(0110)الجهاد في سبيل الله-مدة الهدنة
مدة مهادنة الرسول لقريش
اختلف العلماء في المدة المهادنة التي عقد الرسول صَلى الله عليه وسلم عليها المهادنة عام الحديبية، بينه وبين أهل مكة من المشركين: فنقل عن ابن جريج، أنها ثلاث سنين. ونقل عن عروة، أنها أربع سنين. ونقل عن ابن إسحاق أنها عشر سنين. وعلى هذا جمهور أهل العلم. [يراجع تفسير القرطبي (8/39) وما بعدها، وبداية المجتهد لابن رشد (1/283)]
واختلف العلماء في المدة التي يجوز للمسلمين، مهادنة أعدائهم عليها، ولهم في ذلك أربعة أقوال:
القول الأول: للإمام الشافعي رحمه الله،وهو ألّا تزيد عن أربعة أشهر، إذا كان المسلمون أقوياء قادرين على قتال عدوهم، واستدل بقوله تعالى في سورة التوبة: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} [التوبة (2)] وله قول آخر، وهو أن للإمام أن يزيد المدة على أربعة أشهر إذا دعت إليها الحاجة واقتضتها المصلحة، بشرط أن تكون أقل من سنة، ولا تجوز لسنة فما فوق، لأنه يجب إقامة الجهاد وأخذ أخذ الجزية كل سنة، والهدنة تعطل ذلك، مع قدرة المسلمين وقوتهم. أما إذا كان المسلمون ضعفاء، فيجوز لهم عقد الهدنة أكثر من ذلك، بحسب الحاجة، فإذا كانوا يحتاجون إلى خمس سنوات، وجب عقد الهدنة عليها، ولا تجوز الزيادة عليها، ولا تجوز الزيادة على عشر سنين. واحتج لذلك بمهادنة الرسول صَلى الله عليه وسلم المشركين عام الحديبية، فإذا انقضت المدة، وتبين لهم الحاجة إلى استمرار الهدنة، جاز استئنافها. [المهذب (2/259) وراجع كتاب البيان، للعلامة العمراني اليمني (12/302)]
القول الثاني: مذهب جمهور العلماء، وهو أنه يجوز للمسلمين، سواء كانوا أقوياء أو ضعفاء، عقد الهدنة لعشر سنين، فأقل، إذا رأوا المصلحة في ذلك، ولا يجوز لأكثر من عشر سنين. واستدلوا بفعل الرسول صَلى الله عليه وسلم، في قصة الحديبية، فإن زادت المدة على العشر بطل العقد فيما زاد عليها، وإذا انقضت المدة وظهر للمسلمين أن المصلحة في تجديدها، جاز استئنافها من جديد. ولا يجوز عندهم عقد الهدنة مطلقا أي بدون تحديد زمن معين، لأن إطلاقه يقتضى التأبيد، وهو يعود على أصل الجهاد والجزية بالنقض والإبطال، وهو ما لا يجوز في شرع الله. [نفس المصدر، وراجع كشاف القناع (3/111) للشيخ منصور بن يونس البهوتي]
وقال ابن الهمام الحنفي: "ولا يقتصر الحكم وهو جواز الموادعة على المدة المذكورة وهى عشر سنين لتعدى المعنى الذى به علل جوازها وهو حاجة المسلمين، أو ثبوت مصلحتهم فإنه قد يكون بأكثر..." [شرح فتح القدير (5/456)]
القول الثالث: جواز عقد الهدنة لمدة محددة، قلّت أو كثرت ولو زادت عن عشر سنين، ويجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها إلا إذا خاف المسلمون من نقض العدو بظهور أمارات تدل على إرادة النقض. و يجوز أن تكون مطلقة، ما دام في ذلك مصلحة راجحة، وعقد الهدنة المؤقتة جائز، وليس بلازم، بحيث إذا تبين للمسلمين أن المصلحة تقتضي قطع الهدنة، فللمسلمين نقضها بشرط أن ينبذوا إلى عدوهم عهده على سواء، وهو أن يبينوا لهم بيانا واضحا أنهم يريدون نقض العقد المبرم بينهم، فلا يأخذوا العدو على غرة.
ونصر هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: "بَابُ الْهُدْنَةِ، وَيَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقًا وَمُؤَقَّتًا، وَالْمُؤَقَّتُ لازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يَنْقُضْهُ الْعَدُوُّ، وَلا يُنْقَضُ بِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْخِيَانَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ, وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ يَعْمَلُ الإمَامُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ". [الفتاوى الكبرى (4/612)]
وفصل -ابن تيمية-القول في موضع آخر، بذكر الأدلة على رأيه، وأرى أن أثبت منه النص المناسب مع طوله، لأنه – فيما أرى – يناسب هذا العصر الذي يحتاج فيه المسلمون إلى فقه يبين لهم السبيل، ويزيل عنهم الشبهات والتضليل، فقال رحمه الله:" وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً، فَقَوْلُهُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَد - يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلى الله عليه وسلم فِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُوَقَّتًا فَلَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة (4)] وَقَالَ: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة (7)] وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال (58)] فَإِنَّمَا أَبَاحَ النَّبْذَ عِنْدَ ظُهُورِ إمَارَاتِ الْخِيَانَةِ; لأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف (2،3)] الْآيَةَ
والأحاديث فى هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر، قالَ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، و من كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، و إذا و عد أخلف، و إذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر). البخاري، برقم (34) ومسلم، برقم (58) و فى الصحيحين عن عبدالله بن عمر، قال قالَ رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة) [البخاري، برقم (6694) ومسلم، برقم (1735) و فى صحيح مسلم عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم، قال: (لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة) و فى رواية: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته، ألا و لا غادر أعظم غدرة من أمير عامة) [برقم رقم: (1738)] و فى صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب، قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم، إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، و فيمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله فى سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا و لا تغلوا، و لا تغدروا، و لا تمثلوا، و لا تقتلوا و ليدا، و إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم و كف عنهم) الحديث. [مسلم، برقم (1731) فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.
و في الصحيحين عن ابن عباس، عن أبى سفيان بن حرب، لما سأله هرقل عن صفة النبى صلى الله عليه و سلم: "هل يغدر؟ فقال: لا يغدر و نحن معه فى مدة لا ندري ما هو صانع فيها، قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. و قال هرقل فى جوابه: سألتك هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، و كذلك الرسل لا تغدر" فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين. [حديث أبي سفيان في البخاري، برقم (7) وهو حديث طويل].
و فى الصحيحين عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، و أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها. [الحديث في البخاري، برقم (2572) ومسلم، برقم (1418)] و روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه و سلم، قالَ قال الله تعالى: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، و رجل باع حرا ثم أكل ثمنه، و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يعطه أجره). فذم الغادر. و كل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر. [الحديث في صحيح البخاري، برقم (2114)]
|
|