(051)علماء حاورتهم في موضوع البلاغ المبين
إجابات الشيخ ياسين بن عبد العزيز القباطي على أسئلة موضوع البلاغ المبين
[قابلته في منزله بصنعاء، وكان مشغولا فأخذ الأسئلة وأجاب عنها دون أن أكون حاضرا وقد أجمل الإجابات بالصورة الآتية، وغالبها بخط يده، وبعضها بخط غيره من إملائه. والشخ متخصص في أصول الففقه في كلية الشريعة الأزهرية، ولذا يختلف أسلوبه عن كثير من المجيبين على هذه الأسئلة]
وبه العون ومنه التوفيق ,, ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا،،.
ما كان له الشأن الأعظم عند الله عز وجل من التكاليف مما تبنى به أو تحفظ الضرورة التي تقوم على صرحها الحياة الصحيحة، يسوغ القرآن وروده مكررا على مختلف أوجه أغراضه وأساليبه استمالة منه للنفوس، وتفتيحا لمنافذ الفطرة، حتى يكون منها حسنُ التأتي والاختيار له على غيره، وحتى توليه الأهم من اهتمامها والأقل من آمالها، والأدق من نظامها، والأوفق من خططها، وحتى يكون له الصدور من أقوالها وأفعالها وأطولها،، لاسيما ما كان فيه متعديا نفعه إلى الغير مما تكثر بحسن أدائه الأجور، وتمحى به الآصار، كالبلاغ المبين الذي مقتضاه إيقاف الإنسانية المكلفة على المحجة من مناطق التكليف الديني بأدلة وبراهين الحجة، والذي يعد وظيفة الرسل عليهم السلام، لأنه جسر الرسالة إلى ذاكرات العقول، ومتن النبوة إلى قلوب المستجيبين، ودعامة الحجة البالغة على المعاندين.
فما كان من أسس المصلحة الإنسانية من محتويات الدين فهي من عناوينه، وما كان دعوة إلى بناء أو حفظ ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية على وجهها السليم، يلهمنا الكتاب إلى أهميته بتكراره للدلالة على فرضية إعماله، كالبلاغ المبين الذي توالى ذكره من هذا القبيل. وكذا إرسال الرسل بالبينات والحجة والبرهان فهو من هذا السبيل.
وما كان من هوادمها يدلنا على ضرره بكثرة ذكره، للبرهنة على ضرورة إهماله ودفعه. وكل ما كان نفعه عميما من واجبات الدين وخيره جماعيا عالميا، حُمِّلَه المسلمُ على وجه من التأكيد لوجوبه عليه، لأنه به تقوم الحياة الجماعية الصحيحة وتمتد الحياة كلها، وعليه تُحمَل، فكان لا بد أن تؤكد ضرورة الاضطلاع به، لأنه من أهم وسائل الحياة الجماعية الفاضلة، مضافا إلى أنه وسيلة حياة الفرد.
والبلاغ المبين للدين الخاتم الحق إلى ذوي العقول السليمة، هو واجب الرسل عليهم السلام والأتباع، وهو الواجب الذي كُلِّفَه خاتمهم رسول الله صَلى الله عليه وسلم وأتباعه رضوان الله عليهم أجمعين، لأنه التكليف الذي يدخل تحت نطاق قدرة الرسول وقدرة كل تابع عالم من رسالته ما يتحتم عليه إيصاله للآخرين، إذ الإسماع لكلام الله عز وجل، ولما افترض وما حرم على المكلفين من بريته أو قيام الداعي به نحو الآخرين، أمر تسعه قدرته وتحيط به استطاعته، وتلك هي هداية الدلالة.
أما إيداع الهدى في الأفئدة إيمانا وتقوى، وفي الجوارح إسلاما وإحسانا، فهذا ما لم يكلفه نبي فضلا عن تابع، لأنه مما لا يدخل تحت الطاقة، فهو مما استأثر الله تعالى بإبداعه وحليته في قلب العبد وجوارحه.
ومن هنا ندرك قصر وظيفة النبي والتابع له على أداء واجب البلاغ المبين لحقائق هذا الدين الخاتم، فهو المفروض من الله عز وجل على الأنبياء من قبله وعلى من تبعهم نحو الآخرين. وهذا ما يصدع به قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ المبين}. ليدل على أنه واجب لا يجوز للرسول صَلى الله عليه وسلم ولا للأتباع أن يعطلوه في الوسط المسلم ولا في الوسط غير المسلم. ولا يتأتى لهم أن يعملوا ما زاد عنه من الهدى، إذ لو تقحم الداعية ما زاد على بلاغ الدلالة، فقد تقحم الصعب من الأمر وتجاوز حد قدره وتجاوز ما يتم إلى ما لا يتم.
والبلاغ في الجملة يسهل على كل مُبَلِّغ بغض النظر عن الحجة قامت أو لم تقم على المُبَلَّغ، بيد أن البلاغ المبين الذي تقوم به الحجة وتتضح به المحجة وتبرأ به الذمة، ليس بالأمر الذي يحسنه كل أحد، وإن علم من الكتاب ما علم. فقد يفقد عُدّة التوصيل من الوسائل الأجدى والرفق الأنسب وحسن الخطاب، وتخير الوسيلة والظرف للمخاطب على ما حدد الكتاب من الوسائل وصنف من الناس. وصدق الله القائل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. ومن لهذه الثلاث غير الثلاثة؟
فالحكمة للمُبَلِّغ الحكيم. والموعظة الحسنة للمذكر المحسن. والجدال بالتي هي أحسن لأهله ممن يُؤْلَفون ولا ينفرون. والقرآن لم يكتف بأنه بلاغ وكفى، بل ضم البيان لتبرأ به الذمة.
والإبانة لكل مدعو إنما تتم له بما يفهم عن الشارع الحكيم، من مناسبة الوسائل المشروعة والحالات والظروف بما يسمع كلام الله المرشد لواجبات الأحوال والأقوال والأفعال.
لذا كان البلاغ المبين يعني الرسول وكل تابع له قادرٍ على حسن أداء واجب البلاغ المبين للذي يُفهم من فرائض هذا الدين، وإزاءه يلزم المدعو سماعه والإنصات إليه، فهما على هذا واجبان يندرجان ضمن التكاليف الشرعية: الواجب ضمن الواجب، والمندوب ضمن المندوب، والأهم ضمن الأهم ، والمهم ضمن المهم …
وأما السر في وصف البلاغ بالمبين، فهو إشعار بأنه لا يتم ولا تقوم به الحجة، ولا تتضح المحجة، ولا تبرأ به ذمة المبلِّغ، ولا يتحتم السماع والإصغاء من المبلَّغ، إلا إذا كان البلاغ بينا واضحا، بحيث لا يخرج الإنسان من دائرة العذر إلا إذا كان معلوما مفهوما داخلا تحت دائرة فهمه.
-والبلاغ المبين الداعية يقتضي:
1- تبليغ ما جاء به الرسول صَلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية على تكرر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2- إقامة الحجة على العقل البشري.
3- إيضاح المحجة للمكلف.
4- استنقاذ من كتب الله لهم السعادة بقبولهم لمقتضيات البلاغ المبين.
5- براءة ذمة المكلف بالبلاغ المبين.
ويستهدف إيصال ما لا بد منه من الواجبات على كل مكلف، وما لا يسعه الجهل به. وأعلى هذه الواجبات هي شهادة التوحيد.
والمكلف هو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة بينة واضحة وتأهل للخطاب، أي من وصله كلمة التوحيد وكان صحيح السمع. ومن سمع بدعوة الإسلام، فهو المكلف الملزم بأن ينقاد ويعمل بشرائع الدين وواجباته ويبتعد عن محظوراته. ومن وافته المنية قبل البلوغ فلا خطاب عليه في الآخرة، لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ومن اتصل جنونه إلى ما بعد البلوغ فمات وهو مجنون فلا يعد مكلفا مخاطبا، وكذا من عاش بالغا ولم تبلغه أصل الدعوة ورأس الأمر. ولا يشترط أن تبلغه تفاصيل عقائد وشرائع الإسلام بأدلتها، بل يصير مكلفا بمجرد البلاغ المبين بأصل الدعوة فذلك برهان على أن من تمكن من سماع الشهادتين في الأذان، وهو يفهم اللغة العربية ولم يتبع الإسلام فهو مكلف قامت عليه حجة البلاغ المبين في الأصل والجملة، بحيث لو مات ولم يسلم استحق العذاب المؤبد في النار الأبدية، لأنه لا عذر له في أنه لم يفكر في دقائق الإسلام وتفاصيله زمنا طويلا، لأن الرسول صَلى الله عليه وسلم ما كان يمهل الكفار الزمن الطويل ليفكروا بعد أن تبلغهم دعوة الإسلام في أصلها وحقيقتها.
ويعتبر ذلك كافيا في انتفاء العذر عنهم، وكان صَلى الله عليه وسلم يكتفي بإسماع العرب المشركين في الموسم حين يجتمعون في نواح شتى: أنه لا إله إلا الله وأنه محمد رسول الله صَلى الله عليه وسلم.
وكان صَلى الله عليه وسلم يمر فيهم مرورا، ثم لما جاءه الإذن بقتالهم كان يحارب كل من استطاع حربه من أولئك الذين بلَّغهم من غير تجديد الدعوة لهم، إلا من بدت له مصلحة في مصالحتهم لمدة، وأحيانا يجدد لهم البلاغ المبين بأصل الدعوة. ولذلك استحب أهل العلم التجديد بلا إيجاب أمام القتال لمن بلغته الدعوة وتأهل للخطاب. فقد روى الشيخان قتال النبي صَلى الله عليه وسلم لبني المصطلق وهم غارون ، أي لا علم لهم، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ونساءهم. فلو كان يشترط لجواز مقاتلة الكفار أن يعطوا مهلة للتفكير في تفاصيل الإسلام بعد بلوغهم أصله وحقيقته عبر البلاغ المبين، لكان الرسول أولى، بل اكتفى ببلوغهم أصل الدعوة.
والبلاغ المبين من مقتضياته نقل الإسلام وشعب الإيمان على الترتيب والمراتب. فأركان الإيمان والإسلام مقدمة على غيرها، وما يبني العلاقة بالله مقدم على ما ينظم العلاقة بالنفس أو الخلق، والواجبات العينية التي يقوم بدونها ؟ ولكنه يأثم ويعصي بتركها، وهي مقدمة على الكفائية، وهذه مقدمة على السنن، وهذه على المباحات، وبالمقابل المحظورات على دركات، فالشرك مقدم تركه على غيره من المعاصي، وهكذا المعاصي مقدم تركها على المكروهات، وهذا الترتيب في مطلق الأحوال والأزمنة والأمكنة، يعد جزء من البلاغ المبين.
استعدادات المخاطبين المكلفين بها وأحوالهم وظروفهم.
وما دام الفرض هو إيصال الواجبات الشرعية إلى الناس، لا بد من الإحسان والانتخاب لوسائل التوصيل والتعرف على طباعهم في الجملة … كما أن التدرج في إيصال الواجبات المرتبة إلى الأذهان حال التفصيل جزء من البلاغ المبين.
أما مصادر البلاغ المبين فهي الكتاب والسنة الصحيحة والسيرة النبوية، وما صح عن سلف الأمة مما تعارف الثقات على أنه من المتواطئ مع الكتاب والسنة وسيرة نبي هذه الأمة، ما أسعفه الدليل من اجتهادات ربانيي هذه الأمة.
-يتلى الكتاب بلغته على من عرف لغته، وعلى من لم يعرف لغته، ويفسر معناه لمن لم يعرف لغته بلغته ليفهم عنه وتقوم به عليه الحجة وتتضح المحجة وتبرأ الذمة، وذلك أن لكلام الله بلفظه ومعناه وقعا على نفس السامع إذا أدرك أنه كلام باريه في الجملة، وإن لم يفهم مراميه فنفسه تتهيأ لسماعه مادام من الله جلت قدرته، حتى إذا ترجم بلغته دنا قلبه منه، إن قدر له أنه من أهله، أو أقامت ترجمته لما لا بد منه عليه الحجة.
ـ تقع مسؤولية البلاغ المبين على ذوي الاستطاعات من المسلمين عامة، وعلى أهل العلم والقرآن والسلطان خاصة. وشرط الاستطاعة العلم لما يدعو إليه من الواجبات وينهى عنه من المحرمات التي تقوم الحجة بها على الغير بإحدى وسائلها الموصلة، والتي تتنوع بتنوع أحوال المدعو كما سبق. ووسائل البلاغ المبين متنوعة وكثيرة، جماعها الثلاث المذكورة في القرآن: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. ووسائل أدائها وسائل كل عصر وما يكشفه كل عصر مما يباح من القول والكتابة والصحافة والإذاعة والتلفاز والمرح ونحوها، والتي جماعها: أقوال حسنة، وأحوال حسنة، وأفعال حسنة.
ـ أما معوقات البلاغ المبين فكثيرة منها:
سوء مسالك أهل الإسلام في الجملة في تبليغ أمر هذا الدين، فواقع المسلمين غير الإسلام، وسوء مسالك الحكام في الجملة عن مسار العدل.
وسوء مسالك العلماء في الجملة عن مسار التقوى.
ـ والوسائل التي ليست على وفاق مع آداب الدعوة التي تحفل بها أنشطة الدعاة والتي تحسن النفور منهم … جهل الدعاة في الجملة.
ـ تقوم الحجة على الفرد في الفريضة بوصول علمها إليه، وتأهله للخطاب، وإمكان قيامه بها، ومثله الجماعة (كلمة في صفحة: 4 من الأصل غير واضحة؟).
والمسلمون اليوم لم تقم عليهم الحجة في كل شعب الإيمان الواجبة، فالتفاوت حاصل في قيام الحجة من فرد لآخر، ومن قرية لأخرى، ومن وسيلة لأخرى لاسيما الجهة التي تنظم توصيل شعب الإيمان الواجبة إلى الناس الأهم فالمهم، واستقصاء وصولها إلى جملة الناس في المحلة والقرية والبيت ونحوها. فقد داخل أحوال الناس الداعون الفوضى التي يقدم فيها المهم على الأهم والسنة على الواجب، والمباح على غيره، حتى جهل الناس مراتب واجبات الإسلام. فالتعليم في المسلمين مبناه على الفوضى والإعلام ونحوهما مما أورث الناس الفوضى في كثير من الواجبات.
|
|