يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) - (آل عمران)
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(0113)الجهاد في سبيل الله-المبحث الثامن: موقف القوة وموقف التضليل.

(0113)الجهاد في سبيل الله-المبحث الثامن: موقف القوة وموقف التضليل.


تتلخص مواقف أعداء الله في هذين الموقفين:



الموقف الأول: موقف القوة..



الموقف الثاني: موقف التضليل.



موقف القوة


لما كان الدعاة إلى الله يحملون الحق وغالب طغاة العروش يحملون الباطل.. ولما كان الدعاة إلى الله يملكون الحجة والبرهان، والطغاة لا يملكون من في ردهما من الججة شيئا، اضطروا للتمسك بباطلهم ورد الحق، إلى استعمال القوة عوضاً عن الحجة.



فإذا صدع الداعي إلى الله بالحق وأقام عليه الحجة، لجأ أعداء الله المحاربون للإسلام والدعاة إليه، إلى وسائل قوتهم التي يرهبونهم بها، ويحولون بها بينهم وبين بيان الحق والدعوة إليه، وأهم هذه الوسائل الجيش بكل فئاته، البرية والبحرية والجوية والاستخبارات التي يقصد بها -في الأصل-الدفاع عن الأمة برد عدون المعتدين الأجانب على بلدانهم، والشرطة التي الأصل في مهمتها أمن الأمة الداخلي، من اعتداء بعضهم على بعض، بحماية نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وكلهم -فئات الجيش-مدججون بكل أنواعه الثقيل والمتوسط والخفيف، كله يوجه لقمع الدعاة إلى الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الذين يملكون الحجة ولا يملكون القوة المادية، فيفتحون لهم السجون والمعتقلات، ويسومونهم هم وكلابهم فيها سوء العذاب، إلى درجة قتلهم بالتعذيب.



الثاني: الإعلام المعد للتزوير وإلصاق التهم في أهل الحق بحيث يظهرونهم أهل باطل والمهتدين عليهم أهل حق، من مذيعين وصحفيين في الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، والإعلام الجديد الإنترنت ومواقعه ووسائل الاتصال الاجتماعي فيه، لأن هؤلاء تعلموا ونشئوا ودربوا على الكذب المزخرف والسخرية والاستهزاء بالضحايا.



الثالث: القضاء الظالم الذي ينصبه المحاربون للإسلام على أساس تنفيذ ما يهوون تنفيذه في القضاء، بما يغرون به القضاة من المال والمنصب والجاه، وعلى رأسهم النائب العام وأعوانه، الذين يتقدمون بالدعاوى الكاذبة المزورة على صاحب الحق، فيقلبون بدعواهم الحق باطلا والباطل حقا، ويستجيب القضاة لذلك، فيحكمون على الضعفاء بالأحكام الظالمة، التي قد تصل إلى السجن المعبد الذي يحرم الداعي إلى الله من تنفس الهواء في الأرض طول حياته، وقد تصل إلى القتل الذي يحرمه من الحياة أصلا.



وقد يهددون الدعاة بالنفي لإخراج من بلادههم ويحرمونهم من أهلهم وأسرهم بينهم وبين من يحبون ويسلبونهم كل ما ما يملكون، وهذه كلها -التعذيب والسجن والقتل، وغيرها كالرجم-قد سبقت في العصور الخالية من المحاربين لدين الله على الدعاة إليه، فهؤلاء قوم نوح يهددونه بالرجم إن لم يكف عن دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116].


وأولئك قوم إبراهيم يأتمرون بحرقه بالنار، بعد أن جادلهم وأقام عليهم الحجة الباهرة..كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68].



وقوم لوط ائتمروا بإخراجه ومن اتبعه من قريتهم.. كما قال تعالى عنهم: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82].



وكذلك قوم شعيب كما قال تعالى عنهم: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88].



وفرعون هدد موسى بالسجن، إن عبد إلهاً غيره كما قال تعالى عنه: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وكان هذا التهديد بعد إقامة أقوى الحجج والبراهين الدامغة على فرعون كما في الآيات التي قبل هذه الآية.



وآخر من جمع بين التهديد بالقتل والسجن والنفي لرسول من الرسل، هم كفار قريش الذين قال الله عنهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].



وهذا هو دأب أعداء الله في كل زمان، إذا قام فيهم من يدعو إلى الله مقيماً الحجة والدليل على دعوته، لجأ الطغاة إلى القوة من سجن وتعذيب ونفي وقتل وصلب وغير ذلك. ولعل القارئ يجول بفكره في كل عصور التاريخ ولا سيما هذا العصر ليرى هذا المعنى ماثلاً أمامه.، والقرآن الكريم مليء بذكر فتن أعداء الدين لمن يدعو إليه، وفي قصص الأنبياء وأممهم ما يبين ذلك ويوضحه.


موقف: التضليل


الموقف الثاني من مواقف الطواغيت ضد الدعاة إلى الله ودعوتهم، هو موقف التضليل والخداع لعامة الناس، ويسلكون لذلك سبيلين:



السبيل الأولى: إظهار أنهم هم الناصحون لشعوبهم، والدعاة إلى الله لا يريدون لتلك الشعوب إلا تنغيص حياتهم وإنزال الضرر بهم.



إنهم يظهرون أنهم ناصحون لشعوبهم التي تسلطوا عليها، والثناء على الأوضاع القائمة، والدعوة إلى المحافظة عليها وصيانتها، والإشفاق عليهم من ضياعها والاعتداء عليها، إذا نجحت الدعوة الجديدة - دعوة الرسل وأتباعهم - ويوهمون الناس أنهم حريصون على مصالحهم التي لا بقاء لها مع الإسلام.



ألا ترى كيف قلب فرعون الحقائق، فوصف ضلاله وغيه بالرشاد، ووصف هدى الله الذي جاء به موسى بالغي والفساد، وأظهر نفسه بمظهر الناصح لقومه..كما قال تعالى عنه: {…قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. وقال تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].



تأمل كيف يوغل في التضليل عندما يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} إنه يوحي للناس بأنه لم يَكُف عن قتل موسى، إلا ريثما يستشير قومه، حتى لا يستبد بالأمر دونهم وهو قدوة كل المستبدين بعده، كما يوهمهم بأن موسى يدعو إلهاً غير موجود، لأنه لو كان له إله غيره لعصمه من قتله ونصره عليه.



وفي موضع آخر يبث غوغاء الناس ليذيعوا له ما يستثير به عامة القوم، من أنه هو وقومه الأكثرون، وأن موسى وقومه الأقلون، ومع ذلك يأتي هؤلاء الأقلون بما يغيظون به الأكثرين، لذلك يوغر صدورهم بما يوجب الالتفاف ضد هولاء الأقلين والحذر منهم.. قال تعالى عنه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:53-56].



ويوضح في موضع آخر شيئاً مما يغيظهم به موسى وما يحذره هو وقومه..كما قال تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طـه:62-64].



إن فرعون وقومه لَيَحْكُون نفس التضليل الذي يقوم به أعداء الله في كل عصر، ولا سيما هذا العصر، إنه يقول كما يقول طغاة هذا الزمان: إن هذا الداعية أو هؤلاء الدعاة لا يريدون لهذا الشعب خيراً، وإنما يريدون تشريد أهله وإخراجهم من بيوتهم، ويريدون قلب نظام الحكم: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}. ويدعون عامة الناس إلى المظاهرة لتأييد الطغاة ضد الدعاة {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 63ـ64].



السبيل الثانية: بث الإشاعات الكاذبة.



عن طريق الإعلام المضلل كما سبق الذي أعد لتضليل عقول الجهلة من الناس، فيسلط على صاحب الحق تسليطا يصوره لهم على أنه مجرم يستحق كل ما حل به من قبل الظالمين الأقوياء، الذين يعدون المذيعين المدربين على التزوير والكذب والتهريج، ويعدون المتخصصين من علماء النفس والاجتماع والسياسة والإعلام، وحتى من علماء الشريعة الموالين الذين يبيعون شرع الله بثمن بخس، لخلع ملابس الإجرام على صاحب الحق الضعيف في كل وسائل الإعلام والاتصال، وفي نفس الوقت يكممون أفواه من هم على دراية بأن هذا المجرم المحكوم عليه، هو من الصالحين المصلحين الذين لا يريدون لبلدانهم وشعوبهم إلا جلب الخيرلهم، ودفع الشر عنهم.



والهدف منها إلصاق التهم التي يشوهون بها بالدعاة إلى الله، لتنفير الناس من دعوتهم وصدهم عن الاستجابة لهم ومناصرتهم.



فتارة يرمون الدعاة إلى الله بالكذب، كما قال تعالى عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].



ومنهم من يزيد على التكذيب، اتهام الداعية بالخلل الذي أصابته به الآلهة المعبودة من دون الله، كما قال تعالى عن قوم هود: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود:53-54].


ومرة يرمونهم بالسحر كما قال تعالى عن فرعون وهو يخاطب موسى عليه السلام: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طـه:57].



وتارة يصفونهم بالجنون، وأن ما جاءوا به تعلموه من بشر مثلهم، وليس من عند الله، كما قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].



وكذلك رمى المشركون الرسول صَلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عن بعض زعمائهم: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:18-24].



وذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وقصته مع الرسول صَلى الله عليه وسلم، كافية لمعرفة كيد أعداء الله لدعاته، عن عمد وإصرار، مع علمهم بأنهم أهل باطل، وأن الدعاة إلى الله أهل حق، وأنهم يبثون الإشاعات لإلصاق التهم الكاذبة بالدعاة إلى الله، وقلب الحقائق للناس، تنفيراً لهم عن الإيمان بالدعوة والدعاة، ولعل نقلها كاملة أنفع من الإشارة العابرة:



"ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً..



قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه..



قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته..قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر..



قالوا: فنقول: ساحر، قال ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام ويقال لغدق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل..وإن أقرب القول فيه لأن نقول: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته..



فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.. فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة وفي ذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً …} الآيات إلى قوله: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [السيرة لابن هشام (1/270) وانظر تفسير الآيات في تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/442) والآيات من سورة المدثر:11-25].



إن الوليد - وهو ذو الرأي عندهم - يطلب منهم أن يتفقوا على رأي واحد يُشِيعونه ضد الرسول صَلى الله عليه وسلم ودعوته، ينفرون به الناس من قبول دعوته، ثم يستطلع آراءهم التي كانوا يلقونها دون روية ولا تأمل، لأن القصد منها إنما هو مجرد الاتهام الكاذب، ولكن الوليد رد عليهم كل تلك الاتهامات.



قالوا: هو كاهن فقال ما هو بكاهن، قالوا: مجنون، فقال: ما هو بمجنون وقالوا: شاعر فقال: ما هو بشاعر، وقالوا: ساحر فقال: ما هو بساحر، ثم وصف ما جاء به صَلى الله عليه وسلم من كلام ربه، بما شهدت به فطرته وأقرته سليقته "إن لقوله لحلاوة.." وأكد ذلك بقوله: "وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل.."



ثم نكص على عقبيه، وكذّب فطرته وقريحته، فوصفه بالسحر، لا بل قال: "وإن أقرب القول فيه لأن نقول: ساحر.. وتفرقوا على هذا القول الباطل ونشروه بين الناس".



لقد كان الوليد بن المغيرة مُدَبِّراً لوضع المنهج الإعلامي المزيف، الذي يقلب الحقائق، وإن واضعي مناهج الإعلام المزيف في هذا العصر لا فرق بينهم وبينه، إلا بتيسير وسائل الإعلام ووسائل التنظيم والتنسيق التي لم تكن توجد في وقته، بل إن واضعي مناهج الإعلام المزيفة في كل العصور لا يوجد بينهم فرق إلا فيما ذكر.. {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].



{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:52-53].





فقد جاء الكتاب و السنة بالأمر بالوفاء بالعهود و الشروط و المواثيق و العقود، و بأداء الأمانة و رعاية ذلك، و النهي عن الغدر و نقض العهود و الخيانة و التشديد على من يفعل ذلك...." [مجموع الفتاوى(29/140-146]



قال في الموسوعة الفقهية: الموسوعة الفقهية: مُدَّةُ الْهُدْنَةِ: 14 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ, كَمَا "وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ".



وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ, مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ, لقوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ}.



وَيَرَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ, اسْتِنَادًا إلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلى الله عليه وسلم فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ ; لِأَنَّ الأَصْلَ فَرْضُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَالتَّفْصِيلاَتُ فِي مُصْطَلَحِ ( هُدْنَةٌ ). انتهى.



خلاصة الكلام: أن الهدنة مشروعة، لمصلحة الإسلام والمسلمين، فهي من المسائل التي يخضع حكمها للاجتهاد، وقد تدعو إليها الحاجة أو لضرورة، وإذا لم تكن فيها مصلحة، ولم تدع إليها الضرورة، فلا يجوز عقدها. وأن مدتها تابعة لتلك المصلحة أو الضرورة، فتقدر بقدرها قلة وكثرة، وتوقيتا وإطلاقا، وتحديد المدة التي حصلت بين الرسول صلى الله عليه وسلمك، لا تلزم غير الرسول من ولاة الأمر بعده التقيد بها، لأنه عليه السلام عقدها بصفته إماما للأمة، ينظر فيها للمصلحة، وكذا من تولى أمر أمته بعده يكون له حكمه في اجتهاد ما يراه مصلحة للمسلمين، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلمْ في الأمور السياسية التي تقتضي الجهاد لا يدل على وجوب الالتزام به.


عقد الهدنة على مال


يجوز عقد الهدنة بدون أخذ المسلمين مالا من عدوهم، كما هو الحال في هدنة الحديبية. ويجوز عقدها على مال يأخذه المسلمون من عدوهم، كما فعل الرسول صَلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، بعد الانتصار عليهم، فأقرهم على البقاء وعلى أن يعملوا ويؤدوا النصف، لما فيه من المصلحة، وليس المال الذي يؤخذ منهم في هذه الحالة، من الجزية في شيء، لأن شرط أخذ الجزية منهم، أن تنفذ عليهم أحكام المسلمين.



وهل يجوز أن يعقد المسلمون الهدنة، على أن يدفعوا لعدوهم الكافر مالا؟



الأصل أنه لا يجوز ذلك، لأن المسلمين هم الأعلون، ويجب أن يحافظوا على عزتهم وعلو شأنهم، لكن قد تنزل بالمسلمين نوازل فيها من الابتلاء والفتنة، ما لا طاقة لهم به، بحيث لو لم يبذلوا المال لعدوهم لأنزل بهم أشد الضرر، من قتل رجالهم وسبي نسائهم، وهدم منازلهم، وإفساد مزارعهم، وتسميم مياههم، واستئصالهم.



ففي هذه الحال يجوز للمسلمين، أن يعقدوا مع عدوهم الهدنة على مال يأخذه منهم، بشروط تحقق لهم ما أمكن من دفع الفساد الذي قد يصيبهم، إذا لم يوافقوا على الهدنة بمال يأخذه منهم العدو، لأن إعطاءه المال أخف ضررا، من إزهاق أرواحهم وانتهاك أعراضهم.



والدليل على ذلك ما كان يريد فعله الرسول صَلى الله عليه وسلم، من الصلح يوم الأحزاب، من موادعة عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهم عنهم، ولقاعدة الضرورات تبيح المحظورات.



قال المهلب: "إنما قاضاهم النبي صَلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صَلى الله عليه وسلم عن مكة حين توجه إليها فبركت، وقال حبس حابس الفيل على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة، ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى ذلك الإمام وجها. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صَلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهم عنهم" [تفسير القرطبي (8/39 وانظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/283)]



وقال الشيرازي رحمه الله: "ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم، لان فى ذلك مصلحة للمسلمين، ولا يجوز بمال يؤدى إليهم لغير ضرورة، لأن فى ذلك إلحاق صغار بالإسلام، فلم يجز لغير ضرورة، فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام...." [المهذب (2/259) واستدل بعرض ثلث ثمار المدينة على غطفان يوم الأحزاب..]



وقال ابن قدامة رحمه الله: "فَصْلٌ: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، لأَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ ; فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ , فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى.



وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ, فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ, وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ; لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ.



فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ, وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلاَكَ أَوْ الْأَسْرَ, فَيَجُوزُ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ للأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ, فَكَذَا هَا هُنَا, وَلأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ, فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ, وَهُوَ الْقَتْلُ, وَالْأَسْرُ, وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ.



وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ, فِي الْمَغَازِي, عَنْ مَعْمَر, عَنْ الزُّهْرِيِّ, قَالَ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلم إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ, وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - يَعْنِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ -: (أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَك ثُلُثَ تَمْرِ الْأَنْصَارِ, أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ, وَتَخْذُلُ بَيْنَ الأَحْزَابِ)؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ: إنْ جَعَلْت لِي الشَّطْرَ فَعَلْت". قَالَ مَعْمَرٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ , "أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ يَجُرُّ سُرْمَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَامِ السَّنَةِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ, مَا يُطِيقُ أَنْ يَدْخُلَهَا, فَالآنَ حِينَ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلاَمِ, نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلم: (فَنَعَمْ إذًا). وَلَوْلا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ , لِمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلم" [المغني (9/239) وراجع الكافي له (4/340)]




السابق

الفهرس

التالي


14434856

عداد الصفحات العام

423

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م