يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) - (آل عمران)
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(0125)الجهاد في سبيل الله-سببان باطلان يحتج بهما الموالون لغير المسلمين

(0125)الجهاد في سبيل الله-سببان باطلان يحتج بهما الموالون لغير المسلمين
السبب الأول: زعم أن الموالاة المحظورة لهم، هي موافقتهم على دينهم واتباعهم فيه، وترك دين الإسلام، ورتبو على هذه الشبهة أن موالاتهم بمعنى التحالف معهم ومناصرتهم في الأمور السياسية والعسكرية والإعلامية ونحوها، لا مانع منها..

وهذا سبب باطل وظن خاطئ بني عليه حكم فاسد، والتعلل به أو جعله مسوغاً للتحالف مع أعداء الله ومناصرتهم، لا يتمسك به إلا من ضعف إيمانه وقل علمه، فالولاية المحظورة بين المسلم والعدو من اليهود والنصارى وغيرهم هي ولاية التحالف والتناصر.

بهة الثانالسبب الثاني: والتحالف لمصلحة محققة أو دفع مفسدة صحيحة، لا شك في مشروعيته، ولكن كثيرا من التحالفات مع غير المسلمين في هذا العصر، وفي بعض عصور مضت لا يتحقق بها غالبا إلا مفاسد وليست مصالح، كما سيأتي.

ومعلوم أن الحلف قسمان:

القسم الأول: حلف لا يخالف شرع الله، بل يحقق مصالح للمسلمين وغيرهم، كحلف الفضول الذي قال فيه الرسول صَلى الله عليه وسلم: (لو أُدعى به في الإسلام لأجبت) ويمكن تطبيق هذا الحلف اليوم بين المسلمين وغيرهم من الأمم، ما دام يحقق العدل ونصر المظلوم، ودفع العدوان. قال القرطبي: في قوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون} [النحل (91)]: " فيه ثلاث مسائل:


الأولى قوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله} لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وهذه الآية مضمن قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} لأن المعنى فيها افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صَلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقيل نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قالَ قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة) يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. [الحديث رواه بهذا اللفظ مسلم، برقم (2530)]

وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق، قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم، إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس، روي ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قالَ رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت) [الجامع لأحكام القرآن القرطبي (10/169)]

قلت: فلو أن الأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، التزمت بحلف من الأحلاف يتحقق به هذا المعنى الذي أثنى عليه الرسول صَلى الله عليه وسلم، وقال فيه: (لم يزده الإسلام إلا شدة) لكان ذلك مما لا ينبغي للمسلمين التأخر عن المشاركة فيه.

القسم الثاني: حلف يخالف حكم الله تعالى، سواء أكان بين المسلمين، أم بينهم وبين غيرهم، من اليهود والنصارى والوثنيين. مثال الحلف المخالف لحكم الله: الحلف الذي كان معمولا به في الجاهلية، حيث يتعاقد المتحالفون على التناصر على الحق والباطل، وعلى لتوارث بينهم دون الأقارب، وكذلك التوارث بالهجرة، الذي كان معمولا به في المدينة بين المهاجرين والأنصار، عندما آخى بينهم الرسول صَلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الله تعالى ذلك، ورد الإرث على الأقارب، كما فصل ذلك في سورة النساء، وأبقى تعالى بين المهاجرين والأنصار وكافة المؤمنين، التناصح و التناصر والمواساة.

والذي نسخ التوارث بين غير الأقرباء، قوله تعالى: {والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال (75)] قال أبو بكر الجصاص: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ دُونَ النَّسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} إلَى أَنْ جَعَلَ اللَّهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}.

فَقَدْ كَانَ حِلْفُ الإِسْلَامِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ ثَابِتًا صَحِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ : "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحِلْفَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحِلْفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ. وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحِلْفُ فِي التَّنَاصُرِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إذَا حَالَفَهُ: "دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك" فَيَتَعَاقَدَانِ الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَيَدْفَعَ عَنْهُ وَيَحْمِيَهُ بِحَقٍّ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِبَاطِلٍ; وَمِثْلُهُ لاَ يَجُوزُ فِي الإِسْلاَمِ; لأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَدَا الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ أَنْ يَزْوِيَ مِيرَاثَهُ عَنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَيَجْعَلَهُ لِحَلِيفِهِ; فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْحِلْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ..." [أحكام القرآن تفسير الآية الأولى من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}]


ويدخل في هذا القسم – الحلف المخالف لشرع الله – دخولا أوليا، تحالف بعض المسلمين مع بعض، على ظلم غيرهم من المسلمين أو غيرهم، وأشد جرما من ذلك، تحالف بعض المسلمين مع الكفار من اليهود والنصارى، على مسلمين، كما يحصل اليوم من التحالف مع الأمريكان على حرب الشعب العراقي. وقد يستمر هذا التحالف الآثم على بلدان إسلامية أخرى، لأن الحكومة الأمريكية عازمة على الاعتداء على كثير من بلدان المسلمين... لتكمل سيطرتها عليها، وتتصرف في مصالحهم المادية والمعنوية كما تشاء. [كتبت هذه السطور في 1/1/1424هـ ـ4/3/2003هـ وجحافل جيش العدوان الأمريكي الجوية والبرية والبحرية، تملأ البحر والبر والجو في بلدان المسلمين، وبخاصة في دول الخليج، وقد عاد هذا الحلف على المسلمين بالخسران، حيث أصبحت العراق شبيهة بولاية إيرانية، يحكمها الروافض ضد أهل السنة من أهلها ومن الدول العربية...]

وهو يعود بالنقض على تعاون المسلمين على البر والتقوى، ويقوي التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قال النووي رحمه الله: "وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، فهذا باق لم ينسخ، وهذا معنى قوله صَلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وأما قوله صَلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام) فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه والله أعلم" [شرح النووي على مسلم (16/82)]

أما ولاية الاتباع في الدين، فهذه لا تكون بين مؤمن وكافر، وإنما تكون بين كافر قد يدعي الإيمان وكافر آخر. قال سيد قطب رحمه الله في هذا المعنى: "ويحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي نهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى، إنها تعني التناصر والتحالف معهم ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم.. فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين، إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس عند المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة.. وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا..{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].

وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين، فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال، إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون. وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال.. بعدما كان قائما بينهم في أول العهد بالمدينة". [في ظلال القرآن (6/909)].

ولا يدخل في هذا الحظر إحسان المؤمن إلى أقاربه من الأبوين وغيرهم، إذا لم يكونوا حرباً على المسلمين، بل أمر الله الولد المؤمن بمصاحبة أبويه الكافرين بالمعروف وعدم طاعتهما في معصية الله..كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].

وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9].

وفي حديث عمرو بن العاص قال: "سمعت رسول الله صَلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) - يعني أصلها بصلتها". [صحيح البخاري، برقم (5644) و صحيح مسلم، برقم (215)].

هذا عندما لا يكون بين المؤمنين وذوي قراباتهم حرب وخصومه في الدين، أما عندما تكون حرب في الدين، فلا صحبة ولا إحسان بل مفاصلة ومقاطعة ومسايفة بينهم وبين المحاربين. قال سيد قطب: "فروابط الدم والقرابة [والوطنية]هذه تنقطع عند حد الإيمان، إنها يمكن أن تُرعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء الله ولواء الشيطان، والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها، حين لا يكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان.. فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة، فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد، ولقد قتل أبو عبيدة أباه يوم بدر، وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث، أقرباءهم وعشيرتهم متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة، وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله". [في ظلال القرآن (28/3514ـ3515)].

ولا بد هنا من توضيح أمرين لكل منهما صلة بالآخر:

الأمر الأول: يتعلق بتفريق الله بين اليهود والمشركين، وبين النصارى في عداوة المؤمنين ومودتهم.. في قوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].

هذه الآية صريحة في معنيين:

المعنى الأول: أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة وحقداً وكيداً للمسلمين، وهذا الأمر واضح جلي في كثير من آي القرآن الكريم، وقد سجله التاريخ من يوم بعث محمد صَلى الله عليه وسلم إلى الآن، وسيبقى إلى أن تقوم الساعة، لأن اليهود أهل أثرة وأنانية وحقد على كل من خالفهم، بله من رأوه ينافسهم ويظهر عليهم بما معه من حق دفع به باطلهم، كالمسلمين.

وكذلك المشركون الذين يغلب عليهم الجهل والجلافة وغلظ الطباع، ولا داعي للتفصيل في هذا الأمر، لأن شدة عداوة هذين الصنفين واضحة مقررة، ولا يدخل في ذلك كل فرد من أفراد اليهود وأفراد المشركين، بل المراد المجموع في كل منهما، ولم تعلل الآية شدة عداوتهما بشيء.

المعنى الثاني: أن الذين قالوا: إنهم نصارى أقرب مودة للمؤمنين من غيرهم، وقد بينت الآية سبب قربهم، بوجود خطباء ومرشدين يرشدونهم إلى التواضع وعدم الكبرياء على غيرهم.

ومما لا شك فيه أن الفرق بين اليهود والمشركين من جهة، وبين النصارى من جهة أخرى في عداوة المسلمين واقع، وإن كانوا يشتركون كلهم في العداء والكيد للمسلمين في الجملة..

وقد قرر الله ذلك في قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]. وقال عن المشركين : {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8].
ومما يدل على هذا الفرق كثرة النصارى الذين يتركون دينهم ويدخلون في دين الإسلام في كل العصور، ومنها هذا العصر، وقلة اليهود الذين يدخلون في دين الإسلام، وكثير منهم يدخلون في دين الإسلام نفاقاً ليفسدوا كما كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للدين المسيحي..

ولكن هذا الفرق لا يجوز أن يفهم المسلم منه قرب جميع النصارى منه قرباً يقلل من العداوة التي أوجبها الله سبحانه على المسلم للكافرين كلهم : اليهود، والمشركين والنصارى، لأن العداوة في حقيقتها عداوة عقيدة ودين وليست عداوة تعامل دنيوي مشترك.

والنصارى يقولون: بالتثليث الذي ينافي التوحيد، وينكرون رسالة محمد صَلى الله عليه وسلم... وإذا اثني بعض النصارى على الإسلام أو ذكروا المسلمين بخير، ودعوا إلى التحابب بينهم وبين المسلمين، وادعوا أن العداء بيننا وبينهم مفتعل، ولم يكن في الأصل إلا عن سوء فهم، فهل يجوز أن ينطلي كلامهم على المسلمين، حتى يقول قائلهم:
"وليس قصدي من إيراد هذه النصوص الخوض في مناقشات دينية أو التسليم بكل ما احتوته، بل أردت أن أعلل وأفسر رواسب الكراهية المفتعلة للإسلام بأقلام مفكرين مسيحيين... بينما يقف الإسلام من المسيحية موقف الصديق والظهير، خلا نزوات طارئة لا يعتد بها في بعض عصور التخلف بالقياس إلى المؤامرات المستمرة التي تخطط في السر والعلن لتقويض الإسلام وطعن المسلمين.

فالقرآن الكريم يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الله أو الدمار.. لسعد جمعة ص88 والآية من سورة المائدة:82].

ويقول في موضع آخر مشيداً ببعض كلمات زعيم النصارى الذي هنأ المسلمين بمناسبة عيد الأضحى... ورد عليه أحد شيوخ المسلمين: "وأي شيء يبلغ من الصدق مبلغ دعوة قداسته الكريمة إلى التخلص من أوهام رواسب الماضي لتمهيد السبيل، لتعانق المسيحية والإسلام من خلال إيمانهما المشترك بالله لتحطيم الأصنام العصرية وهي المال والتسلط واللذة، لأن الإيمان المخلص بالله هو وحده مصدر الثقة لتوفير المزيد من الحق والعدل والسلام، وعندما نتلاقى نكتشف مع التعجب والفرح أن بعضنا قريب من بعض". [نفس الكتاب ص72].

فهو في النص الأول يزعم أن رواسب كراهية المسيحية للإسلام مفتعلة.. ويقول: "بينما يقف الإسلام من المسيحية موقف الصديق والظهير واستشهد بالآية الكريمة التي يدور الكلام حولها!

وفي النص الثاني يشيد بدعوة الزعيم المسيحي للتخلص من أوهام رواسب الماضي لتمهيد السبيل لتعانق المسيحية والإسلام ويعلل بأن الإيمان المخلص بالله هو وحده مصدر الثقة... إلى آخره.

الكراهية بين الإسلام والمسيحية ليست مفتعلة - وإن ألهبها بعض الكتاب - فالإسلام دين الله الحق، والمسيحية دين محرف مبدل أهله مشركون، لأنهم يقولون: الله ثالث ثلاثة، فكيف تكون الكراهية مفتعلة؟ والإسلام لا يقف من المسيحية موقف الصديق والظهير، بل إنه يصرح بأن الإنجيل الذي يدينون به محرف، كتوراة اليهود، فكلاهما دين باطل.

هذا وقد نص الله تعالى على أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم، فقال تعالى اليهود: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا)9. النساء: 46. وقال عن النصارى: {يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم}. المائدة:13.

لذلك يستحيل أن يعانق الإسلامُ المسيحية، إلا إذا قصد بذلك التعايش والتصالح وعدم عدوان بعضهم على بعض، والإيمان الشرعي لا يمكن قطعاً أن يدخل فيه إيمان المسيحي القائل بالتثليث، لأن الإخلاص وصف للإيمان بالله الواحد والآية الكريمة لا تعني شيئاً من ذلك، وسيتضح معناها قريباً إن شاء الله. [هذا ويعلم أن الكاتب (سعد جمعة) مسلم فاضل غيور على دينه كما هو واضح من كتاباته ومن مواقفه السياسية عندما كان رئيساً لوزراء الحكومة الأردنية، ولكن لكل جواد كبوة كما يقال، ويبدو أنه اغتر بكتابات بعض النصارى الذين يخطبون ود المسلمين تحت شعار الوطن والقومية كما نقل نصوصهم هو في نفس الكتاب].

ونحن نعلم سبب حرصه وحرص كثير من الكتاب وبعض العلماء، على إيجاد نوع من العلاقة السياسية بين المسلمين وبين النصارى، تخفف من التوترات الواقعة بين الطرفين في هذا العصر، وما يترتب عليها من صدام لا طاقة للمسلمين به، بسبب ضعف دولهم وقوة دول الغرب، و ما تبيته هذه من عدوان على المسلمين، وبخاصة أمريكا، كما هو معلوم.

ولسنا نعارض إيجاد علاقة بيننا وبينهم تخف من الصراعات السياسية والعسكرية، حيث أمكن، ولكن باسم العهود والعقود السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، ونحوها مما لا تنازل فيه عن ثوابتنا وعقيدتنا في ديننا وفي دينهم كذلك.

أما الآية الكريمة التي تفرق بين عداوة اليهود والمشركين وبين عداوة النصارى، فلا بد من بيان ما ذكره المفسرون في معناها باختصار.

إنه لو أخذ هذا الجزء من الآية مفصولا عما بعده: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى..} [المائدة: من الآية82]. لفهم منه أن النصارى - في جملتهم - كذلك بدون سبب، ولكن ما تلا ذلك من الآية والآيات المذكورة بعدها، يدل أن هناك سبباً لهذا القرب، يؤدي إلى تواضع هؤلاء النصارى وعدم استكبارهم. ومعنى هذا أنهم إذا ظهر لهم الحق - وهو دين الإسلام – قبلوه، لأن الكبر هو المانع من طاعة الله، فإذا انتفى عن طائفة وُجِدت الطاعة التي كان يمنع منها هذا الكبر.

وكون الكبر مانعاً من قبول الحق ظاهر في القرآن الكريم، وأول الممتنعين عن قبول الحق بسبب الكبر هو إبليس لعنه الله.. كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. وكذلك فرعون وقومه، كما قال الله عنهم: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [العنكبوت:39].

وكذلك عاد كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]. وقال عن المشركين من قريش: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]

فالله عز وجل إذا وصف طائفة في كتابه بصفة أو نفى عنها صفة، وكانت تلك الصفة التي نفاها عنها لها أثرها في القرآن الكريم، وجب تفسيرها بالقرآن الكريم نفسه، فالكبر مانع من قبول الحق، وعدمه داع لقبول الحق، فهذه الطائفة إذا بلغها الحق قبلته لأنها لا تستكبر عنه.


هذا إذا أخذت الآية منفصلة عما بعدها.

أما إذا أخذت الآيات التي بعدها على أنها صفات زائدة عن هذه الصفة، فإن هذه الطائفة يقصد بها طائفة معينة من النصارى آمنت بالله وبرسوله، واقرأ الآيات كاملة لترى أن الصفات التي فيها تدل على هذا المعنى.. قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:83-85].
والذي يظهر من السياق أن الضمائر عائدة إلى مرجع واحد هو الذي يعود إليه الضمير في قوله: {لا يستكبرون} أي الذين قالوا إنا نصارى، ومعنى هذا أن هؤلا الذين قالوا إنا نصارى لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول وهو القرآن - تفيض أعينهم من الدمع، مما عرفوا من الحق، وهم الذين يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، والشاهدون هم المؤمنون من أمة محمد صَلى الله عليه وسلم..ويقولون أيضاً: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ..} [المائدة:84].

وليس بعد نزول القرآن الكريم دينٌ حقٌ غير دين الإسلام، فيتعين أن يكون الحق الذي آمنوا به هو دين الإسلام. وهذا يوضح أن أولئك الذين لا يستكبرون قبلوا الحق فعلاً.. ثم هم الذين قالوا : {..وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}، وهم الذين أثابهم الله وهم المحسنون. وقد قال بهذا القول جماعة من السلف والخلف وحملوها على طائفة أو طوائف من النصارى نزلت الآيات في شأنهم.

وإذا قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أجيب:

نعم ولكن بالقيد أو القيود التي ذكرها الله سبحانه في الآية الأولى أو الآيات التالية، وأهمها أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. ثم إن الآية لم تقل إنهم يوادون المسلمين، وإنما ذكرت أنهم أقرب مودة من غيرهم، ثم إنهم لو فرض أنهم يوادون المسلمين مع بقائهم على كفرهم، فإنه لا يجوز للمسلمين أن يوادوهم.

قال ابن جرير رحمه الله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: من الآية82]. عن قبول الحق واتباعه والإذعان به. وقيل أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صَلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صَلى الله عليه وسلم.." وساق بإسناده ذكر من قال ذلك، ثم قال: "وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره محمد صَلى الله عليه وسلم آمنوا به..." ثم ساق بإسناده ذكر من قال ذلك ثم قال: "والصواب في ذلك القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا إنا نصارى أن نبي الله صَلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس وداً لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ولم يستكبروا عنه. [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/1ـ3)].

وأكد هذا المعنى سيد قطب رحمه الله حيث قال: "إن هذه الآيات تصور حالة وتقرر حكما في هذه الحالة، تصور حالة فريق من أتباع عيسى عليه السلام: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا.. ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالاً للشك في أنها تصور حالة معينة هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادة للتميع المؤدي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة وموقف هذه المعسكرات منهم.. لذلك نجد من الضروري في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات في حالة فئة من الناس قالوا إنا نصارى هي أقرب مودة للذين آمنوا.. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: من الآية82]. فمنهم من يعرفون حقيقية دين النصارى، فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم. لكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد، ولا يدع الأمر مجهلاً ومعمماً على كل من قالوا: إنا نصارى، إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها.."

ثم أخذ سيد يذكر الآيات التي صورت صفات هذه الفئة مؤكداً أنها فئة مؤمنة... إلى أن قال: "وليس كل من قالوا إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا}..كما يحاول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها، إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبساً بموقف سواها في كثير ولا قليل.."

ثم أخذ يسرد ما أثر عن السلف من كتب التفسير يؤيد ذلك. ثم أيد ذلك بالواقع التاريخي الذي دل على أن عامة النصارى كانوا ولا يزالون يكيدون للمسلمين، متعاونين مع اليهود والوثنيين والحركات المعادية للإسلام من أبناء المسلمين..

ثم ختم كلامه بقوله: "وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً، فلا ينساقون وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني، دون متابعة لبقيته، ودون متابعة لسياق السورة كله ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله.. ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد، الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة.

إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة، مهما قل عددها وعدتها، فالذين ينمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة، وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة، ولكن ضررهم لا يقل – حينئذ – عن ضرر أعدى الأعداء، بل إنه ليكون أشد أذى وضرراً. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وهو لا يناقض بعضه بعضأ فلتقرأه إذن على بصيرة. [انظر هذه النصوص وراجع ما كتبه سيد قطب في كتابه ظلال القرآن (7/959ـ967) والآية من سورة الإسراء: 9].

نعم عندما لا يعلم المسلم خطر بعض المعسكرات المعادية للإسلام على حقيقته، تموت روحه الجهادية تجاه ذلك المعسكر ولا يعد له العدة، لذلك كان لزاماً على دعاة الإسلام أن يوضحوا للمسلمين أعداءهم على حقيقتهم، من نصوص القرآن والسنة، ومن الواقع التاريخي منذ بدأ الإسلام ببعثة رسول الله صَلى الله عليه وسلم إلى الساعة، بل إلى يوم القيامة.

والذي يتأمل مخططات النصارى مع اليهود والشيوعيين والوثنيين في هذا العصر ضد المسلمين، يعلم أن الذين قالوا إنهم نصارى وكانوا أقرب مودة ليسوا كل النصارى، وإنما هي فئة معينة لها سماتها وصفاتها وإذا جاءت أي فئة لها تلك الصفات فهي داخلة في النص وإلا فلا. وكيف ترفع الروح الجهادية عند المسلمين أو تعود إليهم ضد عدوهم إذا وقر في أذهانهم أن النصارى كلهم أقرب مودة لهم من غيرهم؟!.

أما الأمر الثاني: الذي يجب توضيحه وله صلة بالأمر الأول، فهو الخلط بين سماحة الإسلام مع أهل الكتاب، حيث خصهم ببعض الأحكام والمعاملات التي لم ينلها غيرهم، كأخذ الجزية منهم وعدم قبولها من غيرهم - على قول – وإباحة نكاح نسائهم وذبائحهم للمسلمين ونحوها، الخلط بين ذلك وبين اتخاذهم أولياء..

فالسماحة معهم مشروعة، والتعامل معهم بما أذن الله فيه مطلوب في حدود ما أذن الله به، ولكن تلك السماحة وذلك التعامل لا يجيز للمسلمين أن يتخذوهم أولياء، يوادوهم ويناصروهم.. مع ما يقومون به من حرب سافرة ضد المسلمين في كل مكان في العالم، ومع مناصرتهم للعدوان اليهودي في فلسطين.

قال سيد قطب رحمه الله: "إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤيا الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض وفق التصور الإسلامي الذي يختلف بطبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية، وتصطدم من ثم بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله.. ويدخل في معركة لا حيلة فيها ولا بد منها لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة.

إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم.. وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد، لا يمكن أن يُتَلَقَّى مع طريقة أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة، فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عنه موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له. [في ظلال القرآن (6/909)]. ولعل معنى الولاء والبراء قد ظهر مما تقدم وأنه من أعظم ما يعيد الروح الجهادية في نفوس المسلمين.

ولنشر إشارة موجزة، إلى السبب الثاني الذي يحتج به الموالون لغير المسلمين في تعاونهم معهم وتحالفهم الذي يزعمون أنه لتحقيق مصالح تعود إلى المسلمين، أو تدفع عنهم مفاسد، ويكفي أن نشير إلى ما تحقق للمسلمين من مصالح أو دفع عنهم من مفاسد في ذلك:

ولنضرب بعض الأمثلة ليتضح للقارئ ما في تعاون بعض المسلمين، مع غيرهم من تحقيق مصالح أو دفع مفاسد عن هذه الأمة:

المثال الأول: غزو دولة أفغانستان التي أصبحت آمنة مستقرة، بعدانتصار "طالبان" ودخولها العاصمة "كابل" وعلمت أمريكا أن حكومة طالبان عازمة على تطبيق شريعة الله، في بلادها، فسلطت عليها وسائل إعلامها وإعلام حلفائها الغربية والعربية، وغيرها حتى شوهت سمعتها وحشدت لها القوات المتحالفة معها، وقد بدأت حربها ضد الشعب الأفغاني من عام 201م إلى هذه الساعة في آخر عام 214 ومنيت بهزائم عظيمة في أرواح جنودها وأدوات حربها، وأوالها التي أعدتها لقت الشعب الأفغاني، إضافة إلى الشباب المسلم الذي وقف ضد الغزو السوفييتي، ثم ضد الجيش الأمريكي وحلفائه، مدافعا عن هذا الشعب المستعصي على الاستعباد والإذلال، هذا الشباب الذي ذاق في اعتقاله بغوانتنامو في كوبا وفي معتقلات البلدان المتحالفة مع الأمريكان من الدول الغربية والبلدان الأخرى ومنها العربية، أشد التعذيب والإذلال الذي قد لا يكون سبق لغيره من المعذبين في العالم، حتى في الحربين العالميتين، ولا زال ينال التعذيب والأذى إلى الآن بدون جرم إلا جهاده في سبيل الله ضد المعتدين.

ونحمد الله تعالى أن أمريكا الإمبراطورية الصليبية المعاصرة، رفعت في جبال الأفغان ووديانها، ومدنها وقراها راية هزيمتها وخرجت تجر أذيال تلك الهزيمة المنكرة، اقتداء بعدوتها السابقة "دولة الاتحاد السوفييتي" وكذلك في العراق، بعد أن دمرتها وسلمتها لإيران، وفصلتها عن الجسم العربي المتهالك.

وكذلك أغرت أمريكا بعض الدول العربية الراغبة في إسقاط الرئيس السوري الذي كان من حلفائها في الحرب ضد العراق، بحجة ظلمه للشعب السوري، واستبداده -مع أن غالب حكام العرب مستبدون، وإن اختلفت نسبة استبدادهم-وعندما انقسم الشعب السوري واشتدت الحرب بين فئاته، أحجمت أمريكا عن الاستمرار في تحالفها لإسقاط الدكتاتور، لأن انقسام الشعب وتفرقه وتشتت ولاءاته، كان مقصود أمريكا منه، تحقيق تفتيت الدول العربية، وهذا مما يحقق لها هذا الهدف الذي يبقي اليهود هم القوة الثابتة في المنطقة، ويضعف كل دولة قد تقف ضدهم!

وهاهم الثائرون على الثعلب "الأسد" من الوطنيين ومن يدعون الجهاد في سبيل الله ضده من الفصائل الإسلامية، يتقاتلون فيما بينهم في كل من العراق وسوريا، ويهددون بعض الدول العربية، ويتلقون السلاح والمال -ولا ندري من أين-ليستمروا في الحرب فيما بينهم، ليتحقق التفتيت الذي ينشده الصليبيون واليهود، وها هي دول المنطقة تمر بحالة اضطراب لا ندري إلى أين يسير؟

وها هي اليمن تتسلمها الفرقة الحوثية بقوة السلاح، ليستقر الأمر فيها للنفوذ الفارسي، الذي سيحيط بالدول الخليجية من الشمال والشرق والجنوب، ولا يستبعد أن يكون ذلك بخطة صليبية أمريكية يهودية صهيونية، لتحقيق أهداف تمكن اليهود من القوة المتنامية والاستقرار، وتزعزع الأمن في الدول العربية، ليكون التحالف القوي في آخر الأمر أمريكيا إيرانيا يهوديا، ضد الشعوب العربية السنية المستعصية على الاستسلام الامل للاحتلال اليهوديي.





[s1
(0126)الجهاد في سبيل الله-المبحث الخامس: بث العزة في نفوس المسلمين


السبب الأول: زعم أن الموالاة المحظورة لهم، هي موافقتهم على دينهم واتباعهم فيه، وترك دين الإسلام، ورتبو على هذه الشبهة أن موالاتهم بمعنى التحالف معهم ومناصرتهم في الأمور السياسية والعسكرية والإعلامية ونحوها، لا مانع منها..

وهذا سبب باطل وظن خاطئ بني عليه حكم فاسد، والتعلل به أو جعله مسوغاً للتحالف مع أعداء الله ومناصرتهم، لا يتمسك به إلا من ضعف إيمانه وقل علمه، فالولاية المحظورة بين المسلم والعدو من اليهود والنصارى وغيرهم هي ولاية التحالف والتناصر.

بهة الثانالسبب الثاني: والتحالف لمصلحة محققة أو دفع مفسدة صحيحة، لا شك في مشروعيته، ولكن كثيرا من التحالفات مع غير المسلمين في هذا العصر، وفي بعض عصور مضت لا يتحقق بها غالبا إلا مفاسد وليست مصالح، كما سيأتي.

ومعلوم أن الحلف قسمان:

القسم الأول: حلف لا يخالف شرع الله، بل يحقق مصالح للمسلمين وغيرهم، كحلف الفضول الذي قال فيه الرسول صَلى الله عليه وسلم: (لو أُدعى به في الإسلام لأجبت) ويمكن تطبيق هذا الحلف اليوم بين المسلمين وغيرهم من الأمم، ما دام يحقق العدل ونصر المظلوم، ودفع العدوان. قال القرطبي: في قوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون} [النحل (91)]: " فيه ثلاث مسائل:


الأولى قوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله} لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وهذه الآية مضمن قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} لأن المعنى فيها افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صَلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقيل نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قالَ قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة) يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. [الحديث رواه بهذا اللفظ مسلم، برقم (2530)]

وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق، قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم، إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس، روي ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قالَ رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت) [الجامع لأحكام القرآن القرطبي (10/169)]

قلت: فلو أن الأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، التزمت بحلف من الأحلاف يتحقق به هذا المعنى الذي أثنى عليه الرسول صَلى الله عليه وسلم، وقال فيه: (لم يزده الإسلام إلا شدة) لكان ذلك مما لا ينبغي للمسلمين التأخر عن المشاركة فيه.

القسم الثاني: حلف يخالف حكم الله تعالى، سواء أكان بين المسلمين، أم بينهم وبين غيرهم، من اليهود والنصارى والوثنيين. مثال الحلف المخالف لحكم الله: الحلف الذي كان معمولا به في الجاهلية، حيث يتعاقد المتحالفون على التناصر على الحق والباطل، وعلى لتوارث بينهم دون الأقارب، وكذلك التوارث بالهجرة، الذي كان معمولا به في المدينة بين المهاجرين والأنصار، عندما آخى بينهم الرسول صَلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الله تعالى ذلك، ورد الإرث على الأقارب، كما فصل ذلك في سورة النساء، وأبقى تعالى بين المهاجرين والأنصار وكافة المؤمنين، التناصح و التناصر والمواساة.

والذي نسخ التوارث بين غير الأقرباء، قوله تعالى: {والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال (75)] قال أبو بكر الجصاص: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ دُونَ النَّسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} إلَى أَنْ جَعَلَ اللَّهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}.

فَقَدْ كَانَ حِلْفُ الإِسْلَامِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ ثَابِتًا صَحِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ : "لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ" فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحِلْفَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحِلْفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ. وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحِلْفُ فِي التَّنَاصُرِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إذَا حَالَفَهُ: "دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك" فَيَتَعَاقَدَانِ الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَيَدْفَعَ عَنْهُ وَيَحْمِيَهُ بِحَقٍّ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِبَاطِلٍ; وَمِثْلُهُ لاَ يَجُوزُ فِي الإِسْلاَمِ; لأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَدَا الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ أَنْ يَزْوِيَ مِيرَاثَهُ عَنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَيَجْعَلَهُ لِحَلِيفِهِ; فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْحِلْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ..." [أحكام القرآن تفسير الآية الأولى من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}]


ويدخل في هذا القسم – الحلف المخالف لشرع الله – دخولا أوليا، تحالف بعض المسلمين مع بعض، على ظلم غيرهم من المسلمين أو غيرهم، وأشد جرما من ذلك، تحالف بعض المسلمين مع الكفار من اليهود والنصارى، على مسلمين، كما يحصل اليوم من التحالف مع الأمريكان على حرب الشعب العراقي. وقد يستمر هذا التحالف الآثم على بلدان إسلامية أخرى، لأن الحكومة الأمريكية عازمة على الاعتداء على كثير من بلدان المسلمين... لتكمل سيطرتها عليها، وتتصرف في مصالحهم المادية والمعنوية كما تشاء. [كتبت هذه السطور في 1/1/1424هـ ـ4/3/2003هـ وجحافل جيش العدوان الأمريكي الجوية والبرية والبحرية، تملأ البحر والبر والجو في بلدان المسلمين، وبخاصة في دول الخليج، وقد عاد هذا الحلف على المسلمين بالخسران، حيث أصبحت العراق شبيهة بولاية إيرانية، يحكمها الروافض ضد أهل السنة من أهلها ومن الدول العربية...]

وهو يعود بالنقض على تعاون المسلمين على البر والتقوى، ويقوي التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قال النووي رحمه الله: "وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، فهذا باق لم ينسخ، وهذا معنى قوله صَلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وأما قوله صَلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام) فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه والله أعلم" [شرح النووي على مسلم (16/82)]

أما ولاية الاتباع في الدين، فهذه لا تكون بين مؤمن وكافر، وإنما تكون بين كافر قد يدعي الإيمان وكافر آخر. قال سيد قطب رحمه الله في هذا المعنى: "ويحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي نهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى، إنها تعني التناصر والتحالف معهم ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم.. فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين، إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس عند المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة.. وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا..{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].

وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين، فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال، إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون. وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال.. بعدما كان قائما بينهم في أول العهد بالمدينة". [في ظلال القرآن (6/909)].

ولا يدخل في هذا الحظر إحسان المؤمن إلى أقاربه من الأبوين وغيرهم، إذا لم يكونوا حرباً على المسلمين، بل أمر الله الولد المؤمن بمصاحبة أبويه الكافرين بالمعروف وعدم طاعتهما في معصية الله..كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].

وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9].

وفي حديث عمرو بن العاص قال: "سمعت رسول الله صَلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) - يعني أصلها بصلتها". [صحيح البخاري، برقم (5644) و صحيح مسلم، برقم (215)].

هذا عندما لا يكون بين المؤمنين وذوي قراباتهم حرب وخصومه في الدين، أما عندما تكون حرب في الدين، فلا صحبة ولا إحسان بل مفاصلة ومقاطعة ومسايفة بينهم وبين المحاربين. قال سيد قطب: "فروابط الدم والقرابة [والوطنية]هذه تنقطع عند حد الإيمان، إنها يمكن أن تُرعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء الله ولواء الشيطان، والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها، حين لا يكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان.. فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة، فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد، ولقد قتل أبو عبيدة أباه يوم بدر، وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث، أقرباءهم وعشيرتهم متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة، وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله". [في ظلال القرآن (28/3514ـ3515)].

ولا بد هنا من توضيح أمرين لكل منهما صلة بالآخر:

الأمر الأول: يتعلق بتفريق الله بين اليهود والمشركين، وبين النصارى في عداوة المؤمنين ومودتهم.. في قوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].

هذه الآية صريحة في معنيين:

المعنى الأول: أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة وحقداً وكيداً للمسلمين، وهذا الأمر واضح جلي في كثير من آي القرآن الكريم، وقد سجله التاريخ من يوم بعث محمد صَلى الله عليه وسلم إلى الآن، وسيبقى إلى أن تقوم الساعة، لأن اليهود أهل أثرة وأنانية وحقد على كل من خالفهم، بله من رأوه ينافسهم ويظهر عليهم بما معه من حق دفع به باطلهم، كالمسلمين.

وكذلك المشركون الذين يغلب عليهم الجهل والجلافة وغلظ الطباع، ولا داعي للتفصيل في هذا الأمر، لأن شدة عداوة هذين الصنفين واضحة مقررة، ولا يدخل في ذلك كل فرد من أفراد اليهود وأفراد المشركين، بل المراد المجموع في كل منهما، ولم تعلل الآية شدة عداوتهما بشيء.

المعنى الثاني: أن الذين قالوا: إنهم نصارى أقرب مودة للمؤمنين من غيرهم، وقد بينت الآية سبب قربهم، بوجود خطباء ومرشدين يرشدونهم إلى التواضع وعدم الكبرياء على غيرهم.

ومما لا شك فيه أن الفرق بين اليهود والمشركين من جهة، وبين النصارى من جهة أخرى في عداوة المسلمين واقع، وإن كانوا يشتركون كلهم في العداء والكيد للمسلمين في الجملة..

وقد قرر الله ذلك في قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]. وقال عن المشركين : {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8].
ومما يدل على هذا الفرق كثرة النصارى الذين يتركون دينهم ويدخلون في دين الإسلام في كل العصور، ومنها هذا العصر، وقلة اليهود الذين يدخلون في دين الإسلام، وكثير منهم يدخلون في دين الإسلام نفاقاً ليفسدوا كما كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للدين المسيحي..

ولكن هذا الفرق لا يجوز أن يفهم المسلم منه قرب جميع النصارى منه قرباً يقلل من العداوة التي أوجبها الله سبحانه على المسلم للكافرين كلهم : اليهود، والمشركين والنصارى، لأن العداوة في حقيقتها عداوة عقيدة ودين وليست عداوة تعامل دنيوي مشترك.

والنصارى يقولون: بالتثليث الذي ينافي التوحيد، وينكرون رسالة محمد صَلى الله عليه وسلم... وإذا اثني بعض النصارى على الإسلام أو ذكروا المسلمين بخير، ودعوا إلى التحابب بينهم وبين المسلمين، وادعوا أن العداء بيننا وبينهم مفتعل، ولم يكن في الأصل إلا عن سوء فهم، فهل يجوز أن ينطلي كلامهم على المسلمين، حتى يقول قائلهم:
"وليس قصدي من إيراد هذه النصوص الخوض في مناقشات دينية أو التسليم بكل ما احتوته، بل أردت أن أعلل وأفسر رواسب الكراهية المفتعلة للإسلام بأقلام مفكرين مسيحيين... بينما يقف الإسلام من المسيحية موقف الصديق والظهير، خلا نزوات طارئة لا يعتد بها في بعض عصور التخلف بالقياس إلى المؤامرات المستمرة التي تخطط في السر والعلن لتقويض الإسلام وطعن المسلمين.

فالقرآن الكريم يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الله أو الدمار.. لسعد جمعة ص88 والآية من سورة المائدة:82].

ويقول في موضع آخر مشيداً ببعض كلمات زعيم النصارى الذي هنأ المسلمين بمناسبة عيد الأضحى... ورد عليه أحد شيوخ المسلمين: "وأي شيء يبلغ من الصدق مبلغ دعوة قداسته الكريمة إلى التخلص من أوهام رواسب الماضي لتمهيد السبيل، لتعانق المسيحية والإسلام من خلال إيمانهما المشترك بالله لتحطيم الأصنام العصرية وهي المال والتسلط واللذة، لأن الإيمان المخلص بالله هو وحده مصدر الثقة لتوفير المزيد من الحق والعدل والسلام، وعندما نتلاقى نكتشف مع التعجب والفرح أن بعضنا قريب من بعض". [نفس الكتاب ص72].

فهو في النص الأول يزعم أن رواسب كراهية المسيحية للإسلام مفتعلة.. ويقول: "بينما يقف الإسلام من المسيحية موقف الصديق والظهير واستشهد بالآية الكريمة التي يدور الكلام حولها!

وفي النص الثاني يشيد بدعوة الزعيم المسيحي للتخلص من أوهام رواسب الماضي لتمهيد السبيل لتعانق المسيحية والإسلام ويعلل بأن الإيمان المخلص بالله هو وحده مصدر الثقة... إلى آخره.

الكراهية بين الإسلام والمسيحية ليست مفتعلة - وإن ألهبها بعض الكتاب - فالإسلام دين الله الحق، والمسيحية دين محرف مبدل أهله مشركون، لأنهم يقولون: الله ثالث ثلاثة، فكيف تكون الكراهية مفتعلة؟ والإسلام لا يقف من المسيحية موقف الصديق والظهير، بل إنه يصرح بأن الإنجيل الذي يدينون به محرف، كتوراة اليهود، فكلاهما دين باطل.

هذا وقد نص الله تعالى على أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم، فقال تعالى اليهود: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا)9. النساء: 46. وقال عن النصارى: {يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم}. المائدة:13.

لذلك يستحيل أن يعانق الإسلامُ المسيحية، إلا إذا قصد بذلك التعايش والتصالح وعدم عدوان بعضهم على بعض، والإيمان الشرعي لا يمكن قطعاً أن يدخل فيه إيمان المسيحي القائل بالتثليث، لأن الإخلاص وصف للإيمان بالله الواحد والآية الكريمة لا تعني شيئاً من ذلك، وسيتضح معناها قريباً إن شاء الله. [هذا ويعلم أن الكاتب (سعد جمعة) مسلم فاضل غيور على دينه كما هو واضح من كتاباته ومن مواقفه السياسية عندما كان رئيساً لوزراء الحكومة الأردنية، ولكن لكل جواد كبوة كما يقال، ويبدو أنه اغتر بكتابات بعض النصارى الذين يخطبون ود المسلمين تحت شعار الوطن والقومية كما نقل نصوصهم هو في نفس الكتاب].

ونحن نعلم سبب حرصه وحرص كثير من الكتاب وبعض العلماء، على إيجاد نوع من العلاقة السياسية بين المسلمين وبين النصارى، تخفف من التوترات الواقعة بين الطرفين في هذا العصر، وما يترتب عليها من صدام لا طاقة للمسلمين به، بسبب ضعف دولهم وقوة دول الغرب، و ما تبيته هذه من عدوان على المسلمين، وبخاصة أمريكا، كما هو معلوم.

ولسنا نعارض إيجاد علاقة بيننا وبينهم تخف من الصراعات السياسية والعسكرية، حيث أمكن، ولكن باسم العهود والعقود السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، ونحوها مما لا تنازل فيه عن ثوابتنا وعقيدتنا في ديننا وفي دينهم كذلك.

أما الآية الكريمة التي تفرق بين عداوة اليهود والمشركين وبين عداوة النصارى، فلا بد من بيان ما ذكره المفسرون في معناها باختصار.

إنه لو أخذ هذا الجزء من الآية مفصولا عما بعده: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى..} [المائدة: من الآية82]. لفهم منه أن النصارى - في جملتهم - كذلك بدون سبب، ولكن ما تلا ذلك من الآية والآيات المذكورة بعدها، يدل أن هناك سبباً لهذا القرب، يؤدي إلى تواضع هؤلاء النصارى وعدم استكبارهم. ومعنى هذا أنهم إذا ظهر لهم الحق - وهو دين الإسلام – قبلوه، لأن الكبر هو المانع من طاعة الله، فإذا انتفى عن طائفة وُجِدت الطاعة التي كان يمنع منها هذا الكبر.

وكون الكبر مانعاً من قبول الحق ظاهر في القرآن الكريم، وأول الممتنعين عن قبول الحق بسبب الكبر هو إبليس لعنه الله.. كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. وكذلك فرعون وقومه، كما قال الله عنهم: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [العنكبوت:39].

وكذلك عاد كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]. وقال عن المشركين من قريش: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]

فالله عز وجل إذا وصف طائفة في كتابه بصفة أو نفى عنها صفة، وكانت تلك الصفة التي نفاها عنها لها أثرها في القرآن الكريم، وجب تفسيرها بالقرآن الكريم نفسه، فالكبر مانع من قبول الحق، وعدمه داع لقبول الحق، فهذه الطائفة إذا بلغها الحق قبلته لأنها لا تستكبر عنه.


هذا إذا أخذت الآية منفصلة عما بعدها.

أما إذا أخذت الآيات التي بعدها على أنها صفات زائدة عن هذه الصفة، فإن هذه الطائفة يقصد بها طائفة معينة من النصارى آمنت بالله وبرسوله، واقرأ الآيات كاملة لترى أن الصفات التي فيها تدل على هذا المعنى.. قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:83-85].
والذي يظهر من السياق أن الضمائر عائدة إلى مرجع واحد هو الذي يعود إليه الضمير في قوله: {لا يستكبرون} أي الذين قالوا إنا نصارى، ومعنى هذا أن هؤلا الذين قالوا إنا نصارى لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول وهو القرآن - تفيض أعينهم من الدمع، مما عرفوا من الحق، وهم الذين يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، والشاهدون هم المؤمنون من أمة محمد صَلى الله عليه وسلم..ويقولون أيضاً: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ..} [المائدة:84].

وليس بعد نزول القرآن الكريم دينٌ حقٌ غير دين الإسلام، فيتعين أن يكون الحق الذي آمنوا به هو دين الإسلام. وهذا يوضح أن أولئك الذين لا يستكبرون قبلوا الحق فعلاً.. ثم هم الذين قالوا : {..وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}، وهم الذين أثابهم الله وهم المحسنون. وقد قال بهذا القول جماعة من السلف والخلف وحملوها على طائفة أو طوائف من النصارى نزلت الآيات في شأنهم.

وإذا قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أجيب:

نعم ولكن بالقيد أو القيود التي ذكرها الله سبحانه في الآية الأولى أو الآيات التالية، وأهمها أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. ثم إن الآية لم تقل إنهم يوادون المسلمين، وإنما ذكرت أنهم أقرب مودة من غيرهم، ثم إنهم لو فرض أنهم يوادون المسلمين مع بقائهم على كفرهم، فإنه لا يجوز للمسلمين أن يوادوهم.

قال ابن جرير رحمه الله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: من الآية82]. عن قبول الحق واتباعه والإذعان به. وقيل أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صَلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صَلى الله عليه وسلم.." وساق بإسناده ذكر من قال ذلك، ثم قال: "وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره محمد صَلى الله عليه وسلم آمنوا به..." ثم ساق بإسناده ذكر من قال ذلك ثم قال: "والصواب في ذلك القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا إنا نصارى أن نبي الله صَلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس وداً لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ولم يستكبروا عنه. [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/1ـ3)].

وأكد هذا المعنى سيد قطب رحمه الله حيث قال: "إن هذه الآيات تصور حالة وتقرر حكما في هذه الحالة، تصور حالة فريق من أتباع عيسى عليه السلام: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا.. ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالاً للشك في أنها تصور حالة معينة هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادة للتميع المؤدي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة وموقف هذه المعسكرات منهم.. لذلك نجد من الضروري في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات في حالة فئة من الناس قالوا إنا نصارى هي أقرب مودة للذين آمنوا.. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: من الآية82]. فمنهم من يعرفون حقيقية دين النصارى، فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم. لكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد، ولا يدع الأمر مجهلاً ومعمماً على كل من قالوا: إنا نصارى، إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها.."

ثم أخذ سيد يذكر الآيات التي صورت صفات هذه الفئة مؤكداً أنها فئة مؤمنة... إلى أن قال: "وليس كل من قالوا إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا}..كما يحاول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها، إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبساً بموقف سواها في كثير ولا قليل.."

ثم أخذ يسرد ما أثر عن السلف من كتب التفسير يؤيد ذلك. ثم أيد ذلك بالواقع التاريخي الذي دل على أن عامة النصارى كانوا ولا يزالون يكيدون للمسلمين، متعاونين مع اليهود والوثنيين والحركات المعادية للإسلام من أبناء المسلمين..

ثم ختم كلامه بقوله: "وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً، فلا ينساقون وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني، دون متابعة لبقيته، ودون متابعة لسياق السورة كله ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله.. ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد، الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة.

إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة، مهما قل عددها وعدتها، فالذين ينمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة، وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة، ولكن ضررهم لا يقل – حينئذ – عن ضرر أعدى الأعداء، بل إنه ليكون أشد أذى وضرراً. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وهو لا يناقض بعضه بعضأ فلتقرأه إذن على بصيرة. [انظر هذه النصوص وراجع ما كتبه سيد قطب في كتابه ظلال القرآن (7/959ـ967) والآية من سورة الإسراء: 9].

نعم عندما لا يعلم المسلم خطر بعض المعسكرات المعادية للإسلام على حقيقته، تموت روحه الجهادية تجاه ذلك المعسكر ولا يعد له العدة، لذلك كان لزاماً على دعاة الإسلام أن يوضحوا للمسلمين أعداءهم على حقيقتهم، من نصوص القرآن والسنة، ومن الواقع التاريخي منذ بدأ الإسلام ببعثة رسول الله صَلى الله عليه وسلم إلى الساعة، بل إلى يوم القيامة.

والذي يتأمل مخططات النصارى مع اليهود والشيوعيين والوثنيين في هذا العصر ضد المسلمين، يعلم أن الذين قالوا إنهم نصارى وكانوا أقرب مودة ليسوا كل النصارى، وإنما هي فئة معينة لها سماتها وصفاتها وإذا جاءت أي فئة لها تلك الصفات فهي داخلة في النص وإلا فلا. وكيف ترفع الروح الجهادية عند المسلمين أو تعود إليهم ضد عدوهم إذا وقر في أذهانهم أن النصارى كلهم أقرب مودة لهم من غيرهم؟!.

أما الأمر الثاني: الذي يجب توضيحه وله صلة بالأمر الأول، فهو الخلط بين سماحة الإسلام مع أهل الكتاب، حيث خصهم ببعض الأحكام والمعاملات التي لم ينلها غيرهم، كأخذ الجزية منهم وعدم قبولها من غيرهم - على قول – وإباحة نكاح نسائهم وذبائحهم للمسلمين ونحوها، الخلط بين ذلك وبين اتخاذهم أولياء..

فالسماحة معهم مشروعة، والتعامل معهم بما أذن الله فيه مطلوب في حدود ما أذن الله به، ولكن تلك السماحة وذلك التعامل لا يجيز للمسلمين أن يتخذوهم أولياء، يوادوهم ويناصروهم.. مع ما يقومون به من حرب سافرة ضد المسلمين في كل مكان في العالم، ومع مناصرتهم للعدوان اليهودي في فلسطين.

قال سيد قطب رحمه الله: "إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤيا الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض وفق التصور الإسلامي الذي يختلف بطبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية، وتصطدم من ثم بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله.. ويدخل في معركة لا حيلة فيها ولا بد منها لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة.

إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم.. وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد، لا يمكن أن يُتَلَقَّى مع طريقة أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة، فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عنه موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له. [في ظلال القرآن (6/909)]. ولعل معنى الولاء والبراء قد ظهر مما تقدم وأنه من أعظم ما يعيد الروح الجهادية في نفوس المسلمين.

ولنشر إشارة موجزة، إلى السبب الثاني الذي يحتج به الموالون لغير المسلمين في تعاونهم معهم وتحالفهم الذي يزعمون أنه لتحقيق مصالح تعود إلى المسلمين، أو تدفع عنهم مفاسد، ويكفي أن نشير إلى ما تحقق للمسلمين من مصالح أو دفع عنهم من مفاسد في ذلك:

ولنضرب بعض الأمثلة ليتضح للقارئ ما في تعاون بعض المسلمين، مع غيرهم من تحقيق مصالح أو دفع مفاسد عن هذه الأمة:

المثال الأول: غزو دولة أفغانستان التي أصبحت آمنة مستقرة، بعدانتصار "طالبان" ودخولها العاصمة "كابل" وعلمت أمريكا أن حكومة طالبان عازمة على تطبيق شريعة الله، في بلادها، فسلطت عليها وسائل إعلامها وإعلام حلفائها الغربية والعربية، وغيرها حتى شوهت سمعتها وحشدت لها القوات المتحالفة معها، وقد بدأت حربها ضد الشعب الأفغاني من عام 201م إلى هذه الساعة في آخر عام 214 ومنيت بهزائم عظيمة في أرواح جنودها وأدوات حربها، وأوالها التي أعدتها لقت الشعب الأفغاني، إضافة إلى الشباب المسلم الذي وقف ضد الغزو السوفييتي، ثم ضد الجيش الأمريكي وحلفائه، مدافعا عن هذا الشعب المستعصي على الاستعباد والإذلال، هذا الشباب الذي ذاق في اعتقاله بغوانتنامو في كوبا وفي معتقلات البلدان المتحالفة مع الأمريكان من الدول الغربية والبلدان الأخرى ومنها العربية، أشد التعذيب والإذلال الذي قد لا يكون سبق لغيره من المعذبين في العالم، حتى في الحربين العالميتين، ولا زال ينال التعذيب والأذى إلى الآن بدون جرم إلا جهاده في سبيل الله ضد المعتدين.

ونحمد الله تعالى أن أمريكا الإمبراطورية الصليبية المعاصرة، رفعت في جبال الأفغان ووديانها، ومدنها وقراها راية هزيمتها وخرجت تجر أذيال تلك الهزيمة المنكرة، اقتداء بعدوتها السابقة "دولة الاتحاد السوفييتي" وكذلك في العراق، بعد أن دمرتها وسلمتها لإيران، وفصلتها عن الجسم العربي المتهالك.

وكذلك أغرت أمريكا بعض الدول العربية الراغبة في إسقاط الرئيس السوري الذي كان من حلفائها في الحرب ضد العراق، بحجة ظلمه للشعب السوري، واستبداده -مع أن غالب حكام العرب مستبدون، وإن اختلفت نسبة استبدادهم-وعندما انقسم الشعب السوري واشتدت الحرب بين فئاته، أحجمت أمريكا عن الاستمرار في تحالفها لإسقاط الدكتاتور، لأن انقسام الشعب وتفرقه وتشتت ولاءاته، كان مقصود أمريكا منه، تحقيق تفتيت الدول العربية، وهذا مما يحقق لها هذا الهدف الذي يبقي اليهود هم القوة الثابتة في المنطقة، ويضعف كل دولة قد تقف ضدهم!

وهاهم الثائرون على الثعلب "الأسد" من الوطنيين ومن يدعون الجهاد في سبيل الله ضده من الفصائل الإسلامية، يتقاتلون فيما بينهم في كل من العراق وسوريا، ويهددون بعض الدول العربية، ويتلقون السلاح والمال -ولا ندري من أين-ليستمروا في الحرب فيما بينهم، ليتحقق التفتيت الذي ينشده الصليبيون واليهود، وها هي دول المنطقة تمر بحالة اضطراب لا ندري إلى أين يسير؟

وها هي اليمن تتسلمها الفرقة الحوثية بقوة السلاح، ليستقر الأمر فيها للنفوذ الفارسي، الذي سيحيط بالدول الخليجية من الشمال والشرق والجنوب، ولا يستبعد أن يكون ذلك بخطة صليبية أمريكية يهودية صهيونية، لتحقيق أهداف تمكن اليهود من القوة المتنامية والاستقرار، وتزعزع الأمن في الدول العربية، ليكون التحالف القوي في آخر الأمر أمريكيا إيرانيا يهوديا، ضد الشعوب العربية السنية المستعصية على الاستسلام الامل للاحتلال اليهوديي.








لا يمكن أن تعيش الأمة الإسلامية، قوية الجانب مرفوعة الرأس، محافظة على كرامتها طامعة في قيادة البشرية، إلا إذا كانت روح العزة تسري في دمها.. وهداية العالم تؤرقها وتحكم نشاطها، والجهاد في سبيل الله يرفع رايتها، تفتح قلوب الأمم بنور دينها، وتحطم الجبابرة والطغاة الذين يعيثون في الأرض فسادا، بقوة بأسها، ترفض العبودية والخضوع لغير خالقها.



والأمة التي ترغب في القيادة وهي تفقد العزة الحقيقية، تلجأ إلى محاكاة إبليس في التلبس برداء العلو والإفساد في الأرض، وتسمي ذلك زوراً وبهتاناً: عزة تبثها في نفوس أفرادها.. لتقتحم بهم عقبات الحياة بالحق وبالباطل.



أما الأمة التي تفقد هذه وتلك، فهي من القطعان البشرية الضائعة التي تقاد ولا تقود.



فالناس مع العزة ثلاثة أقسام:



القسم الأول: أمة تطلب العزة الحقيقية: وهي لعزة التي تحقق الذلة الكاملة والعبودية المحضة في نفسها للخالق سبحانه وتعالى، وتعتز به وبدينه، وتستعلي به على جميع قوى الأرض المادية..



ويقودها طموح العزة إلى إقامة دين الله وإعلاء كلمته في الأرض، وتبلغ رسالته إلى العالم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.



ولا وجود حقيقيا للأمة الإسلامية بدون هذه العزة، بل إذا فقدتها ذلت وسلط الله عليها عدوها الذي لا يرقب فيها إلا ولا ذمة.



لذلك عُنِي القرآن الكريم الذي أنزله الله لها لقيادة البشر، ببث العزة في نفوس المسلمين وإلهاب عواطفهم بها..



كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].


وهل يليق بأمة اصطفاها الله لهداية البشر وقيادته بالإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن تتخلى عن وظيفتها هذه؟ وإذا تخلت عنها فهل تكون عزيزة؟ كلا.



ولقد جعل الله الأمة المؤمنة العزيزة في صفه سبحانه مع رسوله صَلى الله عليه وسلم، وكرمها بمنحها هذه العزة التي اختصها الله بها دون سائر الأمم..كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: من الآية8]. وهو سبحانه رب العزة وحده كما قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180].



وهل يسهل على أمة أن تفقد هذا التكريم، إلا أن تكون ذليلة مهانة، فلا تكون أهلاً للبقاء، وحكمة الله تقتضي استبدال غيرها بها ممن يحرص على هذه العزة ويحافظ عليها ويدفع ثمنها.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].


ولا عزة بدون جهاد في سبيل الله كما، لا عزة بدون محبة الله والتواضع للمؤمنين والعزة على الكافرين.



ويستثير القرآن الكريم هذه العزة ويبثها في نفوس المؤمنين في الوقت الذي يكاد الوهن يثبط هممهم ويضعف عزائمهم، ويكاد الأسى والحزن يقضي على روح الجهاد فيهم، بعد أصيبوا في معركة أحد بما أصيبوا به من انكسار، بسبب معصية بعضهم للرسول صَلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].


فالعزة واستعلاء الإيمان لا يجتمع معهما الوهن والحزن اللذان يثبطان الهمم، لأن الوهن يدعو إلى الذلة والرضا بالدون وإظهار الضعف للعدو والبدء بطلب المهادنة الذي يجرئ عليهم عدوهم ويغريه بهم...



ولذلك نهى الله المسلمين عن الهوان ودعوة العدو إلى المهادنة والمسالمة، وهم الأعلون إيمانا واعتزازا بربهم وعلما ودعوة وإعدادا وجهادا. كما قال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. قارن بين قوله هنا: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ..!}. وبين قوله فيما مضى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين..!}. ترى كيف يستثير الله العزة في نفوس عباده؟



ولا بد من سلوك هذا المنهج الذي تضمنه كتاب الله تعالى، وهو بث العزة في نفوس المسلمين، لتعود إليهم الروح الجهادية التي لا عزة لهم إلا بها وهذه هي العزة الحقيقية.



وقد قال عنها ابن تيمية رحمه الله: "وأما القسم الرابع فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم..كما قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [ سبقت الإشارة إلى أرقام هذه الآيات وانظر الفتاوى (28/393) المنافقون: من الآية8].



قال عنها سيد قطب رحمه الله: "والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس حقيقة تستقر في القلب، فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي.. يستعلي بها على شهواته المذلة ورغائبه القاهرة ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس..



ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فقد استعلى عل كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان، وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان.. [في ظلال القرآن (22/2931)].



القسم الثاني: عزة الكبرياء والطغيان، وهي العزة التي تدفع إلى الاستعلاء على الناس وإذلالهم واستعبادهم، مع عدم قبول الحق واتباع أهله، والأمة التي تتصف بهذه الصفة الذمية التي تسميها عزة وتبثها في نفوس أفرادها، هي أمة ظالمة متجبرة، قصدها العلو في الأرض بغير الحق، تستضعف الناس وتقهرهم بالقوة وتخضع من تقدر على إخضاعه من البشر بالقتل والتشريد والاعتقال ونهب الأموال وانتهاك الأعراض..



هذه الأمة أمة ظالمة مفسدة، جديرة بإنزال الله سخطه وعقوبته عليها، وعزتها عزة ظلم وكبرياء وليست عزة عدل وإصلاح.. تأبى الحق وتحاربه.. أفرادها يجمعون على تطبيق هذه القاعدة.. قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204-206].



قال ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا القسم: القسم الأول يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض، وهو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق.. قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].



وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضِي الله عنه قال: قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان). فقال رجل: يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسناً أفمن الكبر ذاك ؟ قال صَلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) [مسلم (1/93)]. فبطر الحق دفعه وجحده، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد. [الفتاوى (28/392)]..



وقال سيد قطب في هذا القسم: "إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل، وليست طغياناً فادحاً يضرب في عتو وتجبر وإصرار، وليست اندفاعا باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة، وليست قوة عمياء تبطش بلاحق ولا عدل ولا صلاح، كلا.. [في ظلال القرآن (22/2931)].



وإن من واجب أهل العزة الصحيحة أن يقضوا بعزتهم على ذوي العناد الجامح، والاستكبار على الحق، والتشامخ بالباطل والطغيان العاتي المتجبر والمصر عليه، والاندفاع الباغي الخاضع للنزوة والذليل للشهوة، وأن يضربوا بعزتهم القوة العمياء التي تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح.. لأنه لا يوجد من يقضي على أولئك أو يضرب هؤلاء بحق سواهم. وعاقبة ذوي العلو والفساد في الأرض عقوبة الله بهم في الدنيا والآخرة.



أما القسم الثالث: فهو القطعان البشرية الضائعة التي استساغت الذل والمهانة والتقليد الأعمى، فأصبحت تؤمر فتطيع، لا هم لها إلا لقمة العيش والتمتع بما أتيح لها من شهوات الدنيا، لا فرق بين حلال أو حرام ترضى بالضيم وتستنيم للاستعباد. ولقد انطبق هذا الوصف على أبناء الأمة الإسلامية الذين أضاعوا مجد آبائهم، فحق عليهم من ربهم الخزي والعار، إلا من شاء ربك ممن نذروا أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله وقليل ما هم.




السابق

الفهرس

التالي


14435039

عداد الصفحات العام

606

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م