(02) طل الربوة - أسباب صلاح القلوب:
ومن أهم ما يصلح القلوب، ذكر الله الذي ينطق به اللسان مع حضور القلب وخشوعه ولينه ولين الأجسام. قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (23)}. [الزمر] وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}.[الرعد]
فالقلوب المطمئنة بذكر الله هي التي يوفق الله أصحابها للإيمان والعمل الصالح، ويسدد جميع جوارحهم لطاعته والبعد عن معاصيه، لينالون فضل الله وثوابه الجزيل الذي عبر عنه تعالى بقوله: { طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.
و"طوبى" فسَّرها ابن عباس رضي الله عنهما، بـ"فرح وقرة عين" وفسرت بـ "الخير" وفسرت بـ"الجنة" وهو تفسير تنوع وليس تفسير تضاد؛ لأن الفرح وقرة العين والخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا لأهل الجنة.
{وَحُسْنُ مَآبٍ} أي خير مرجع عند الله تعالى، وهو رضاه تعالى عنهم وجزاؤه لهم يوم الحساب.
والاطمئنان هو السكون، أي تسكن وتنشرح قلوبهم لذكر الله، فلا يعتريها قلق ولا اضطراب، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "تطيب وتركن إلى جانب الله, وتسكن عند ذكره, وترضى به مولى ونصيراً".
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه "الأذكار": "فصل: المرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيح المختار استحباب مدَّ الذاكر قول: لا إله إلا اللّه، لما فيه من التدبر، وأقوالُ السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة".
المحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل:
ومما يصلح القلوب: المحافظة على الفرائض وأداؤها بالصفة التي شرعها الله تعالى، والإكثار من النوافل التي ينال بها المؤمن ولاية الله تعالى وحبه وتوفيقه وإصلاحه لجوارحه كلها، التي لا صلاح لها إلا بصلاح قلبه، كما في حديث أبي هريرة القدسي الذي رواه عنه رسوله الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه.. ). [متفق عليه]
ومعلوم أن الإنسان مسؤول عن كل عمل تعمله جوارحه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(36)}. [الإسراء]
ويبين ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه). [متفق عليه]
فإذا أدَّى المسلم الفرائض التي هي أحب ما تقرب به العبد إليه، وداوم على النوافل التي تكسبه حب ربه، جعل تعالى أعضاءه كلها موفقة مصونة من المعاصي، ووقاه الآثار المترتبة عليها.
والنوافل تشمل نوافل الطاعات كلها، من صلاة راتبة أو غيرها، ومن أهم النوافل التي يصلح الله بها قلوب عباده قيام الليل الذي جعله تعالى يخلف النهار لمن وفقه لقصد تذكره وشكره: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62)}. [الفرقان]
وأمره تعالى بالتهجد في الليل، والتهجد هو قيام الليل بعد نوم ـ وهو من أفضل الأوقات التي تحضر فيها قلوب عباد الله الصالحين لتَشَرب ذكره {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)} [المزمل] ووعده بالمقام المحمود يوم البعث، فقال تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}. [الإسراء 79]
ولحرصه صلى الله عليه وسلم، على حصول الخير لأمته المؤمنة، حثَّهم على الدعاء له بأن يؤتيه الله هذا المقام المحمود، ليرفع درجاتهم المناسبة لهم بشفاعته لهم، كما رفع درجته المناسبة له.
ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً
محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة). [البخاري]
وبقيامه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ليستعين به على تنفيذ أمره له بإبلاغ وحيه الثقيلة تكاليفه التي يحتاج مبلغه والعامل به إلى الركون إلى ربه والاستعانة به بالإكثار من عبادته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)}. [المزمل]
وقوله تعالى {أَشَدُّ وَطْئاً} قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة, ولهذا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش".
وثقل التكاليف، وبخاصة القيام بالدعوة والبلاغ المبين، يحتاج معها إلى الصبر والسند المعين عليه، ومما يعين على ذلك قيام الليل، ولهذا أمره تعالى بعد أمره بقيام الليل بالصبر على ما يعانيه من صدِّ قومه وأذاهم له، فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)}. [المزمل]
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، كما روت ذلك عائشة رضي الله عنهـا: "أن صلى الله عليه وسلم نبي الله صلى الله عليه وسلم، كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً). "فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع، قام فقرأ ثم ركع".[البخاري ومسلم، واللفظ له]
وكان صلى الله عليه وسلم، يطرق أقاربه ليلاً ويحثَّهم على قيام الليل، وإن لم يوجبه عليهم، كما روى الزهري قال: "أخبرني علي بن الحسين: أن الحسين بن علي أخبره: أن علي بن أبي طالب أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، طرقه وفاطمة بنت النبي عليها السلام ليلة، فقال: (ألا تصليان؟). فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه، وهو يقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}. [رواه البخاري، ومسلم، والآية من سورة الكهف: 54.]
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال ابن بطال: فيه فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النائمين من الأهل
والقرابة لذلك، ووقع في رواية حكيم بن حكيم المذكورة: "ودخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هوياً من الليل، فلم يسمع لنا حساً فرجع إلينا فأيقظنا..". الحديث، قال الطبري: لولا ما علم النبي ‘ من عظم فضل الصلاة في الليل، ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنه أختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون، امتثالاً لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ..}. الآية". [الفتح]
وقال النووي رحمه الله: "وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى صَلاة اللَّيْل, وَأَمْر الإِنْسَان صَاحِبه بِهَا, وَتَعَهُّد الإِمَام وَالْكَبِير رَعِيَّته بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِح دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ" [شرح النووي على مسلم].
وحثَّ صلى الله عليه وسلم، أمته عموماً على قيام الليل، وبيَّن فضائله وفوائده، كما روى ذلك عنه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: (عليكم بقيام الليل فإنه قربة إلى ربكم، ودأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات ومطردة لداعي الحسد).[أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وقال الترمذي فيه: "وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال".]
وقد أثنى الله تعالى على أهل الكتاب الذين استقاموا على طاعته، فأكثروا من تلاوة آياته في قيامهم الليل، فحققوا بذلك قوة إيمانهم ومسارعتهم في فعل الخيرات التي ترضي ربهم، وفي سعيهم لإصلاح غيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستحقوا أن يكونوا في ركب عباده الصالحين. كما قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)}.[آل عمران]
كما أثنى تعالى على عباده المؤمنين، الذين يدأبون على تقربهم إليه بقيام الليل ساجدين قائمين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64)}.[الفرقان]
ومدحهم بتركهم النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة الناعمة، إيثاراً لقيام الليل الذي ينيلهم عليه ما لا يعلمه أحد من عباده في الدنيا من الثواب العظيم، فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17)}.[السجدة] وقال تعالى في صفات عباده المتقين المحسنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}. [الذاريات]
وأقول: إن الحرص على قيام الليل وإيثاره على النوم الذي تثقل الأجسام فيه، لا يُوَفَّق له إلا من ذاق حلاوة مناجاة ربه فيه، واستحضر عظمته، وجاهد نفسه بخشوع قلبه وجوارحه له تعالى، وتدبر آيات الله التي يتلوها فيه، فأثَّرت فيه وزادته إيماناً وتزكيةً وحكمة، وانهمرت دموعه على وجنتيه، واشتد شوقه إلى لقاء ربه لينال رضاه وثوابه في فردوسه الأعلى التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
أما البَطَلة الذين يبيت الشيطان يلتقم قلوبهم، ويبول في آذانهم، ويَعقد عُقَده الآسِرةَ على أقفائِهم، فليس لهم من اجتياله وَزَر، وما لهم في هذا الميدان من حظ ولا وطر، بل هم يبيتون في لهوهم ولعبهم سادرين، وعن ربهم وهداه غافلين، بيوتهم في الليل أسواق صاخبة، وفي النهار مقابر هامدة، ليس لهم من الملائكة أنيس، ولا من صالحي المؤمنين جليس؛ لأنهم آثروا في الصحبة قرناءهم من جنود إبليس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان). [متفق عليه]
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، رجل، فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة"، فقال: (بال الشيطان في أذنه). [البخاري]
وسواء كان ذلك حقيقةً أو مؤولاً؛ فالمراد أن الشيطان استولى عليه استيلاء جعله يتلذذ بنومه، وبات يثبطه عن الاستيقاظ لذكر الله وقيام الليل، كما سبق قريباً في حديث أبي هريرة من أمره له بالرقاد، وإغرائه بذلك، وتسويفه بطول الليل.
وهنا ينبغي أن يقارن المؤمن الصادق الذي يحب الله ورسوله، ويرغب رغبة صادقة، في أن يحبه الله ورسوله، بين فضل قيامه بطاعات الله من الفرائض والنوافل، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ابن عمه وبنته، من إيقاظهما وحثهما على قيام الليل، وما نفعله نحن اليوم من السهر طول الليل على اللهو والخنا، بدلا من القيام بما يحب الله ورسوله من أعمال الطاعات، وكيف يتعاون الأقرباء اليوم على ضياع أوقاتهم فيما يعود عليهم من سهر الليالي من إجابة الشيطان في البعد عن الله، بدلا من التعاون على التقرب إليه تعالا.
|
|