{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) } [النساء]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(02)تزكية القلوب والأبدان

(02)تزكية القلوب والأبدان
القواعد التي ينطلق منها المسلم لتزكية نفسه وقلبه؟

اعلم أولا: أن أساس مصادر التزكية كلها، هو الإيمان بالغيب بأركانه الستة المذكورة في حديث جبريل، وفروعه المفصلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان الصادق الذي أشارت إليه آية الحجرات، وآيات كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، الإيمان الذي يؤهل صاحبه للانطلاق منه إلى قواعد التزكية التي شرعها الله تعالى له، وليس الإيمان الذي يدعيه صاحبه بلسانه، من أجل مصالح مادية يجلبها لنفسه به، وهو في باطنه أشد كفرا من الكفار الظاهرين، كما حصل من المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يزال يحصل إلى اليوم، وهو الذي بينه الله تعالى بيانا لا لبس فيه، كما في قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون]

وليس هو الإيمان الضعيف الذي لا يخلو صاحبه من شعبة أوشعب من النفاق، العملي، من الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والغدر في العهد، والفجور في الخصومة، وهو ما يسميه العلماء بالنفاق العملي، لأن هذه الخلال ناشئة من قلب مريض، قد ينحرف صاحبها إلى نفاق اعتقادي إذا أصر عليها ودام.

وقد فصلت آيات القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاتهم، فليس الإيمان هو إيمانهم المدَّعَى الذي يخلو مما أراده الله في كتابه، ولقد أرشد الله بعض المسلمين الضعيفي الإيمان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ادعوا الإيمان قبل أن يتمكن في قلوبهم تمكنا يستحقون به صفة الإيمان الحق، أن يقولوا: "أسلمنا" ولا يقولوا: آمنا، لأن الإسلام في هذه الحالة هو إظهار الاستسلام الذي لا يخفى على الناس، مثل: قول لا إله الله، وفعل بعض الشعائر التعبدية، ولا تظهر للناس حقيقته، لأنه في القلب لا يعلمه إلا الله، وبين لهم حقيقة الإيمان وعلامته، وهو أولا اليقين الراسخ في القلب، الذي لا يعتريه شك ولا ريب، ثم بذل الأنفس والأموال وكل ما يملكه المؤمن في حياته، في سبيل الله.

فقال تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات]

أصحاب هذا الإيمان الراسخ، هم الذين يجاهدون في الله حق جهاده، لتزكية قلوبهم وأنفسهم بطاعة الله ورسوله، وهم الذين يحققون هذه التزكية وهذا التطهير، وضعفاء الإيمان إذا عزموا عزما صادقا، وسألوا الله تعالى، أن يوفقهم ويعينهم على تزكية أنفسهم، فإن الله عز وجل يوفقهم، إذا علم منهم الصدق والعزم المصمم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال]

فما هي القواعد التي ينطلق منها المؤمن لتزكية نفسه وقلبه؟

اعلم أولا: أن أساس مصادر التزكية كلها، هو الإيمان بالغيب بأركانه الستة المذكورة في حديث جبريل، وفروعه المفصلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان الصادق الذي أشارت إليه آية الحجرات، وآيات كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، الإيمان الذي يؤهل صاحبه للانطلاق منه إلى قواعد التزكية التي شرعها الله تعالى له، وليس الإيمان الذي يدعيه صاحبه بلسانه، من أجل مصالح مادية يجلبها لنفسه به، وهو في باطنه أشد كفرا من الكفار الظاهرين، كما حصل من المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يزال يحصل إلى اليوم، وهو الذي بينه الله تعالى بيانا لا لبس فيه، كما في قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون]

وليس هو الإيمان الضعيف الذي لا يخلو صاحبه من شعبة أوشعب من النفاق، العملي، من الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والغدر في العهد، والفجور في الخصومة، وهو ما يسميه العلماء بالنفاق العملي، لأن هذه الخلال ناشئة من قلب مريض، قد ينحرف صاحبها إلى نفاق اعتقادي إذا أصر عليها ودام.

وقد فصلت آيات القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاتهم، فليس الإيمان هو إيمانهم المدَّعَى الذي يخلو مما أراده الله في كتابه، ولقد أرشد الله بعض المسلمين الضعيفي الإيمان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ادعوا الإيمان قبل أن يتمكن في قلوبهم تمكنا يستحقون به صفة الإيمان الحق، أن يقولوا: "أسلمنا" ولا يقولوا: آمنا، لأن الإسلام في هذه الحالة هو إظهار الاستسلام الذي لا يخفى على الناس، مثل: قول لا إله الله، وفعل بعض الشعائر التعبدية، ولا تظهر للناس حقيقته، لأنه في القلب لا يعلمه إلا الله، وبين لهم حقيقة الإيمان وعلامته، وهو أولا اليقين الراسخ في القلب، الذي لا يعتريه شك ولا ريب، ثم بذل الأنفس والأموال وكل ما يملكه المؤمن في حياته، في سبيل الله.

فقال تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات]

أصحاب هذا الإيمان الراسخ القوي، هم الذين يجاهدون في الله حق جهاده، لتزكية قلوبهم وأنفسهم بطاعة الله ورسوله، وهم الذين يحققون هذه التزكية وهذا التطهير، وضعفاء الإيمان إذا عزموا عزما صادقا، وسألوا الله تعالى، أن يوفقهم ويعينهم على تزكية أنفسهم، فإن الله عز وجل يوفقهم، إذا علم منهم الصدق والعزم المصمم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال]

القاعدة الأولى: الإرادة القوية الصادقة للتزكية:

إذا تبينت أهمية التزكية الربانية، ووُجِد المزكي الرباني، فعلى من يريد تزكية نفسه، أن يكون عنده إرادة جازمة لسلوكه طريق التزكية، وأن يجاهد نفسه لسلوك تلك الطريق، لأن عدوه الشيطان، لا يفتأ يوسوس له، بصعوبة السلوك، ويغريه بسلوك طرقه التي دأب على إغواء بني آدم عن صراط الله المستقيم المؤدي إليها، وتزيينه لسلوك طرقه المضلة عنها، وقد جاهر بذلك ربه، فأقسم على ذلك التزيين وتلك الغواية لكل من قدر على إغوائه والتزيين له، من بني آدم، واستثنى من ذلك من قوي إيمانه بربه، وصفا إخلاصه في قلبه، من شوائب الشرك كبيره وصغيره.

كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (40 قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ (42) } [الحجر] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فعباد الله الموحدون المخلصون، الذين استثناهم الشيطان، أكد الله تعالى له سد طريقه للوصول إليهم، وهم الذين استحقوا الإضافة إليه تعالى "عبادي" هم أهل الإرادة القوية لسلوك طريق التزكية الربانية، الذين يستعصون على وسوسة الشيطان وتزيينه وإغوائه، لأن قلوبهم قد فتحت للإيمان بالله والإخلاص له، وأغلقت على عدوهم اللعين ووسوسته وإغوائه.

قال سيد قطب رحمه الله، وهو يعيش في ظلال هذه الآيات: {هذا صراط علي مستقيم . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . إلا من اتبعك من الغاوين}: هذا صراط . هذا ناموس . هذه سنة . وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال . (إن عبادي) المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله،ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله ".انتهى.

فهذان الفريقان: فريق المزكين لأنفسهم بالإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، الذين نجاهم الله من تزيين الشيطان وإغوائه إنما كانوا كذلك– بعد هداية الله – بسبب إرادتهم تلك التزكية الربانية التي دعاهم إليها ربهم في كتابه، ورسولهم في سنته، بخلاف فريق الغارقين في بحار رجس الشيطان وحمآته بالشرك بالله أكبره وأصغره، وسبل إغواءاته لهم بالمعاصي والآثام، حتى غطى الرانُ قلوبهم، فلم تبصر من نور الله شيئا، إنما كانوا كذلك – بعد إضلال الله لهم - بسبب إرادتهم تلك الغواية وتلك التدسية.

ولهذا قال تعالى عن إرادة كل من الفريقين: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)} [الإسراء]

في هذه الآيات الثلاث، بين تعالى أن الناس قسمان:

قسم كافر بالله خاسر، قصر إرادته على متع الحياة وزينتها وجعلها هدفه الوحيد، ولم يكن له أي إرادة في إعداده لنفسه، لعمل ما ينفعه في الدار الآخرة، ولم يلتفت إلى رضا ربه تعالى، وأخبر تعالى أنه يعطيه من هذه الدنيا ما يشاء لمن أراد منهم، لا ما يشاؤون مطلقا، ولكن الله توعده في الآخرة التي لم يكن له نصيب في إرادته، بإحراقه في نار جهنم وذمه وطرده من رحمته يوم القيامة.

وقسم مؤمن بربه إيمانا صادقا، جعل همه وقصده رضا ربه عنه عند لقائه، يوم القيامة، فشمر عن ساعد الجد، وسعى في حياته في الدنيا، سعيا حثيثا، ليصل إلى ذلك الهدف العظيم، فقبل الله تعالى سعيه، ووفاه ثوابه.

ثم أوضح تعالى في الآية الثالثة، أن رزقه للناس في الدنيا، مقسوم لكل خلقه، مؤمنهم وكافرهم، سواء لا فرق بين من قصر إرادته على الدنيا الفانية، ومن جعل هدفه الفوز برضاه في دار كرامته، فكل منهما يمده الله بما يشاء فيها، لكن مريد الدنيا فقط، خسر وفاته النعيم المقيم، واستحق العذاب الأليم في نار الجحيم، ومريد الآخرة نال حظه من الدنيا، وفاز برضاه ودار نعيمه في الآخرة.

فالذين يريدون العاجلة فقط، هم أبعد الناس عن كل أنواع التزكية، والذين يريدون الآخرة بإخلاص، ولو سعوا في جلب سعادتهم في الدنيا بالدعاء والعمل، والتسبب في كسب أرزاقهم وجمعوا في خزائنهم مما أحل الله لهم منها ما جمعوا مع قيامهم بأداء حق الله فيه، فهم أهل للتزكية الربانية، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)] [البقرة]

هاتان الآياتان، جاءتا في سياق أداء مناسك الحج، التي هي من أعظم ما يطلب المرء في عملها تزكية نفسه، كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقولُ: (منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ) [البخاري ومسلم].

فقد جعل الله تعالى الذين يؤدون تلك المناسك، في تلك المشاعر قسمين:

القسم الأول: حرموا أنفسهم من التزكية في الدنيا، فحرمهم الله مما يترتب عليها من النصيب العظيم في الآخرة، لأنهم لم يقصدوا بعملهم ودعائهم تزكية نفوسهم، ولم يقصدوا بها إلا حظوظ الدنيا.

والقسم الثاني: قصدوا بعملهم ودعائهم – في الأصل – تزكية أنفسهم وسعادة الآخرة برضا الله عنهم، فمنحهم الله تعالى نصيبهم مما عملوا في دنياهم وآخرتهم.

وأنقل – هنا – نصا من تفسير السيد محمد رشيد رضا "المنار" مع قليل من الاختصار، يبين المقصود من هاتين الآيتين:

قال رحمه الله: "ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ فَيَدْعُونَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ : ï´؟فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍï´¾ الْخَلَاقُ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ .

ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ يَطْلُبُ حَظَّ الدُّنْيَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ يَطْلُبُ حَسَنَةً فِيهَا، لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلَّ هَمِّهِ لَا يُبَالِي أَكَانَتْ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ حَسَنَةً أَمْ سَيِّئَةً، فَهُوَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَيَسْلُكُ إِلَيْهَا كُلَّ طَرِيقٍ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَافِعٍ لِغَيْرِهِ وَلَا ضَارٍّ، فَبِاسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخِرَةِ وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الرِّضْوَانِ مَوْضِعٌ مِنْ نَفْسِهِ يَرْجُوهُ وَيَدْعُو اللهَ فِيهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخَافُ مَا تَوَعَّدَ اللهُ بِهِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا فَيَلْجَأُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقِيَهُ شَرَّهُ.

فَحِرْمَانُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنْ خَلَاقِ الْآخِرَةِ هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَتَفْضِيلِهِ حُظُوظَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ عَلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْأُولَى كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَسْأَلُ رَبَّهُ إِلَّا الْمَزِيدَ مِنْ حُظُوظِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَقَدْ يَنَالُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِدُونِ هَمٍّ كَبِيرٍ فِي الْعَمَلِ لَهَا، وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ وَقَدِ اشْتُرِطَ لِسَعَادَتِهَا خَيْرَ الْعَمَلِ، فَقَالَ تَعَالَى: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًاï´¾ [17 : 18 ، 19] الْآيَاتُ- إلى أن قال:-

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ

فَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا.

وَقِيلَ : هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَمْ تَمَسَّ أَسْرَارُ الدِّينِ وَحِكَمُهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ تُشْرِقْ أَنْوَارُ هِدَايَتِهِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ فِي رُسُومِهِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ هَمُّهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَذَكَرُوا هُنَا مَا رُوِيَ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ رَأْيِهِمْ بِالسِّيَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْلِمِينَ كَمَا وُجِدَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَمَنْ بَلَا النَّاسَ وَفَلَّاهُمْ عَرَفَ ذَلِكَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أَيْ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، لَا حُظُوظَ الدُّنْيَا وَحْدَهَا كَيْفَمَا كَانَتْ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ.." انتهى

ومما يدل من السنة على إرادة الراغب تزكية نفسه، حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: سمعْتُ رسُولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ (إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى، فمنْ كانَتْ هجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُولِهِ فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ، ومنْ كاَنْت هجْرَتُه لدُنْيَا يُصيبُها، أَو امرَأَةٍ يَنْكحُها فهْجْرَتُهُ إلى ما هَاجَر إليْهِ ) [متَّفَقٌ عليه.]





السابق

الفهرس

التالي


14239691

عداد الصفحات العام

1200

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م