(047)علماء حاورتهم في موضوع البلاغ المبين
1-إجابات الدكتور عبد الله بن عبد العزيز المصلح عن أسئلة البلاغ المبين
الجمعة: 8/11/1410هـ في فندق العطاس بجدة
[السائل: عرف نفسك قال: (اسمي عبد الله بن عبد العزيز المصلح آل شاكر. ولدت باليمن في عام: 1367هـ. رحلت مع عائلتي إلى مدينة الرياض، وقد عرفوا في تلك الفترة باسم تميزوا به هو: ,, الإخوان المهاجرون،، وهم مجموعة من أقاربي رحلوا من اليمن إلى المملكة على إثر دعوة قام بها الشيخ أحمد بن محمد بن سنان، عليه رحمة الملك الرحمن. وتفرغوا لطلب العلم، وما كان لهم من شيء يشغلهم إلا هذا. وقد تلقيت تعليمي في مدينة الرياض بدء بالدراسة في مسجد الشيخ محمد بن أحمد بن سنان ابن الداعية أحمد، ثم انتقلت بعد ذلك إلى المدارس الابتدائية، فالمعاهد العلمية، فكلية الشريعة، فالمعهد العالي للقضاء، وتدرجت في دراستي كما قلت من الابتدائية حتى الدكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو معروف في غالب البلدان، لمشاركاته في موضعات متعددة في الفضائيات]
1- السائل: الأسئلة كثيرة، وسنختار منها ما تيسر خشية أن يضيق علينا الوقت، ونرجو-إن شاء الله-أن نسمع ما يفيد في هذا البحث.
السؤال الأول: تكرر في القرآن الكريم ذكر البلاغ المبين في سياق الدعوة إلى الله،
و كذلك إرسال الرسل بالبينات والحجة والبرهان. ما سر التكرار؟ وما السر في وصف البلاغ بالمبين؟
الجواب: تكرر ذلكم الذكر ليبين الله عز وجل لخلقه أنه قد أقام عليهم الحجة، وأتاهم من البينات ما جلَّى لهم الفهم، لكي يعلموا لماذا خلقوا، ومن خلقهم، وأين مصيرهم، إلى الله عز وجل. ذلك أن ثلاثة أسئلة في الدنيا لا يستطيع الإنسان في مقدوره البشري مهما عظمت معرفته، وبعد فهمه، ودق في هذه الدنيا ذكاؤه وإدراكه، أن يدركها أو يعلمها من خلال معرفته البشرية، وهي: (من أنا، ولما ذا جئت، وأين المصير؟) من أين جئت إلى هذه الدنيا؟ وما هي أصل نشأتي؟ وكيف جئت؟ ولما ذا أتيت؟ أي ما هي الطبيعة التي تحدد لي مهمتي في رسالتي؟ وأين مصيري بعد هذه الدنيا؟
وهذه الثلاثة الأمور لا يستطيع أن يجيب عليها إلا من خلق هذا الإنسان وأوجده، والذي خلق الإنسان وأوجده يعلم خفاياه وخباياه، وأصل نشأته والغاية من وجوده، والمآل الذي سيتجه إليه.
من أجل ذلك كرر الله في القرآن أنه قد أقام لنا الحجة وأبان لنا الطريق، فعرَّفَنا-من خلال تعليم الله لنا وإعلامه لنا وإخباره لنا-الطريقَ وحدد لنا معالم حياتنا، ولذلك أكثر سبحانه وتعالى من كونه قد أقام الحجة.
والأمر الآخر أن الله عز وجل لن يؤاخذ عبدا مؤاخذة شرعية إلا إذا كان قد أقام عليه الحجة وأقام عليه الدليل، وهذه أعظم شروط إقامة الحجة، وهذا أعظم أسباب التكليف، فإن التكليف لا يتم على العبد إلا إذا توافرت له الشروط التالية:
أن تبلغه الرسالة. أي تبلغه الحجة الواضحة الجلية من الله عز وجل، والتي من خلالها يعلم أن الله ربه. وأن الإسلام و هو طريق العبودية و الذلة والانكسار والطاعة لله، هو طريقه ومنهجه. وأن محمدا (صَلى الله عليه وسلم) هو الواسطة بينه وبين الله في البيان والبلاغ.
هذه الأمور هي التي أقام الله بها عليه الحجة، وأعطاه الله عز وجل عقلا يعي هذا التكليف، ومن لوازم العقل السمع والبصر والكلام، فإذا انتفت لوازمه أو انتفى العقل فإن الإنسان لا يؤاخذ، وكذلك القدرة على التنفيذ. إذًا ثلاثة أمور بعضها مرتبط ببعض: إقامة الحجة، وإدراكها من خلال ما آتاه الله من عقل ولوازم هذا العقل-وهي وسائله الموصلة إليه، والقدرة على التنفيذ. فإذا عجز الإنسان عن واحدة منها فغن الله لا يؤاخذه.
إذًا قد أكثر الله تعالى من أنه قد أقام لنا الدليل وأقام لنا الحجة وأبان لنا المنهج والطريق، من أجل أن يصبح العبد وقد اتضحت معالم الطريق في مساره إلى الله واضحة جلية لا غبش فيها ولا خلط فيها. والحمد لله.
السؤال الثاني: الله تعالى اشترط البيان في إقامة الحجة، فهل يكفي مجرد البيان والتبيين في إقامة الحجة أو لا بد من التَّبَيُّن من قبل المدعو أو المبَلَّغ؟ أي لا بد أن يتضح له معنى ما كُلِفه شرعا.
الجواب: الله عز وجل قد أبان للإنسان ما يتعلق بقضايا معتقداته، من خلال كتابه وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وجعل على هذه الإبانات حججا-أعطاه حججا-، وهذه الحجج تكاد في تقديري تنحصر في خمسة أشياء:
الأول: الفطرة. إذ هيأه الله عز وجل وطبيعته قبول الحق وإلفه والاستعداد الفطري لتلقيه وحبه والقبول له، مع الأخذ في الاعتبار أن عن الإنسان استعدادا لقبول الفساد.
الثاني: أن الله وهبه عقلا يعي تلك الحجة وذلكم البرهان.
الثالث: أن الله أرسل له رسلا.
الرابع: أن الله أعطاه إعجازا. وهذا الإعجاز يتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة. وإذا كان الإعجاز للأنبياء السابقين قد تمثل في أظهر ما يقرع العقل قرعا مباشرا، وهو الإعجاز المادي كما رأينا أن الله عطل السنن الكونية في كون النار تحرق، فجعلها بردا وسلاما على إبراهيم.
وكون الماء يغرق فجعله طريقا يبسا لموسى. ولكن الله أعطى محمدا صَلى الله عليه وسلم أنواعا عديدة من الإعجاز: فأعطاه إعجاز التشريع، وهي قضية طويلة، وأعطاه إعجاز البيان، وهذه مسألة يدركها أهل اللغة ويسعون في سبيل الوصول إليها سنين طويلة حتى يصير الواحد منهم قادرا على تذوق البيان وإدراكه وإدراك ما في هذه اللغة من أسرار بيانية نادرة.
وهناك إعجاز الهداية في قلب الأمم والشعوب، قلب الأمم والشعوب في الأرض من أجل أن تتجه إلى الله سبحانه وتعالى. وقد أخبرنا رسول الله صَلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله نظر إلى العالم قبل بعثتي عربهم وعجمهم فمقتهم جميعا إلا بقية ممن كانوا على دين إبراهيم …) وهؤلاء الذين كانوا يدينون بدين إبراهيم كانوا قلة قليلة، والذين كانوا موجودين على ظهر الأرض هم اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعبدة الأوثان، وهؤلاء كلهم قد مقتهم الله-أي أبغضهم وأبغض منهجهم …
وكل هؤلاء كالناس كانت لديهم تصورات وكان لديهم دين يدينون به ويخضعون له، ومع ذلك يوم أن جاء دين الله عز وجل في هذه الأمم وسرى في هذه الشعوب فقلبها قلبا لكي تكون مسلمة مؤمنة. هذا الذي أسميه إعجاز الهداية: تحويل الأمم والشعوب. وأنت ترى اليوم من لم يكن بعربي: أسود في مجاهل إفريقيا، وأبيض في جبال الألب، وأمريكي وبريطاني في مواقع متقدمة في مناصب الدنيا. وأنت قد رأيت هذا بنفسك. وكلهم إذا خالط الإيمان بشاشة قلوبهم رأيت فيهم حماسا، وذلك مما نسميه بإعجاز الهداية …
وهناك الإعجاز المادي … وهناك الإعجاز العلمي، وهي قضية طويلة جدا ليس هذا المقام مقام بيانها … ولكن أقول: كل هذه قد كوَّنت إقامة الحجة وأظهرت إقامة البرهان، فأصبح البيان بالنسبة لنا فيه قوة مهيمنة، قوة هيمنت على العقل المتفتح للحق استطاع من خلاله أن يبهر وأن يجد نفسه خاضعا ذليلا ساجدا لربه سبحانه وتعالى.
والإنسان مع هذه الحجج الظاهرة ربما تواردت عليه بعض الشكوك لبعض الأسباب مع هذه الكتل ومع هذه الأنواع الضخمة جدا من البيانات الواضحة الجلية، ربما كانت هناك بعض الشبه أو بعض العوائق، لا بأس أن يسأل وأن يتبصر وأن يتبين، وإلا فالحجة من القوة بحيث تبهر العقل، وإذا أراد الله تعالى لعبده أن يفتح عقله لقبولها فإن فيها ما يأسر هذه العقول.
السائل : الحقيقة إذا بلغ الإنسانَ الحقُّ بهذه الأوصاف التي ذكرتموها فلا بد أن يتبين له الحق، ولكن إذا بلغه بطريقة غير هذه الطريقة، بل أقل منها بكثير، بحيث إنه لم يتبين له أنه الحق، والله تعالى قد قال في سورة البقرة: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} وقال في سورة النساء: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين …} أليس المقصود بالتبين هنا الظهور للمخاطب؟
الجواب: نعم. هو لا بد من الظهور للمخاطب. تبين أي انجلى وظهر له. وفي داخل بيان الله وحججه التي تركها لخلقه … ومن عجائب الدنيا أن يجعل الله في هذا الدين من الإعجاز ما يتناسب مع كل زمان ومكان. فأنت ترى-مثلا-في هذا الزمن الإعجاز العلمي الذي ظهر، فهو طريق للإبانة والكشف والظهور والجلاء، بحيث تصبح هذه الحجة في حد ذاتها بيانا واضحا جليا. فالظهور لا بد منه.
السؤال الثالث: هذا السائل متأخر في الترتيب، ولكني أقدمه هنا لمناسبة ما ذكر في الفقرة الأخيرة من السائل السابق. ما دور العقل، والفطرة، وما أودع الله في الكون من إبداع ودقة ونظام في إقامة الحجة على الناس في جانب الإيمان بالله عز وجل في الجملة بدون وحي؟.
الجواب: دع العقل والفطرة وحدهما، أما ما في الكون فهو شيء ثابت. دعني أحدثك عن قضية الفطرة والعقل. فأقول: إن الفطرة-وهي تكلم الجذوة الربانية الموجودة في داخل هذا الإنسان، في أصل كينونته وبنائه-والعقل-وهو ما أودع الله في الإنسان من جوهرة جعلها ربنا عز وجل سببا لتلقي الحجة وفهمها-أقول: هذان الأمران في تقديري يشكلان في الإنسان موقع التأهيل لقبول الحق.
أما الكون فإني أقول دائما أن لله آيتين ثابتتين من آياته الكثيرة لا تتغيران ولا تزولان: إحداهما تكفل الله بحفظها من أن يمسها البشر بالتغيير، وهي القرآن. والثانية تكفل الله بحفظها باعتبارها سنة من سننه الكونية التي يستحيل أن يرقى البشر لتغييرها، وهي ظواهر الكون. فكان الكون آية الله الناطقة، آية الله المنظورة الشاهدة على وجوده. والقرآن آية الله المقروءة المتلوة. وكلاهما آيتان ثابتتان مستقرتان.
السائل: مادور هذه الأمور: الفطرة والعقل والكون في إقامة الحجة بدون الوحي في مسألة الإيمان بالله في الجملة، وليست في التفاصيل؟
الجواب: لا تقوم بها الحجة-خلافا لمن يقول: إن العقل كاف في إقامة الحجة-ولو كانت هذه تكفي لإقامة الحجة لما قال الله عز وجل-في الآية المحكمة في كتابه-: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وقد تعسف من قال: إنه العقل. والصحيح أنه إقامة الحجة عن طريق النبوة والوحي …
السائل: هناك بعض الجزئيات في بعض الأحاديث في مثل هذا الباب، مثل قوله صَلى الله عليه وسلم: (أبي وأبوك في النار). ما القول فيها؟
الجواب: نقول في هذه: هناك ثلاثة أصناف من الناس:
الصنف الأول: هم أطفال المشركين.
والصنف الثاني: هم أهل الفترة-إلا ما جاء نص ببيانه فيها-.
والصنف الثالث: هم الذين لم تبلغهم الدعوة.
وللعلماء في ذلك حديث طويل تجده في كتب العقيدة مفصلا، لكني أحدثك عن موجَزِه فأقول: إن الجمع بين الأحاديث في هؤلاء الثلاثة الأصناف يخرجك بقاعدة تقول لك: إن الله عز وجل قد قال-وقوله الحق-: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وهي آية محكمة غير منسوخة واضحة الدلالة بينة جلية، ولذلك فإن الله يبعث لهؤلاء يوم القيامة تكليفا وابتلاء يتناسب مع ذلك اليوم، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وقد يقول قائل: إن ذلك يوم القيامة، وهو يوم جزاء لا عمل. والجواب أن ذلك في عرصات القيامة، ألم تسمع إلى ربك وهو يقول: {يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون}.
|
|