(068)السباق إلى العقول
حرب شرسة على وسيلة المال في السباق إلى العقول بالحق
لقد عرف أعداء الإسلام من الصليبيين واليهود والمشركين والمنافقين، الأثر العظيم للمال في في نشر الإسلام تعليما ودعوة وأعمالا خيرية وإغاثات شاملة للمسلمين وغير المسلمين، وما يحدثه ذلك في النفوس التي تجعل المسلمين يتمسكون بإسلامهم ويستعصون على تضليل من يريد تضليلهم، وتجعل غير المسلمين يدخلون في الإسلام، عندما يقوم المسلمون بالسباق بالحق إلى العقول بالبلاغ المبين، والسعي الجاد إلى تنظيف العقول من رجس الكفر والفسوق والعصيان، وكل باطل حل بها.
عرف أعداء هذا الدين ذلك، وعرف كفارهم ومنافقوهم أن باطلهم الذي يضلِّلون به العقول، ويستغلون المضلَّلين في شعوبهم وخارجها لدعم باطلهم، إذا سكن الحق في عقولهم وطُهِّرت تلك العقول من دنس الباطل، فإن تلك العقول المضلَّلة تستنير وتنبذ باطلهم، ويفعلون كما فعل سحرة فرعون، عندما أزالت صواعقُ الحق من عقولِهم الباطل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}
وعندما هددهم فرعون، بما ذكره الله عنه: {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} ردوا عليه بما حكى الله عنهم: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الآيات في سورة: الأعراف، وقريب منها في سورة طه]
وبرغم بعد غالب المسلمين عن دينهم، فلا زال يوجد في عصرنا، رجال ونساء ثابتون على دينهم، يتعمد أعداؤهم إنزال أنواع الظلم والابتلاء، حتى الموت يحققون قول الصحابي الجلي: "أحدأحد"، والأمثلة واضحة لمن يتابع الأحداث في كل وسيلة إعلامية.
وإذا حصل ذلك، بطل سحرهم العقدي وسحرهم السياسي، وسحرهم الاقتصادي، وسحرهم الإعلامي، وكل وسيلة اتخذوها للسباق بباطلهم إلى العقول، ضد سباق أهل الحق الإلهي: إلى تلك العقول!
عرف أئمة الكفر وأتباعهم ذلك، ودرسوا القرآن الكريم، وسنة الرسول صَلى الله عليه وسلم، وسيرته وسيرة المؤمنين الصادقين، من صحابته ومن تبعهم واقتدى بهم من العلماء والقادة المخلصين، دراسة دقيقة تحليلية، وعلموا أن ثبات الإسلام في الأرض وعلو رايته، يعني ذلةَ الكفر وأئمتَه وسقوط رايتهم، فانبروا لحربه بكل الوسائل الممكنة، وأهمها: اتخاذ الوسائل المضَلِّلة لعقول الناس الذين لا يفقهون دين الله الخاتَم، فكشطوا ما فيها من بقايا حق، وملئوها بالباطل، فسهل عليهم الهيمنة والسيطرة، على أصحاب تلك العقول، فكثَّروا بهم سوادهم، وأعانوهم على حرب الإسلام وأهله، ورَفْع راية الكفر وأهله، ومنهم بعض من ينتسبون للإسلام من المنافقين، حتى وصلنا إلى وضعنا الحالي الذي نعيش فيه اليوم.
ثم اتخذوا بعد ذلك الوسائل المادية التي تفوقوا فيها على جميع البلدان المسلمة التي خضعت لهم حكوماتها واستسلمت لهم بعد أن خدروها بتضليل عقولهم، وزرعوا فيها باطلهم، واتخذوهم بطانة يستشيرونهم ويعملون بمشورتهم، بل يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم في غالب شئونهم، وبقي في الأرض قلة من المسلمين يفقهون دين الله، ويعلمون الحق، ويسعون جادين في القيام بالبلاغ المبين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محاولين السباق بحقهم إلى العقول.
ولكنهم –مع قلتهم وضعف وسائل سباقهم بالحق-وكثرة وسائل أهل الباطل، المادية-تعرضوا للقهر والعقاب المتنوع من سجن وتعذيب وقتل وتشريد، فلم يصدهم كل ذلك عن السباق بحقهم الإلهي إلى العقول, ولا زالوا ثابتين على منهاجهم صراط الله المستقيم، ولا زال أعداؤهم صامدين على فتنتهم وصدهم عن سبيل ربهم، إلى هذه اللحظة.
ولم يكتف أعداء الإسلام والمسلمين بمجرد السعي لمسخ عقولهم بغرس الباطل فيها، بل إنهم بعد أن رأوا قوة المسلمين المعنوية والمادية في عصورها الزاهية التي كان نور الإسلام يشع فيها على المعمورة، ودعاة الإسلام يملئون العقول بالحق الإسلامي، وجيوش الإسلام تصل إلى النمسا وأسبانيا والبرتقال وحدود الصين، وتقيم دولة الإسلام التي لم يكن الغرب، يعرف كيف تقام الدول، وجلس أبناء ملوك الغرب بين يدي الأساتذة المسلمين ليتعلموا أصول المعرفة والعلم والحضارة التي لم يألفوها
ثم أباح المسلمون لأعدائهم دخول باب وقاية الحِرْز الذي كان يحفظ لهم ضرورات حياتهم ومكملاتها، وهو باب الاجتماع على كلمة الله والاعتصام بحبله، والبعد عن التفرق والتنازع، فتحوا لهم بكسر ذلك الباب، الولوج منه إلى الحرز الذي استطاعوا أن يمدوا إليه أيديهم ويسرقوا منه أغلى ما يملكه المسلمون، بسبب ضعف الدين في نفوسهم، ووقوع الاختلاف فيما بينهم، وعصيان ما أمرهم الله به، وما نهاهم عنه في ذلك، من الاعتصام بحبله، وعدم التفرق والتنازع المؤدي إلى فشلهم.
فسلط الله عليهم عدوهم الذي احتل بلادهم، وأفسد عليهم حياتهم التي منحها لهم الإسلام، واستغلوا خيرات شعوبهم، وبنوا بها مجدهم، في تجاراتهم وصناعاتهم، وأسلحتم وجيوشهم، وأنبتوا في كل أرض احتلوها عقولا فاسدة في رؤوس أبنائ المسلمين، فأفسدوا بهم البلاد والعباد، ونقلوهم من صبغة الله التي صبغ بها آباءهم وأراد –شرعا- أن يصبغهم بها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً ... (138)}[البقرة] إلى صبغة الشيطان ووساوسه واتباع خطواته: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر].
ووجد المحتلون في الحرز المسروق، وثائق تحمل أسباب عزة المسلمين، وتفوقهم على أعدائهم في ماضيهم المجيد الذي قهروا فيه أكبر قوتين في الأرض، وحطموا عروشهم، وهم الفرس والروم، وفتحوا مشارق الأرض حتى حدود الصين، ومغاربها حتى البرتغال وسواحل أفريقيا الغربية، تلك الأسباب هي قوة إيمانهم وصفاء عقولهم من وساوس الشيطان وشبهاته، ومن من شوائب الوثنيات والشبهات والشهوات، واتخاذ أسباب القوة التي أمرهم الله بإعدادها: لإرهاب عدوهم الظاهر الذي يعلمونه، والخفي الذي يعلمه الله. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال].
فأخذأعداؤهم يعدون لهم العدة المعنوية من الشبهات والشهوات التي تضعف إيمانهم وغزوا بها عقولهم وقلوبهم، والعدة المادية التي أهمها الصناعات المتنوعة لكل ما يتعلق بالراحة والترف من من النعل إلى الطائرات المدنية، وصناعات السلاح من لمسدس إلى السلاح النووي والصواريخ عابرة القارات التي يستطيع المسلمون أن يحصلوا منها ما يأذن لهم به الصانعون، كل ذلك ليوفروا للمسلمين ما يحتاجون إليه، بدون جهد منهم لإقامة المصانع، ليصرفوهم عن الصناعات التي إذا أقاموها وطوروها، سيكون في ذلك خطر على الأعداء.
اقرأ النص الآتي الذي نصح به أحد المسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية في منتصف هذا القرن: [القرن العشرون الميلادي]. ناصحا قومه في الغرب، حاصرا الخطر الذي يخشونه في قوة الإسلام والمسلمين، وأن كل خطر يواجههم من غير هذا الباب هين إزاء خطر الإسلام، قال:
"ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي، فهي حلقة لاحقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء.
إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالَمٌ مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد، دون حاجة إلى الاستغراب، أي دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية.
فرصتهم في تحقيق أحلامهم، هي في اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الغني، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون رسالتها الى متاحف التاريخ.
وقد حاولنا خلال حكمنا الطويل في الجزائر، أن نتغلب على الشخصية التاريخية لشعب هذا البلد، فلم نألوا جهداً في صوغ شخصية غربية له، فكان الإخفاق الكامل نتاج مجهودنا الضخم الكبير.
إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة، ولكنه في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانيات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه.
إنه في عين التاريخ عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه بعدُ اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق كاره لماضيه في عصر الانحطاط، راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل أو بعبارة أخرى من الفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.
فلنعط هذا العالَم ما يشاء، ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج، فقد بؤنا بالإخفاق الذريع، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة، خطراً داهما يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية". [جند الله ثقافة وأخلاقاً، للشيخ سعيد حوا، رحمه الله ص: ].
ومن هنا حارب الغرب بزعامة البيت الأبيض كل نشاط للمسلمين، -ومنها وسيلة المال للسباق إلى العقول بالحق- ويمكنهم يمكنهم من استرداد حضارتهم الإسلامية، وقيادتهم للعالم في سفينة النجاة، فشددوا على الحكومات الراغبة في دعم المدارس الإسلامية في العالم –سواء كان ذلك في البلدان الإسلامية أو في غيرها-، أو المساجد المشيدة وتوفير ائمة وخطباء يثبتون الروح الإسلامية في نفوس عامة المسلمين الذين يتمكنون من تعليمهم أو مناصحتهم، وضيقوا الخناق على الجمعيات الإسلامية، ووسموا كثيرا منها بـ: "الإرهاب" الذي أصبح أخطر سلاح يوجهونه إلى الإسلام والمسلمين، ليحولوا بينهم وبين نشر دينهم وتثبيت الناس على صراطه المستقيم.
فأقفلت بسبب ذلك مدارس، وجففت موارد مؤسسات إسلامية، كانت تكفل الأيتام
وتربي على الإسلام أجيالا من الشباب، وتعقد لنشر الإسلام ندوات ومؤتمرات، وتبعث دعاة في بلدان المسلمين وغيرهم، وهجرت مساجد، وشرد أساتذة وأئمة وخطباء، وحُرِمَت جماهير من الإعانات التي كانوا يتلقونها من فاعلي الخير عن طريق تلك المؤسسات، بل وأنشئت سجون ومعتقلات، حشر فيها شباب المسلمين، بدعوى أنهم إرهابيون، وقضوا شبابهم في عزلة عن العالم، يعذبون تعذيبا، قد لا يكون وجد مثله في سابق الأزمان، من أعتى الطغاة المستبدين، دون أن يحاكموا أو توجه لهم تهم، كما هو الشأن في جوانتنتمو الرهيب.
|
|