رسالة إلى شباب بلاد الحرمين الشريفين
5/1/1437ه/ 18/2015م
أيها الشباب في هذه الأرض المباركة التي لا توجد بلد في الأرض تنال شرفها الذي منحها الله إياه، للأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الله تعالى شرفها، بموضع أول بيت له فيها، "الكعبة المشرفة" وجعل الأب الثاني للبشرية "إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، يبنيانه بأيديهما الشريفتين، وكلف تعالى هذا الأب الحليم أن يؤسس فيه الأسرة الأولى للرسالة النبوية، فأسكن زوجه هاجر بواديها وحيدة لا تحمل إلا رضيعها "إسماعيل" لا ماء ولا طعام، إلا جرابا من تمر وسقاء من ماء تركهما لهما، وانصرف عنهما، وليس لهما أنيس في هذا المكان إلا ربهما، وانطلق تاركا لهما على هذه الحالة، فتَبعَته أمُّ إِسماعيل ، فقالت: يا إِبراهيم ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ، ولا شيء ؟ ، فقالت له ذلك مِرَارا ، وجعل لا يلتفت إِليها، فقالت له : الله أمركَ بهذا؟ قال : نعم. قالت : إِذن لا يُضيِّعنا. ثم رجعتْ. [والقصة طويلة، رواها بكاملها الإمام البخاري رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنْهما].
فكانت رحمها الله مع ابنها الر ضيع النواة الأولى لإحياء هذا الوادي الموات بالسكان، الذين مروا به من قبيلة جرهم في طريق تنقلاتهم في الأرض، يتتبعون مواقع الماء والعشب والكلأ فوجدوا فيه ما هيأه الله من ماء، أغاث الله به إسماعيل وأمه، يشربون منه "زمزم" ويسقون دوابهم ومواشيهم، فأصبح حيا معمورا، بعد كان خلوا مهجورا.
وآنس الله إسماعيل وأمه بعد وحشتهما، وجلب لهما ولجيرانهما إلى البلدة الحرام ما كانو تفقده من الرزق، استجابة لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم]
فهوت إليهم القلوب واشتاقت إلى نُزلهم الشعوب، ورزقهم الله من كل الثمرات التي تأتيهم من كل أنحاء الدنيا، ولم يمض على البلد الحرام عام تفد إليه الأعداد الوفيرة، إلا كان العام الذي يليه أوفر جمعا وأكثر عددا.
الأمر الثاني: أن الله تعالى تفضل على أهل هذا البيت المبارك، وزواره بأن جعل من دخله كان آمنا، لا بل وحيوانه ونباته لا يحل لأحد صيد بره ولا تنفير طيره ولا قطع شجره، فكان العربي الجاهلي، الذي يُقتل قريبه يترصد لقاتله ليشفي غليله بالاقتصاص منه في خارج الحرم، فإذا وجده في المسجد الحرام أعزل ليس عنده من السلاح ما يدفع به عن نفسه، ولا من الناس من يحميه، كف عنه يده وهو قادر على قتله، احتراما لبيت الله الحرام.
الأمر الثالث: أن الله تعالى حماه من عدوان المعتدين الأقوياء عليه، عندما عجز أهله وسكانه من حمايته لضعفهم وقال كبيرهم: "أنا رب إبلي وللبيت رب يحمه"، كما سجل ذلك كتاب الله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [الفيل].
وتوعد سبحانه من عزَم عزما مُصَمِّماً على إحداث إلحاد و ظلم فيه، ولو لم يفعله، يل ولو لم
يكن فيه وقت العزم المؤكد بعذاب أليم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(25)} [الحج].
الأمر الرابع: أن إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عندما قاما ببناء الكعبة، دعوا ربهما أن يرزق أهل هذا البيت رسولا منهم معلما لهم بتلاوة كتابه عليهم، وتربيهم بما فيه من البر والإيمان والأخلاق، ويفقههم بما فيه من الأسرار والحكم، فقال تعالى عنهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة].
وحكم سبحانه على من خالف ملة إبراهيم، ورغب عنها أنه سفيه، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة] فكل من حاد عن ملة إبراهيم فهو سفيه، وكل من ترك أمر الله تعالى ورسوله، أو ارتكب نهي الله ورسوله عمدا، ففيه سفه بقدر ما ترك أو ارتكب، لأن فيه رغبة عن اتباع ابنه محمد صلى الله علْه وسلم، لأن ملته هي التي بعث بها الرسول صَلى الله عليه وسلم، الذي دعا إبراهيم ربه أن يبعثه في هذه الأمة.
الأمر السادس: مضاعفة أجر العبادة في هذا البيت الكريم، فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وكل العبادات تتضاعف فيه على غيره من بيوت الله، وأنال الله من تعبد في صنوه "المسجد النبوي" ألف صلاة، وتضاعف العبادات فيه على ما سواه، ونال الشرف هذا الشرف الأقل منهما "الأقصى" مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومنطلق عروجه إلى السماء، فمنح الله من صلى فيه خمسمائة صلاة، وتضاعف في العبادات بمقدار فضله عند الله.
وها هو الأقصى قد دنسه اليهود الذين يجدون ويعملون كل سبب يقدرون عليه، أن يسلبوه - بعون من النصارى المعتدين من أيدي المسلمين، ومع تدنيسهم له، يرى العالم كله تعمدهم إذلا أهله بكل أنواع الذل وأعظه قتل شبابه الأعزل بأنواع السلاح الفتاك، وأمتهم المسلمة التي تجاوره وتحيط به، تتفرج، دون أن تحرك ساكنا! وحديث مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة صحيح ومعروف، إضافة إلى أن هذه المساجد الثلاثة وحدها هي التي شرع الله تعالى شد الرحال إليها.
هذه المساجد الثلاثة وما جاورها من بلاد الإسلام -وبخاصة دويلات العرب الذين اختار الله رسوله منهم، وأنزل كتابه بلغتهم، وكلفهم بعد وفاة نبيهم تبليغ رسالته إلى الأمم: كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف]-نسي غالبهم-دينهم وأحكام شرعهم، واستبدلوا به مناهج أعدائهم في غالب ما شرعه الله تعالى لهم في كتابه وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم.
فكان جزاؤهم من ربهم ما جزى الله تعالى به الأمم قبلهم لما تركوا دينهم، فجزى تعالى اليهود الذين نقضوا ميثاقه وتركوا ما شرعه لهم ما يستحقون من العقاب، فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (13)
وجزى الله النصارى بما قضى عليهم من لزوم العداوة والبغضاء بينهم والتناحر الذي، أهلك بعضهم فيه بعضا، بسبب تركهم حظهم من دينه، قال تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [الآيتان في الطائفتين من سورة المائدة]
وهاهي بعض تلك العقوبا التي عاقب الله بها أهل الكتاب قبلنا يعاقبنا نحن بها لعدوان بعضنا على بعض، لأنا نسينا كما نسوا حظا مما ذكرنا به، في مثل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران].
فلم نعتصم بحبله، وهو منهاج كتابه وسنة نبيه صَلى الله عليه وسلم، ولم نجتمع على هداه بل فرقتنا، الأهواء والأنانيات والجهل، وأمِرنا بتذكر نعمته تعالى على سلفنا -وهو تذكير لنا-إذ كانوا قبل إسلامهم متفرقين، متعادين فألف بين قلوبهم، وجمعهم على صراطه المستقيم، فسلكنا سبيلهم قبل إسلامهم، بعد إذ أنعم علينا بحفظ كتابه وسنة رسوله وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، فعصينا الأمر وارتكبنا النهي، فأصبحنا نخشى على أنفسنا من أن نكون على شفا تلك الحفرة من النار التي كان سلفنا قبل إسلامهم عليها، فأنجاهم الله منها، وبين لهم ولنا آياته الهادية لنا، فتركناها ولم نهتدي بها، بل سلكنا سبلا غيرها تحارب الله ورسوله.
وهذه الحال التي اتصفنا بها، لا يرضى بها الله ورسوله والمؤمنون الصادقون، فكان ذلك موجبا لسخطهم وحافزا لهم على أن يتخذوا الأسباب التي تخرجهم من تلك الحال، ويتمنون جميعا، أن يدفعوا ذلك الذل والعدوان عن أنفسهم وبلدانهم، ولا شك أن إعداد العدة الشاملة واجب عليهم، ليجاهدوا أعداءهم، حتى يستعيدوا عزهم ومجدهم.
عقبات شداد
ولكن عقباتٍ شدادًا حالت بينهم وبين مايشتهون:
العقبة الأولى: الخلافات والنزاعات التي فرقت بين المسلمين، بين جماعاتهم وأحزابهم، وبين حكوماتهم ودولا، حلافات يصعب معها الوقوف أما أعدائهم.
العقبة الثانية: اجتماع أعدائهم من اليهود والنصاى والمشركين والمنافقين، على كل فرد أو جماعة أو دولة يشمون منها رائحة العزم على تطبيق شريعة الله وحكمه، أو دعوة المسلمين على اجتماع كلمتهم على الحق، فدول الغرب -وعلى رأسها أمريكا-يهددون من يظنونه سيلك هذا المسلك الذي يرون في خطرا عليهم، ويتوعدون الحكومات التي يمكنها أن تسلكه، والأحزاب التي يمكن أن تعين حكامها على ذلك، يتوعدونهم بجعلهم في قائمة الإرهاب الذي لا هوادة في محاربته والقضاء عليه، يحاربونهم حتى في وضع مناهج يمكن أن يتتربى الناشئه بها فيها ما يجعلهم واعين لدينهم وعارفين بأعدائهم، وهذه عقبة تحول بين المسلمين الصادقين والقيام بادفاعي المادي عن دينهم و أنفسهم ضد أعدائهم.
العقبة الثالث: -وهي جزء هام من العقبة الثانية- استجابة بعض الشباب من أبناء المسلمين الذين يظهرون الغيرة على الإسلام، والذين عز عليهم أن يروا أمتهم على هذه الحال السيئة، فقد وجدوا من يغريهم ويحضهم على نصر دين ربهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصورون لهم أن كل من عنده قدة ذاتية سواء كان فرا أو جماعة، وجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما ترتب عليه من فوات مصالح مطلقا بدون نظر إلى فوات مصالح أعظم، أو مفاسد أكبر من المفاسد التي ينهى عنها، فأخذوا يخطفون من كتاب الله بعض الآيات، التي يظنون أن ظاهرها يؤيد فكرهم، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلمْ بعض الأحاديث التي يأخذون منها ما يوافق هواهم، ويأخذون بأنفسهم ما ظهر لهم منها على حالهم تلك، كآيات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتركون غيرها مما هو في بابها، بحيث لوجمعت نصوصها كلها، أدت معنى أشمل من المعنى الذي خطفوه منها، فأخذوا من تلك النصوص بعضا وتركوا بعضا.
وأعجبوا بفهمهم لظواهر تلك النصوص، وأساؤوا الظن بكل من يخالفهم في فهمهم، حتى إنهم رتبوا على ذلك الفهم، أن جعلوا غالب العلماء، الذين لم يوافقوهم على منهجهم أعداء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن يقوم بها، فهجروا التفقه على أيديهم، بحجة أنهم علماء سلطان، يجاملون في علمهم السلاطين، وما كل عالم توظف في ولاية سلطان، يجامل السلاطين في علمه، وقد لا يصدع بعضهم بالحق مضطرا لما يعلم من جبروت بعض الحكام،
ولكنه لا يوافقهم على ما يعتقد أنه مخالف للإسلام، وقد يوجد من يسير في ركب الحكام فيؤيدهم على الحق والباطل.
ولكن قادة هؤلاء الشباب من رؤساء المنظمات المتشددة الغالية في أفكارها وسلوكها الذي من أعظمه جرما قتل المسلم بغير حق، هؤلاء القادة حذروهم من جميع العلماء، لأنهم يعرفون أنهم لو طلبوا العلم على أيديهم سيبصرونهم ويبينون لهم الحق الغائب عنهم من الباطل الذي تلقوه عن رؤسائهم، فينفضون عنهم، لأنهم يسيرون على فكر الخوارج الذين حذر الرسول صلى الله عليْه وسلم.
فهجروا طلب العلم على أيدي العلماء فلم يجلسو في حلقاتهم، أو يزوروهم في منازلهم ليسئلوهم عما غرس في عقولهم من الباطل، ولم يفرقوا بين علماء السلطان الذين يزعمون أنهم يمالئون الحكام في باطلهم، وغيرهم من العلماء المستقلين عن السلاطين، فاغتروا بعلمهم الناقص، مما يخالف حقيقة النصوص القرآنية والسنة النبوية، ومن هنا ترتب على فهمهم الناقص، أن نشأت طوائف منهم كل طائفة منهم تدعي أنها على الحق، وتفرقوا بسبب ذلك، وأصبحت كل جماعة منهم تقاتل الأخرى وتكفرها، ويجتمعون كلهم على الغلو في حق المسلمين الذين يكفرونهم بدون حق. ويرتبون على ذلك مشروعية قتلهم. كالجنود الذين يعملون في بلدانهم لتأمين رزقهم، ويحفظون الأمن بلدانهم، سواء كان لعامة الشعوب أو لحكامهم، وهم مسلمون يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويصلون ويصومون ويحجون ويزكون، ولكن أولئك الشباب يُعِدون لهم العدة، ليغتالوهم ويقتلوهم بحجة أنهم يحمون الحكام، ويعتقدون أن ذلك أمر بمعروف ونهي عن منكر، وما يفعلونه من القتل والاغتيال والتفجير هو المنكر، لأنه فيه قتل النفس التي حرم الله قتلها بدون حق، ولم يترتب على فعلهم نفع للإسلام والمسلمين، بل تترتب عليه مفاسد أكبر المفاسد الواقعة.
فكر غير شرعي
ويبدو من أفكارهم وأعمالهم أن المسلمين الصادقين في إسلامهم، لا يمكن أن يكونوا موظفين في أعمال سلطانية، وما يرضى بالوظيفة مع السلطان [وهوعندهم الذي لم يطبق شرع الله] إلا من يواليه، سواء كان من العلماء أو الجنود أو غيرهم. وهذا جهل منهم بنصوص القرآن والسنة، وبما جرى في الواقع قديما وحديثا، ولعل ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في تحمل الوظائف مع اللحاكم -حتى الكافر الصريح منهم- لأن العالم الذي يتولى وظيفة مع حاكم كافر أو ظالم، قد يتمكن من زيادة الخير والعدل في وظيفته في حدود مقدرته، وقد يتمكن من تخفيف الشر كذلك في حدود قدرته، وهذا يدخل في تقدير المصالح والمفاسد.
وقد وضح ابن تيمية رحمه الله حكم هذه المسألة بالتفصيل،فقال: "إذا كان المتولي للسلطان العام، أو بعض فروعه، كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت... وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً، فتوسط رجل بينهما، ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم، مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسناً، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً... ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً... ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}". [التغابن: 16، انتهى كلامه من مجموع الفتاوى (20/55 ـ 57).].
وأنتم أيها الشباب يجب أن تعلموا أن قيامكم بقتل الجنود وغيرهم من أهل بلدانكم بناء على فهمكم المذكور، لا يوافق ما شرعه الله تعالى في كتابه، وما ثبت في سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، بل يخالفه مخالفة كاملة، من وجوه كثيرة:
الوجه الأول: أن الذين تغتالونهم وتقتلونهم في بلادكم -سواء كانوا عسكريين أو مدنيين-محرم عليكم قتلهم لأنهم مسلمون يشهدون ألّا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويؤدون الصلاة ويصومون ويحجون ويعملون في الظاهر ما لا يخرجهم عن الإسلام، وتعمد قتل المسلم بغير حق من أكبر الذنوب التي ذكرها الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)} [النساء]
فهذا العقاب الشديد الذي ذكره الله تعالى في هذه الاية القصيرة، لمن تعمد قتل المؤمن، وهو "جهنم" و"الخلود فيها و"غضب الله عليه" "ولعنه" وإعداد العذاب له" ووصفه بالعظيم" هذا العقاب الذي ذكره تعالى لمن تعمد قتل المسلم بغير حق، عقاب يزلزل القلوب بمجرد تلاوته أو سماعه، حتى رأى بعض علماء الأمة، وعلى رأسهم حَبْرهم "عبد الله بن عباس" رضي الله عنْهما، -وهو الذي دعا له الرسول بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل-، يرون أن قاتل المسلم عمدا بغير حق، لا يقبل الله توبته. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً, وقال البخاري: حدثنا آدم, حدثنا شعبة, حدثنا المغيرة بن النعمان, قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة, فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها, فقال: "نزلت هذه الاَية {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل, وما نسخها شيء" انتهى.
وروى ابن مسعود رضي الله عنْه: أن رسول الله صَلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة) [صحيح البخاري، وصحيح مسلم]
والذين يرون توبته من العلماء، يرون في هذا الوعيد الشديد في آية النساء، وأحاديث كثيرة أيضا فيها وعيد شديد في قتل المسلم عمدا، حتى إن بعضهم يرون أنه لا كفارة على القاتل، والكفارات المقصود بها تطهير العصاة من ذنوبهم وكفارتهم لا تطهرهم، والقتل عمدا أعظم من أن تنفع صاحبه الكفارة. وفي كتب التفسير وكتب الحديث وشروحه بسط لهذا الموضوع، فليحذر الشباب المسلم من هذه المعصية الكبيرة التي ورد في شأنها من الوعيد الشديد ما في كفاية من الزجر عن ارتكابها.
الوجه الثاني: أن الذين يحرضون الشباب على هذه التصرفات الآثمة، إنما يفعلون ذلك -بحسب زعمهم- من أجل إقامة دين الله في الأرض والحكم بكتابه وسنة رسوله، وإقامة الخلافة التي وعد الرسول صلى الله عليهِ وسلم، بمجيئها في آخر الزمان، وهذا الادعاء في هذا الوقت الذي دلت التجارب فيه، إلى أنه ما تغيرت حكومة إلا جاءت حكومة أسوأ منها، لأن تغيير الحكومات في الوقت الحاضر، لم يعد من حقوق الشعوب وحدها، بل أصبح المتحكمون فيه هم صناع السياسة العالمية الذين يتحكمون في الشعوب وحكامها، وعلى رأسهم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية التي تراقب ما يحدث في شعوب العالم -وبخاصة الشعوب العربية- تراقب الحكومات القائمة، والأحزاب والجماعات، والجماعات والمجتمعات المدنية.
فإذا ظهر لها من أي طرف من هذه الأطراف الرسمية أوغيرها، يمكنه التأثير على أبناء شعبه في تأييد السياسة الشرعية التي يُحكم به ذلك الشعب، شنت عليه ما تملك من الوسائل التي تؤذيه وتنفر الناس من اتباع منهجه، من ذلك اتهامه بأنه إرهابي ويريد أن يحقق في بلده تثبيت الإسلام السياسي، أو تطبيق الشريعة الإسلامية، وتنطلق وسائل إعلامها المباشرة في ووسائل الإعلام بالوكالة، -وهي التي يسيطر عليها عملاؤها ممن يسمون باللبراليين- في البلد الذي يؤويه وغيره، تنطلق بما تملك من جيوش الكذب والتزوير والاتهام للتحريض عليه، وتشويه سمعته وتخويف الناس منه، حتى يصبح وهو صحيح المنهج صافي الفكر، مالك الحق، يصبح شبيها بحامل الأمراض التي يقال عن صاحبها: بـ"فر من المجذوم فرارك من الأسد.
وتتسلط على حكام ذلك الشعب بحثهم على تغيير مناهج تعليمه، ليصفيها مما قد يكون
فيها من الموضوعات التي تشم منها رائحة ما يؤيد الإسلام، سواء كان ذلك في نصوص الكتاب والسنة، كذكر الجهاد في سبيل الله، أو غيرهما من أبواب التاريخ والسير والجغرافيا -وبخاصة ما يتعلق بالشعب الفلسطيني المحتل-الذي يريد اليهود أن يمحوا تاريخ الإسلام من ذاكرة أهله وبخاصة النشْء الجديد، ليشب فاقد الهوية التي حازها أباؤه وأجداده، حتى لا يفكر في محاولة التحرر من استعبادهم له، وإن هذه المشكلات التي يعاني منها المسلمون، لتهم كل مسلم في البلدان الإسلامية، ونحن وأنتم سواء في عدم الرضا بها، ونتمنى أن نكون قادرين على دفعها بأنفسنا وأموالنا، ولكن القدرة التي تترتب عليها جلب مصالح ودفع مفاسد غير موجودة، وأما مجرد وجود قدرة تدفع إلى التصرف غير الموزون، فليست القدرة الشرعية.
زِنوا فعلكم بتحقيق المصالح، ودفع المفاسد:
إن بلادكم الآن هي أقرب إلى الإسلام من سائر البلدان الإسلامية، للأمور الآتية:
الأمر الأول: أن حكامها يعترفون -نظريا-بوجوب تطبيق الشريعن الإسلامية، ويصرحون بأن دستورهم هو القرآن، وبقية الحكومات في الشعوب الإسلامية لا تعترف بذلك، بل إن دساتيرها تخالف عامت موادها الإسلام، إلا ما شاء الله، وأفضل تلك الحكومات الحكومة التي تعترف بشعية الأحوال الشخصية.
الأمر الثاني أن مدارسها ومعاهدها وجامعاتهاأقرب للإسلام من مناهج البلدان الأخرى، ولها نشاط في البلدان الإسلامية، من فتح مدارس ومعاهدة وجامعات، وملاحق دعوية وإغاثات وغيرها، وينبغي عد جحد الخير يصدر من أي جهة، ولو كنا غير راضين عنه,
الأمر الرابع: أن نسبة أمن سكانها -غالبا-على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، وأمنهم في منازلهم وفي شوارعهم، وفي مساجدهم، أكبر من سواها من البلدان الإسلامية الأخرى، وهذا أمر مهم جدا، فإن المواطن يخرج من منزله، لقضاء حاجاته، سواء في داخل مدينته أو خارجا، وسواء في داخل بلده أو خارجه وهو آمن على أهله وماله، إضافة إلى أمن الوافدين إليها من خارج البلد لحج أو عمرة، أو زيارة وسياحة، أوتجارة، أو غيرها، مع أن بلدان المسلمين -غيرها- تشتعل بالاقتتال في مدنها وشوارعها، ومساجدها، ومدارسها، يتمن ساكنها، أن يجد كسة خبز يقتات بها، أو جرعة ماء يشربها، فلا يجده، وكثير من سكانها مشردون في العالم، يريدون النجاة من كوارث بلادهم التي لم تعد آمنة ولو أمنا نسبيا.
الأمر الخامس: أن أعداءكم من الدول الغربية، يبيتون لهذا البلد أن يصبح مثل غيره من البلدان الفاقدة للأمن التي يتقاتل أهلها كما يتقاتل أهل البلدان الأخرى، ويصبح أهلها مشردون في البلدان الأخرى، كما حصل لغيرهم، وقد شاهدتم اللاجئون السوريون وغيرهم الذي يموت كثير منهم في الغرب، والذين ينجون من موت البحر، يجدون من كثير من البلدان الأوربية الحصار وسوء الاستقبال، ورأيتم كيف يعانون من البرد والجوع والإهمال، وكيف تحمل النساء أطفالهن وهن يسرن في الطراقات، بل يحمل بعض الرجال آباءهم ومرضاهم على ظهورهم، وكيف يضيع بعض أفراد من الأسر، من أفرادهم بسبب الزحام، وفوات وسيلة النقل على بعضهم، فهل يسركم أن تروا بلدكم كتلك البلدان، وهل يسركم أن يتشرد أهلوكم أو يقتلوا وأنتم تشاهدونهم؟
الأمر السادس: ألا تشاهدون المسجد الأقصى كيف يمنع أهله من دخوله لأداء عبادتهم، وكيف يدنسه الجيش اليهودي، رجالا ونساء، بأحذيتهم التي يدوسون به قاعاته الداخلية والخارجية، ويهينون أهله فيه وفي خرجه، بما فيهم علماؤه وأئمته، وكذلك بقية المساجد التي تهدم على المصلين فيها، فهل ترضون أن تروا المسجد الحرام بما فيه الكعبة المشرفة، ترمى بالصواريخ وبقية الأسلحة ويقتل قاصدوه فيه كما يفعل بالمساجد الأخرى، ومنها الأقصى؟ وهل يسركم أن ترو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم، يتعارك فيه المتقاتلون بأنواع الأسلحة، وتهدم سقوفه وجدرانه على المصلين فيه، وهل ترتاح قلوبكم وأنتم تشاهدون قبر نبيكم محمد عليْه الصلاة والسلام، ينبش وتتفرق أجزاء جسمه في الأرض؟
إننا يا شباب أرض الحرمين الشريفين نناديكم نداء مشفق عليكم من أن تكونوا سببا لهذه الكوارث في بلادكم، فإن قطرة دم واحدة يسكبها طرف على آخر، ستجر وراءها جداول من الدماء لا يكفها شيىء ولا يقطعها أحد الله تعالى عندما يطيعه العقلاء، ويستجيبون لندائه، وإن محافظتكم على أمن بلادكم، لهي الواجبة عليكم وفي ذلك ثواب لكم من الله عظيم، وإن تسببكم في فقد هذا الأمن لحرام عليكم، وعليكم من الله تعالى عذاب عظيم، لما تزهق به الأرواح وتنقض به ضرورات حياة أهل هذا البلد، وإن انتحار كثير منكم طاعة لجماعات فقد فقهها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لهو تقليد أعمى وفيه إثم كبير، لا يفعله من عنده عقل ووعي إسلامي صحيح، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وبلدكم ولا تكونوا على مصائب مواطنيكم مؤيدين ولا فاعلين! وزِنوا أفعالكم وأقولكم بتحقيق جلب المصالح المصالح، ودفع المفاسد في بلادكم!
|
|