{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) } [النساء]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(01)البلاغ المبين الشامل - مقدمة

(01)البلاغ المبين الشامل - مقدمة



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمرن 202].



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء ].



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)}[الأحزاب].



أما بعد فإني أحمد الله تعالى على توفيقه لي بطلب العلم الذي فصلت القول في الاهتمام به في الوقت الذي كنت فيه أقيم في بلد يملؤه الجهل، وبيئة يندر فيه توجيه الناشىء إلى ذلك الاهتمام، فصلت ذلك في كتاب خاص يتضمن محطات حياتي، أرجو أن يوفقني الله لإتمامه.

كما أحمده تعالى على أن اختار لي بيئة بدأ ت فيها طلب العلم، بين يدي مدرسين يهتمون – مع قيامهم بالتدريس – بتوجيهم طلابهم إلى نشر الدعوة بين الناس بما أخذوه عنهم، كان ذلك عندما هاجرت من بلادي باليمن إلى جنوب غرب المملكة العربية السعودية [في قرية صامطة إحدى قرى جيزان] و كنت من أشد من تحمس لذلك، مع قلة علمي وسوء فهمي و صغر سني الذي لم يتجاوز 18 عاما.



حيث كنت أقوم بجولات في بعض قرى تهامة من لواء الحديدة، الذي يندر فيها العلماء، وكانت تفقد وجود مدارس فيها، ما عدا كتاتيب نادرة في بعضها لتدريس القرآن الكريم وبعض مبادئ العلوم، من قبل مدرسين غالبهم غير مؤهلين لتدريسه، إلا أفرادا قلائل في بعض المدن التي اشتهرت بالعلماء الأفذاذ في سالف الدهر، كمدينة المراوعة ومدينة زبيد ومدينة الزيدية، ولم أكن أعرف تلك المدن مع أن المراوعة كانت مقر أجداي الذين اشتهر كثير منهم بالعلم، ولا أعرف من بقي فيها من العلماء، بسبب نشأتي في بادية بعيدة عن تلك المدن بادية تندر فيها الكتاتيب، وتغلب على أهلها الأمية والبداوة.



لذلك كنت أشعر وأنا حديث عهد بالدراسة في مدرسة ابتدائية [المدرسة السلفية في صامطة] أنني صاحب علم ودعوة، لا غرورا وتكبرا وترفعا، ولكن كنت أجهل أنني كثير الجهل، وهو ما يسميه العلماء بالجهل المركب، وكنت أرى القيام بالدعوة فرض عين عليَّ في تلك البيئة، التي تنتشر فيها البدع والخرافات، ولا يوجد عالم يصدع فيها بالحق.



وكنت مع العامِلَين المذكورين [قلة العلم وصغر السن] شديدا في أسلوبي مبالغا في الحكم على الناس بالكفر فيما يفعلون من دعواتهم الموتى والاستغاثة بهم والتبرك بقبورهم، وهم لا يعلمون أن ذلك كفر، وتحكي منظومتي "بهجة القلوب في توحيد علام الغيوب وبعض التعليقات عليها" في طبعاتها الأولى ذلك الأسلوب الشديد وتلك المبالغة في الحكم بالكفر على من لم تقم عليهم الحجة.



لذلك انقسم الناس حيال دعوتي قسمين: غالبهم نفروا من الدعوة والداعي ووصفوه بالوهابي قبل أن يشتهر الوصف بالإرهابي في حياتنا الأخير–والوهابية بريئة من أسلوبه- وقليل منهم استجابوا وناصروا الدعوة والداعي.



سبب الاهتمام بموضوع البلاغ المبين:



كنت أسمع عبارة تتكرر على ألسنة بعض طلبة العلم، وهي: "لا يُعذر أحد بالجهل" - هكذا على إطلاقها - فإذا سُئلوا: لماذا؟ أجابوا: بأن الواجب على الجاهل أن يسأل العالم، والواجب على العالم أن يُعلم الجاهل؛ لأن الله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]. ويقول: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159].



وأسمع من بعض العلماء تقييد هذه العبارة، لتصبح هكذا:"لا يُعذر أحد بالجهل في الأصول، أو في العقيدة"، أي: كأركان الإيمان وأركان الإسلام، وكانت العبارة الأخيرة المقيدة أكثر شيوعاً، وأكثر قبولاً - أيضاً - وثبت هذا المعنى في نفسي، وبخاصة عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية في المعهد العلمي بصامطة، [وهي في الحقيقة مرحلتان متوسطة وثانوية]

وبناء على ذلك؛ كنت أرى كفر كل من حصل منه ما يعتبر كفراً بعينه، لا فرق بين من علم ذلك بقيام الحجة عليه، ومن جهل فلم يعلم ذلك لعدم من يقيم الحجة عليه.



وبنيت على ذلك أحكاماً رأيت أنها تترتب عليه:



منها: عدم جواز أكل ذبيحته، ولو صلى وصام وزكى وحج والتزم بكل ما بلغه من أحكام الإسلام، وأكَّد هذا المعنى عندي بعض العلماء الذين قابلتهم عندما كنت في المرحلة الثانوية، حيث يرى ذلك نظرياً، ويطبقه فعلاً فلا يأكل ذبائح عامة الناس إلا من ثبت عنده أنه موحد كما يقول، وذلك بمعرفته له شخصياً، أو بشهادة شاهدين يثق هو فيهما.



ومنها: أنه لا يرث مسلماً، ولا يرثه مسلم. ومنها: أنه إذا مات لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، لكفره. ومنها: أنه مخلد في نار جهنم. كل ذلك بنيته على هذه القاعدة، والحكم بأن مَن هذا شأنه فهو بعينه كافر كفراً أكبر.



وعندما بدأت أتفهم بعض معاني آيات القرآن الكريم - في الجملة - إذا تدبرتها، لفت نظري قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]. وما أشبهها من الآيات، مثل قوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما أنزل الله من شيء} [الملك: 7 ـ 9].



وأخذت أسأل نفسي: هل مجرد بعث رسول في أمة من الأمم تقوم به الحجة، وإن لم يبلغ بعض الناس ما جاء به على حقيقته، وبخاصة أمة محمد صَلى الله عليه وسلم - أمة الدعوة - لأن رسالته عامة لكل البشر في كل الأمكنة والأزمنة، وكثير منهم لم يبلغهم الإسلام، أو بلغهم بلوغاً ناقصاً أو بصفة مشوهة منفرة عن طريق المنصرين والمستشرقين وأمثالهم.



وهل يمكن أن يوجد في الأرض من يأخذ حكم أهل الفترة، لعدم بلوغ الدعوة إليه؟ أو أن كل أهل الأرض قد سمعوا عن الإسلام وعن الرسول صَلى الله عليه وسلم، وبخاصة في هذا العصر الذي وُجد فيه من الاتصالات والمواصلات ما قرَّب البعيد من المكان والزمان انتقالاً وصوتاً ورؤية؟



وأراد الله تعالى لي أن أتتلمذ على أحد المشايخ في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وحصل حوار في نفس المسألة، فسمعت منه غير ما كنت سمعته واعتقدته من قبل فتأكد عندي أن الأمر يحتاج إلى بحث، ثم أراد الله تعالى لي أن أجول في مشارق الأرض ومغاربها، وألتقي أصنافاً من البشر من المسلمين مثقفين و جهالاً وأميين، ومن النصارى كذلك، ومن الوثنيين، ومن الملحدين وغيرهم.



ووجدت من هؤلاء البشر من لم يسمع عن الإسلام إلا ما ينفره ويشوه صورته عنده، تشويهاً يجعله يرى أنه من العبث البحث عن صحة هذا الدين؛ لأن المعلومات التي تعتبر متواترة عنده، من أجهزة الإعلام الغربية والمنصرين والمستشرقين ومراكز البحث الغربية والجامعات والمدارس، كل ذلك قد جعله يوقن بأن الإسلام دين الوثنيين الهمج القتلة سفاكي الدماء!



كما وجدت من سمع أن الإسلام دين خاص بالعرب المتأخرين ثقافياً وحضارياً واقتصادياً.. ووجدت من يفهم كثيراً من حقائق الإسلام ويتعمد تشويهه وينسب إليه زوراً ما هو منه براء.



وقد جعلني ذلك أُكثر التأملَ في القرآن الكريم، وبخاصة في شهر رمضان من كل عام، حيث جرت عادتي أن أعكف على قراءة حزب لا يقل معدله عن ثلاثة أجزاء في مسجد الحبيب الأكرم محمد صَلى الله عليه وسلم كل ليلة.



ولفت نظري كثير من الآيات المتعلقة بالتبليغ والدعوة، وبخاصة وصف البلاغ بـ"المبين" في مثل قوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35]. وقوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54، والعنكبوت 18]، ومثله قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1]. وقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} [الحديد: 25]. وكذلك وصف الرسول صَلى الله عليه وسلم بأنه نذير مبين في قوله تعالى: {إن هو إلا نذير مبين} [الأعراف: 184].



وتبين لي من قراءة سيرة الرسول صَلى الله عليه وسلم، أنه بين ما أرسله الله به بياناً واضحاً –في جميع مراحل دعوته زمانا ومكانا-تقوم به الحجة على كل من وصله تبليغه، في جزيرة العرب، وأنه صَلى الله عليه وسلم حطَّم، بعون من ربه ثم بجهاد منه ومن صحابته، كل الحواجز والسدود التي وضعها الطغاة أمام البلاغ المبين الذي كلفه الله إيصاله إلى الناس، واتخذ كل الوسائل المتاحة له للقيام بهذا البلاغ، كما سيأتي في مكانه بإذن الله.



ثم قام أصحابه الكرام، رَضي الله عنهم، بعده بالبلاغ المبين، فأوصلوا دين الله إلى الناس بالحجة والبيان، وجاهدوا رؤوس الكفر والطغيان الذين كانوا يصدون الناس عن سماع الدعوة إلى الله.



ولم يتركوا هم والتابعون لهم بإحسان شبراً من الأرض استطاعوا الوصول إليه، إلا بلغوا أهله رسالة الله بيِّنةً واضحة بياناً تقوم به الحجة على الناس، وعرف الناس الإسلام بسبب فهمهم له عن طريق البلاغ المبين ودخلوا فيه أفواجاً.



ثم استمر البلاغ بعد ضعف الدولة الإسلامية وانزوائها، عن طريق المخلصين من أبناء الإسلام الذين ساحوا في الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكان غالبهم من التجار من العرب وغيرهم، فنشروا الإسلام بما عندهم من العلم وبالقدوة الحسنة، في جزر الملايو: إندونيسيا وماليزيا والفلبين وبروناي - كما تسمى هذه الدول الآن - وكذلك في الصين وبلاد الروس وفي بلدان كثيرة في إفريقية، وقامت في كثير من تلك البلدان دول إسلامية. كل ذلك كان بسبب وصول معاني الإسلام إلى الناس عن طريق البلاغ المبين - وإن تفاوت البيان بتفاوت القائمين به -.



وأخذتُ أتأمل في الوسائل المتاحة للبلاغ المبين، في هذا الزمان في كل أنحاء الأرض، وكيف فرط فيها المسلمون، بل كيف استغلها كثير من المنتسبين إلى هذا الدين لهدم أركانه، ونشروا بها أنواع الفساد والمنكرات، وكيف استغلها اليهود والنصارى والوثنيون والملحدون في نشر باطلهم ومحاربة الإسلام، فاجتمع على محاربة الإسلام بهذه الوسائل أعداؤه من أهل تلك الأديان، ومن بعض المنتسبين إليه - إما جهلاً منهم وإما عناداً وتقليدا لمن والوهم من دون الله ورسوله والمؤمنين ـ.



ثم جلت بفكري في حال المنتسبين إلى العلم، والذين نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الله - أفراداً كانوا أم جماعات - وكذلك المؤسسات الإسلامية التعليمية منها والدعوية، الرسمية والشعبية، وصلة بعضها ببعض - إيجابية كانت تلك الصلة أم سلبية - وأثر ذلك في القيام بالبلاغ المبين بين للمسلمين وغير المسلمين، وهل أقاموا الحجة على الناس بالبلاغ المبين أو لا؟



ثم تفكرت في العقبات والسدود التي تعترض البلاغ المبين، وتقف حاجزاً بينه وبين الناس، سواء كانت تلك العقبات داخلية - أي أوجدها المنتسبون إلى الإسلام من أبناء جلدتنا - أم خارجية، أي أقامها أعداء الإسلام من خارج البلدان الإسلامية، مادية أم معنوية، وكيف يمكن التغلب على تلك العقبات، وما الوسائل المناسبة لدك كل عقبة منها؟



ثم التفت إلى أحوال الناس في العالم، وقد جُلت في كثير من البلدان في مشارق الأرض ومغاربها، فخِلتُ أن غالبهم، لم يسمعوا عن الإسلام إلا ما ينفرهم منه؛ لأن الصور التي نُقلت لهم عنه كلها صور مشوهة، ولم يبلغهم على حقيقته الناصعة؛ لأن طرق وصوله إليهم تنحصر غالباً في كتابات المستشرقين والمنصرين واليهود والقاديانيين والبهائيين، وغيرهم من أعداء الإسلام، ويؤكد تلك الصور المشوهة لهم أمران:



الأمر الأول: ما يشاهدون من أحوال المسلمين أنفسهم، حيث يرون في أحوالهم النزاع والقتال وسفك الدماء، واضطهاد الأقوياء للضعفاء، والاستبداد السياسي، والفساد الإداري والمالي، وفقر الشعوب مع غنى أرضهم بأنواع الخيراًت، وكبت الحريات، والتبعية للغرب وعدم الاستقلال.



والخلاصة أنهم رأوا في أحوال المسلمين الصورة المشوهة التي نُقلت لهم عن الإسلام فكان المسلمون أنفسهم فتنة للناس، يصدونهم بأفعالهم عن هذا الدين.



الأمر الثاني: أن كثيرا من مراكز البحث الغربية والجامعات والكنائس ووسائل الإعلام الغربية، بكل أنواعها، كلها تصور الإسلام تصويراً يجعل كل من يسمع عنه يكنُّ له ولأهله البُغض والكراهية، وهم لا يسمعون ولا يقرؤون ولا يشاهدون إلا ما تنقله لهم تلك المراكز والجامعات والوسائل، إذ لا توجد وسيلة من الوسائل الإعلامية وغيرها في البلدان الإسلامية تنقل صورة الإسلام الصحيحة بلغات تلك البلدان، بل إن كثيراً من وسائل الإعلام العربية، لو وصلت إليهم لما وجدوا فيها ما ينقل إليهم حقيقة الإسلام!



بعد أن استعرضت ما مضى سألت نفسي: هل لا زال البلاغ المبين الذي تقوم به الحجة على الناس، قائماً في الأرض في الشعوب الإسلامية وخارجها، بين الجاليات الإسلامية وغيرهم من أهل البلدان غير الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها؟



وهل عاد يوجد من المسلمين من يقوم بتحطيم حواجز الكفر التي تصد الدعاة إلى الإسلام عن إيصال الإسلام بيِّناً واضحاً إلى الناس في كل الأرض، وتصد الناس عن سماع الدعوة إلى الإسلام بالبلاغ المبين؟



أو أن كثيراً من حُكام المسلمين يضعون الحواجز والعقبات التي تصد الدعاة عن القيام بالبلاغ المبين، وتطاردهم في عقر دار الإسلام بتكميم أفواههم واضطهادهم واعتقالهم وسجنهم وقتلهم، وتصد الناس عن سماع هذا البلاغ وترغمهم على الاحتكام إلى الطاغوت، وتبعدهم عن تطبيق الإسلام في حياتهم بكل الطرق والوسائل، حتى أصبح كثير من المسلمين أنفسهم لا يفقهون حقيقة الإسلام، وبخاصة قاعدة قواعده الأولى "شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله" وما تقتضيه من تطبيقٍ لكل آية من آي القرآن الكريم وكل حديث مما صح من أحاديث الرسول صَلى الله عليه وسلم، ووقف كثير منهم كما وقف حكام الغرب من المسيحية المحرفة التي لم يعد فيها ما يمكن تطبيقه في حياة الناس العملية، فضلاً عن العقيدة التي هي أساس المنهاج العملي، ونزلوا الإسلام الذي لا يمكن تحقيقه إلا بتطبيق أحكامه في حياة الناس كلها، منزلة الإنجيل المحرف الذي لا يوجد فيه نظام شامل للحياة مثل ما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية.



بل إن كثيراً من حُكام المسلمين كانوا أشدَّ عِداءً للإسلام من عِداء حكام الغرب للمسيحية التي يدعمونها ويدعمون دعاتها دعماً مادياً ومعنوياً بل وعسكرياً، إذا ما اقتضى الأمر ذلك.

وأما ذراري المسلمين الذين أقصوا الإسلام عن حياة الناس، فإنهم لم يكتفوا بذلك الإقصاء، بل حاربوا الإسلام ودعاته في بلاده وفي خارج بلاده، وتصرفوا في غالب مرافق الدولة ومصالح الشعوب، تصرفات تخالف جوهر الإسلام وما عُلم منه بالضرورة، حتى أصبح كثير من المسلمين يظنون أن الإسلام هو الذي يطبقه حكامهم الذين تعمدوا مخالفته.



فهل عاد البلاغ المبين الذي تقوم به الحجة على الناس - مسلمين وغير مسلمين - موجوداً تترتب عليه آثاره كلها؟ وإذا كان موجوداً فهل عدد القائمين به في العالم يكفي لإقامة الحجة على الناس، ويسقط به فرض الكفاية عن بقية القادرين عليه من المسلمين؟ وإذا كان غير موجود أو موجوداً وجوداً غير كاف فمن المسؤول عن وجوده أو تكميله؟



هذه الأسئلة وغيرها دارت بخاطري وأنا أتلو كتاب الله وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وسيرته وسيرة أصحابه، وأرى واقع الناس في الشعوب الإسلامية وفي خارجها، فكان ذلك هو السبب في الاهتمام بهذا الموضوع والعزم على الكتابة فيه. وبناء على ذلك سجلت بعض الأسئلة التي دارت بخاطري، كما ستأتي قريباً.



وإني على يقين أن هذا البحث لو أُعطي حقه وعرف المسلمون واجبهم، كلٌّ منهم في موقعه وإمكاناته، وقام بما أوجبه الله عليه في هذا الأمر، فإن هذه الأمة ستعود إلى وضعها الطبيعي في الأرض، الوضع الذي اختاره الله لها، وهو مركز الشهادة على الأمم وقيادتها إلى هداه الذي لا سعادة لها ولتلك الأمم إلا به.



وإني لأشعر بأن هذا البحث ليس في مقدوري إعطاءه ما يستحق بمفردي، فطاقتي محدودة -ولا أدري عن عمري المحدود متى ينقطع - والبحث يحتاج إلى فريق عمل من الباحثين والمساعدين من الكتبة وغيرهم، وذلك يحتاج إلى مال وأجهزة وأدوات، ومن أين لمثلي توفير ذلك؟



ولكني عزمت على محاولة الكتابة فيه في حدود قدرتي، واتجهت إلى جمع مواد هذا البحث من كتاب الله وسنة رسوله وسيرته المطهرة، وغيرها من كتب العلماء، وجمعتها في بطاقات كثيرة، حاولت تصفيتها، بحذف ما لا يصلح للبحث بصفة مباشرة، كما اتجهت إلى إشراك من أستيع لقاءه من علماء المسلمين المعاصرين، لأحاوره في الإجابة على أسئلة محددة في هذا المجال، كان ذلك من بداية سنة 1989م التي أخذت فيها إجازة تفرغ لهذا البحث.



ولقد كثرت النصوص التي جمعتها، كما جمعت إجابات كثيرة من العلماء الذين قابلتهم، وبقيت فترة طويلة لم أتمكن من ترتيبها والبدء بكتابة البحث، وحصلت لي عوائق كثيرة، صدتني عن الشروع في ذلك، حتى تهيبت من الكتابة في ذلك، وخشيت أن يحول بيني وبين الكتابة هاذم اللذات ومفرق الجماعات.



ورأيت أن أقرب ما يمكن نشره، بدون تكلف ولا تأخير، هي إجابات العلماء الذين قابلتهم، لتعم الفائدة، وأرجأت كتابة البحث بكل أبوابه وفصوله، وهذه مقدمة لإجابة العلماء على أسئلة "البلاغ المبين" وسأختار من أولئك العلماء، من كانت أجوبتهم واضحة لا تحتاج إلى مراجعة ولا تعقيب من مقدها. وتلي المقدمه حلقات تلك الأجوبة.

وسأحاول جهدي الكتابة في الموضوع، إذا قدر الله في العمر فسحة. والله ولي التوفيق.





السابق

الفهرس

التالي


14225015

عداد الصفحات العام

1851

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م