسلمين الصينيين إليها، ولات ساعة مندم.
انتظار وترقب ومشروع احتياطي:
خرجت من قاعة المطار ونظرت يمنة ويسرة لأرى الأخ الصيني إبراهيم، وهو وحده الذي أعرفه إذا رأيته، وصهره مصطفى صالح، فلم أر أحداً، وخشيت أن تتكرر قصة هونغ كونغ، وإذا حصلت في الصين فالأمر أشد وأنكى، فلا أعرف الفنادق، ولا قيمة العملة، وكنت أتصور أن الفنادق عندهم كلها صينية، والسكن فيه قد يكون مختلطاً، وكيف ستكون نظافتها، وكيف الأمن فيها وفي غيرها؟ كل هذه الأسئلة وردت عليَّ خلال خمس دقائق تقريباً.
وقلت في نفسي: لا أغادر المطار إن لم أجد أحداً، بل إن تيسر لي الاتصال بالأخ مصطفى، وإلا فقد دار بخاطري مشروع: (آخر الدواء الكي) وهو أن أطلب من موظفي المطار أن يحجزوا لي على أول طائرة تسافر إلى هونغ كونغ.
وإذْ كان الذهن يسبح في ذلك الخيال، والبصر يكاد يخترق وجوه الغادي والرائح، لمحت أربع أعين تدور تصور وجوه الناس، مثل كمرة الفيديو، فكانت عيون مصطفى وإبراهيم، وكان يبدو على وجه كل منهما ـ وهما يتلفتان ـ شيء من القلق، فلما أشرت لهما تغير المنظر، ورأيت عليهما البشر والسرور، وبخاصة إبراهيم الذي أكدت عليه كثيراً في منزلي بالمدينة قبل مدة طويلة، كما سررت أنا أيضاً، وذهبت عني تلك الخيالات والأوهام.
|
|