(09)قواعد تزكية النفوس
القاعدة السادسة: العناية بالأساس
سبق أن الله تعالى جعل القلب هو الذي يسيطر على بدن الإنسان وجوارحه كلها، وأن هذا الإنسان العاقل لا ينطق –مختا- ولا ينظر ولا يتحرك أي عضو من أعضائه، إلى أي قول أو فعل، سواء كان خيرا أو شرا، نافعا أو ضارا، إلا إذا أمره القلب بذلك، فالقلب يريد ويعزم ويأمر، والأعضاء تنفذ إرادته وعزمه وأمره: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، وهي القلب).
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يتمكن الإنسان، من السيطرة على أعضائه وجوارحه، لتكون حركاتها، نافعة له في الدنيا والآخرة، وليست ضارة له فيهما؟
الجواب الذي لا جواب غيره، هو أن يتجه الإنسان إلى الأساس الذي يمَلك تلك الجوارح ويطوعها كيفما أراد وكيفما يهوى وهو "القلب"، بل كما يريد قرينه – الشيطان - الذي استعبد ذلك القلب، فأصبح مملوكا له، يخضع لوساوسه، ويتبع خطواته لأنه من أوليائه، وليس من أولياء الله.
أقول: على الإنسان أن يتجه إلى ذلك القلب، ويجاهده حتى يستنقذه من عدوه الشيطان، ويتخذ من الأسباب والعوامل، ما يجعل قلبه عبدا لملك الملوك الذي لا إله إلا هو الملك المطلق، والرب الودود الرحيم، الذي أنزل كتابه، وأرسل رسوله، رحمة لعباده، وشفاء لما في صدورهم، فلا يأمرهم إلا بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم فيهما.
وهنا يجب أن يبدأ باجتثاث آثار الرجس الذي حواه قلبه من إغواء الشيطان، من المعاصي والفسوق والعصيان، سواء تعلقت بحقوق الله من أمراض القلب، كالإشراك بالله كبيره و صغيره "الرياء" أو بجرائم الجوارح، كالزنا وشرب الخمر وترك ما افترضه عليه، كأركان الإسلام وفروعها الواجبة، أو تعلقت بحقوق الإنسان، من أقربائه "كوالديه" وجيرانه، وزملائه في أعماله الوظيفية، وشركائه في الصفقات التجارية وغيرها، أو غيرهم، ممن اعتدى على حق من حقوقهم، كل تلك الموبقات التي ارتكبها في حال فسقه، يجب أن يزيلها بالمطهر الشرعي الذي منحه الله تعالى، لتطهير القلوب من قاذورات المعاصي، مهما عظمت، وهي:
التوبة إلى الله
ذلك المطهر هو التوبة الصادقة التي كثر ذكرها في القرآن والسنة النبوية، فإنها إذا توفرت شروطها في التائب جبت كل مااكتسبه من الجرائم، وأعظمها جريمة الكفر الأكبر، ومن أمثلة التوبة عن الكفر في القرآن، قوله تعالى:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران]
وكذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)} [النساء]
يلاحظ الفرق بين ما ذكر في توبة الكافرين، وما ذكر في توبة المنافقين:
قال تعالى في توبة الكافرين: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} أي تابوا من كفرهم، والتوبة من الكفر هي ترك عبادة غير الله، وإخلاص عبادتهم له تعالى وحده، ثم {أصلحوا} أي عملوا ما كلفهم الله من الأعمال الصالحة في كتابه وسنة رسوله، صلّى الله عليه وسلم، فهؤلاء كفرهم ظاهر، ومفارقتهم للمؤمنين الصريحة واضحة لا خفاء بها، يكفي أن يعلنوا توبتهم عن الكفر، وعملهم بمقتضاها.
أما المنافقون، فإنهم يظهرون للمسلمين أنهم منهم، ويعاملون، في الدنيا معاملة المسلمين في كل شيء، ما عدا مناصب الولايات، إذا ظهرت عليهم قرائن النفاق، وبسبب خداعهم للمسلمين بذلك، قال تعالى في توبتهم: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} زاد هنا اعتصامهم بالله، وإخلاص دينهم له، لعل في ذكر هذين الأمرين في توبتهم – وهما مطلوبان من الكفار الصرحاء في كفرهم أيضا – أن المنافقين – كما ذكر الله عنهم – يخادعون المؤمنين، فيظهرون لهم أنهم منهم، وهم كاذبون، يتعاونون مع أعدائهم من أهل الكفر، فهم لا يصدقونهم فيما يدعون من الإسلام، فيحتاجون أن يقيموا البرهان والحجة، على تحولهم من المخادعة، إلى الصدق في إسلامهم، بما يدل على اعتصامهم بالله،وإخلاص الدين له، ومعرفة الصادق من الكاذب، تعرف بقرائن أحوالهما. والله أعلم.
ومن أمثلة التوبة في القرآن: توبة العلماء عن كتمان العلم، الذي كلفهم الله تبليغه للمحتاجين إليه، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة]
وأعظم من كتمان العلم، الفتوى بالباطل كما كان علماء أهل الكتاب يفعلون، وكما يفعله كثير من علماء المسلمين اليوم، في كثير من بلدانهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران] أو لبس الحق به، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران].
فإصلاح كل مذنب نفسه، بترك ذنبه الذي تاب منه، مطلوب من كل التائبين من ذنوبهم، ثم إظهار ذلك الإصلاح بالعمل المخالف لعمله القديم الذي عصا الله به، لا بد منه في توبته، وهو في العلماء الذين كتموا العلم أو لبسه بالباطل، البيان، ولهذا قال هنا: {أصلحوا وبينوا}
ومن أكبر الكبائر التي يطهر الله تعالى قلوب مرتكبيها بالتوبة، قطع السبيل على الناس، الذي يكون سببا في التضييق عليهم، والحول بينهم وبين قضاء حاجاتهم، سواء كان ذلك في المدن والقرى، أو في الفيافي والقفار، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة] فتوبتهم مع قبول الله لها، تسقط عنهم العقوبة في الدنيا والآخرة، إذا حصلت قبل قدرة الجماعة على القبض عليهم، كما هو واضح في النص.
ومن الكبائر التي يقبل الله التوبة منها: رمي العفيفين والعفيفات، بجريمة الزنى، بدون إقامة البينة الشرعية التي نص الله تعالى عليها، في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النوور] والآيات في قبول التوبة من كل ذنب كثيرة.
وإن من رحمة الله تعالى بعباده، أن يقبل توبتهم من جميع ذنوبهم، ليطهر قلوبهم ونفوسهم، ويجعلهم أهلا لمغفرته وفضله، وقد أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم، أن يأخذ ممن أذنب من المسلمين صدقاتهم التي أرادوا بها تكفير ذنوبهم، لتطهيرهم منها، وتنمية إيمانهم به، وأمره أن يدعو لهم، لتسكن قلوبهم وتطمئن بقبولها، وتثبيت الله تعالى لهم على هداه، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة]
وهو تعالى فوق ذلك القبول والتطهير والتزكية بالتوبة، والدعاء لهم، شديد الفرح بتوبتهم إليه، كما في حديث ابن ابن مسعود الذي رواه عنه الحارث بن سويد، قال: "دخلت على عبدالله أعوده وهو مريض. فحدثنا حديثين: أحدهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا. قال أبو شهاب بيده فوق أنفه، ثم قال: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده). [البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري]
قال الحافظ في الفتح عند شرحه للحديث: "قوله بيده على انفه هو تفسير منه لقوله: فقال به، قال المحب الطبري: انما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية. وقال بن أبي جمرة: السبب في ذلك، أن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول هذا سهل.
قال: ويستفاد من الحديث، أن قلة خوف المؤمن ذنوبه وخفته عليه يدل على فجوره، قال والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب، كون الذباب أخف الطير وأحقره، وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، قال وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده، لان الذباب قلما ينزل على الأنف وانما يقصد غالبا العين، قال: وفي اشارته بيده تأكيد للخفة أيضا، لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره" انتهى
شروط قبول الله توبة عبده
وقد أجمل الإمام النووي، رحمه الله تلك الشروط عن العلماء في أول الباب الثاني من رياض الصالحين، وهو باب التوبة، فقال: "قال العلماء: التوبة واجبة مِنْ كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين اللَّه تعالى، لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:
أحدها أن يقلع عَنْ المعصية.
والثاني أن يندم عَلَى فعلها.
والثالث أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ مِنْ حق صاحبها. فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكنه مِنْه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله مِنْها. ويجب أن يتوب مِنْ جميع الذنوب، فإن تاب مِنْ بعضها صحت توبته عند أهل الحق مِنْ ذلك الذنب وبقى عليه الباقي." انتهى.
قلت: أما شرط الإقلاع عن المعصية، فقد بينه الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)} [النساء]
فالآية الأولى من هاتين الآيتين، حصرت توبة الله على من يتوبون من قريب، وهي تعني الإقلاع الفوري عن المعصية، فإذا لم يقلع عن معصيته فورا بل بقي مصرا عليها، فإنه لا يزال عاصيا، مستحقا لعقاب الله، ولا يستحق توبته عليه، هذا المعنى واضح في الآية، والذي لا يقلع عن تلك المعصية، بل يعود إليها ويعزم في نفسه أنه سيتوب منها، قبل أن ينزل به الموت، هو مستسلم لوسوسة الشيطان، ومتبع لخطواته، ومتبع لهوى نفسه، فيموت عاصيا.
فيجب أن يسأل نفسه هذين السؤالين:
السؤال الأول: هل يضمن لنفسه بعد ارتكاب المعصية، أن يتأخر ملك الموت وأعوانه من الملائكة، ساعة أو دقيقة أو لحظة من الزمن، حتى يتمكن من التوبة.
السؤال الثاني: هل إذا استمر في تعاطي المعصية، ولم يقلع عنها، وقد يكرر نفس عين المعصية التي لم يقلع عنها، بل ويسهل عليه ارتكاب معاص كثيرة غيرها، لأن الإصرار على عدم التوبة يدل على عدم خوفه من عقاب ربه فيستسهل ارتكاب أي معصية غيرها، فهل يضمن لنفسه ألا يطبع الله على قلبه، بالران الذي قال الله تعالى عنه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين] كما سبق.؟
ولا يقال: إن الله تعالى قال: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}ولم يقل: "يقلعون" لأن من أهم مقاصد التوبة، الإقلاع عن المعصية، بل هو لبها وجوهرها.
وقد يتعلل يعض الناس، في تأخر إقلاعه، عن الذنب بالآية الثانية: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بأن يقول: إن الله تعالى يقبل التوبة قبل أن يحضر الموت، كما ثبت أنه يقبل من العبد التوبة، ما لم يغرغر، وهو كما سبق من وسوسة الشيطان، لأن التوبة قبل حضور الموت، هو لتوقيت قبول التوبة، وليس إذنا بعدم التوبة الفورية، التي إذا لم يتب منها عن قريب، فإنه يستحق غضب الله عليه، مادام مصرا على عدم التوبة، ولكنه إذا تاب منها توبة نصوحا قبل أن يعاين الملائكة الموت الذين يقبضون روحه، أو يغرغر غرغرة الموت.
قال السيد محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير الآيتين: "وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ : الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ" انتهى.
وأما شرط الندم على المعصية
فإن الذي لا يندم على معصيته في الدنيا، يندم على ذلك يوم القيامة، يوم لا ينفعه الندم، ولعل ما حصل لصاحب الجنتين، وما أبداه من تحسر بعد أن أنزل الله بجنتيه، الرجز الذي حرمه منهما ومما أنفقه فيهما، بسبب كبريائه وزعمه أنه استحقهما لذاته، وعدم سماع نصح صاحبه الذي حاوره، وذكره بالرجوع إلى ربه، فأظهر استغناءه عن الله، ولو فرض أنه لقي ربه، فإنه سيكون أحسن شأنا في الآخرة، وما أعطاه الله الجنتين، والغنى في الدنيا، إلا وله عند الله خير منهما، وقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36)} فلما أهلكهما الله تعالى ندم وتمنى لو أنه استجاب لنصح صاحبه، كما قال الله تعالى عنه: { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)} [الكهف]. ومثله أصحاب الجنة التي ذكرها الله في سورة "القلم" الذين قالوا، بعد أن أهلكها الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)} إلى قوله: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)} [القلم]
وتأمل قول الله تعالى عن الظالم، كيف يندم يوم القيامة على ظلمه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)}[الفرقان].
كل أولئك يندمون يوم القيامة، مع ما يصيبهم من الخسارة في الدني، لأنهم لم يتوبوا إلى الله، ويندموا على عملهم بعد المعصية في الدنيا، فاستحقوا جزاءه في ذلك اليوم الذي لا ينفعهم ندمهم، قال العلامة ابن كثير رحمه الله في تفسير آيات سورة الفرقان، في كتابه "تفسير القرآن العظيم": "يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلّى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه، وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعض على يديه حسرة وأسفاً، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار} الاَيتين, فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه قائلاً {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً}. انتهى.
|
|