﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(085)الجهاد في سبيل الله-الفرع التاسع من صفات القائد: تطبيق قاعدة الشورى

(085)الجهاد في سبيل الله-الفرع التاسع من صفات القائد: تطبيق قاعدة الشورى


الشورى قاعدة عظيمة من قواعد بناء الأمة الإسلامية واستمرار قوتها وتماسكها وهيبتها في نفوس أعدائها، وقد وصف الله بها عباده المؤمنين مقرونة بالتوكل وإقام الصلاة والإنفاق من رزق الله، واجتناب الكبائر والسيطرة على النفس عند الغضب بالعفو والصفح.



كما قال تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}[الشورى: 36 ـ 39].



وأمر الله سبحانه بها رسوله صَلى الله عليه وسلم، ولعل المتأمل في سياق الآية التي تضمنت هذا الأمر، يظهر له أن الشورى من صفات القائد الذي يلتف حوله جنوده ويحبونه ويطيعون أمره.



قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين}[آل عمران: 159].



تطبيق الرسول قاعدة الشورى في حربه


ولقد طبق رسول الله صَلى الله عليه وسلم هذه القاعدة العظيمة في الواقع، مع أصحابه رضِي الله عنهم في مواقف صعبة: مواقف مواجهة الأعداء التي يتقرر فيها المصير.

طبقها صَلى الله عليه وسلم في بدر، قبل خوض المعركة مع الأعداء الذين كان عددهم ثلاثة أضعاف عدد المسلمين وقد جاءه خبرهم.



قال ابن القيم رحمه الله: "ولما بلغ رسول الله صَلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانياً فتكلموا أيضاً وأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تعرض بنا؟ – وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم -.



فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم؟ وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب مما تركت، وما أمرت فيه من أمر، فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك.



وقال له المقداد: "لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه الرسول صَلى الله عليه وسلم، وسرَّ بما سمع من أصحابه وقال: (سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم)[زاد المعاد في هدي خير العباد(2/96)].



وكان لهذه الاستشارة من رسول الله صَلى الله عليه وسلم وهذه العواطف الجياشة من أصحابه رضوان الله عليهم، آثارهما العظيمة في سير المعركة بعد ذلك.



وطبق صَلى الله عليه وسلم هذه القاعدة العظيمة كذلك في أحد، قبل خروجه من المدينة، عندما استشار أصحابه أيخرج من المدينة للقاء المشركين في أحد أم يبقى ليقاتلهم الرجال إذا دخلوا في الشوارع ويقاتلهم النساء من فوق البيوت؟ وقدم رأي أغلب أصحابه على رأيه صَلى الله عليه وسلم.



[هكذا كنت أظن أن أغلب الصحابة كانوا يرون الخروج وكان ذلك اتباعاً لآراء بعض الكتاب، فلما رجعت إلى النصوص لم أجد ما يدل أن الأغلبية كانت ترى الخروج، وراجع ما توصلت إليه في رسالتي "الشورى"]



كما قال ابن القيم رحمه الله: "واستشار رسول الله صَلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإذا دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي.



فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، وتابعه عليه بعض الصحابة، فألح أولئك على رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك، وقالوا: أكرهنا رسول الله صَلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)[زاد المعاد(2/102)].



وطبقها صَلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فاستشار أصحابه في شأنهم وأشار سلمان بحفر الخندق فأمر به صَلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله: "فلما سمع رسول الله صَلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة، فأمر به رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه، وبادروا هجوم الكفار عليهم"[نفس المصدر السابق(2/131)].



وطبق رسول الله صَلى الله عليه وسلم هذه القاعدة العظيمة، في حنين عندما جاءته هوازن مسلمين وسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم، فخيرهم بين السبي أو المال فاختاروا السبي، فجمع صَلى الله عليه وسلم المسلمين، وطلب منهم أن يردوا لهوازن سبيهم طيبة به نفوسهم، فاستجابوا لطلبه، وخشي صلى لله عليه وسلم أن يكون في القوم من لم تطب نفسه بذلك لكثرتهم، فطلب منهم أن يعودوا إلى عرفائهم ويخبروهم بالإذن، والعرفاء يرفعون الأمر إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم.



كما في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم - وهو في البخاري وأبي داود - وفيه: "فقام رسول الله صَلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل…) فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم في ذلك: (إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا…"[البخاري رقم(4318) فتح الباري(8/32)].



وفي عدم اكتفاء الرسول صَلى الله عليه وسلم بالإذن العام من الأغلبية، خشية أن يكون في المسلمين من لم يأذن، توسيع دائرة المشورة ما أمكن، كما أن في أمر الناس برجوعهم إلى عرفائهم إظهار إكرامه إياهم واحترامهم، وجعلهم يشاركون الرسول صَلى الله عليه وسلم في رأيه، وهو أسلوب يأخذ بألباب كبار قادة الجيش ويزيدهم حباً وطاعة لقائدهم الأعلى.



وطبق أصحاب الرسول قاعدة الشورى


ولقد اقتفى أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم أثره في تطبيق قاعدة الشورى في أمورهم اقتداء به، وتحقيقاً لصفة من صفات المؤمنين{وأمرهم شورى بينهم}[الشورى: 38].



ولعل مثالاً واحداً يكفي لإثبات ذلك عنهم رضيَ الله عنهم، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوارد في شأن استشارة عمر رضيَ الله عنه الصحابة، في أن يقدم بأصحابه على وباء الطاعون بالشام أو يعيدهم من الطريق، خشية أن يصيبهم هذا الوباء، وفيه ظهرت الشورى في أعلى صورها بعد رسول الله صَلى الله عليه وسلم.

قوم يرون الإقدام، وآخرون يرون الإحجام، وكل يدلي برأيه ويحتج له، وقد أخذ عمر برأي من أشار بالرجوع، قبل أن يسعفه أحد الصحابة بنص قاطع يوافق رأي عمر ومن معه.



وهذا نص الحديث: "إن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرع لقيه أهل الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم قد خرجت لأمر لا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، لا نرى أن تقدمهم هذا الوباء، فقال: ارتفعوا قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني.



ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! (وكان عمر يكره خلافه) نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟



قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صَلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)[مسلم(3/1740)].



تأمَّل هذا المؤتمر العظيم الذي عقده عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه، حرصاً على نفوس أصحابه من جهة وعلى الوصول إلى الحق أهو في الإقدام أم في الإحجام من جهة أخرى، وتأمل تلك الأفواج وهي تفد على الخليفة مبدية، آراءها بكامل حريتها، ويختلف المؤتمرون أمامه وهو يسمع آراءهم وحججهم، ثم يبدي رأيه بعد أن يسمع رأي الفوج الأخير الذي لم يختلف عليه، ويقف من رأي المخالف بعد ذلك موقفاً جازماً لا هوادة فيه ولكنه مدعم بالحجة والقياس.


مسوغات مشاورة القائد لجنده


إن القائد المسلم الذي يكون تواقاً إلى معرفة الحق وما فيه المصلحة، يلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم مع الحجج والأدلة، ويسمع آراءهم ويقلب وجهات نظرهم طمعاً في الوصول إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين، وحباً لإشراك جيشه في تقرير الرأي الأخير الذي لا يتحمل مسؤوليته وحده، بل كلهم يتحملونها، وهم الذين يباشرون تنفيذها، واشتراكهم في تقرير الرأي يجعلهم متحمسين له ينفذونه عن قناعة، وإذا حصل خطأ لم يتبرموا منه، لأنهم شاركوا فيه فهو رأي جماعي وليس رأيا لفرد.



والقائد المسلم يشرك جنده في أموره، لأنه شديد الرغبة في اكتشاف المواهب والطاقات في جنوده، ليضع أمام عينه رجال المسؤولية الكبرى عن تجربة واختبار، ويتبع ذلك بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعد أن عرفه معرفة تامة ودربه على اكتساب الخبرات التي تهيئه للقيادة مستقبلاً".[راجع المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية للواء محمد جمال الدين محفوظ ص 336 وما بعدها].



أثر الاستبداد وترك الشورى


أما القائد الذي يكره الشورى ويتهرب منها، ولا يعرض آراءه على جنده لمناقشتها، بل يأمر وينهى ويقدم ويحجم مستقلاً برأيه عنهم، فإنه قائد أناني مستبد مغرور بآرائه أو يعرف أنها آراء غير سديدة تفتقر إلى الدربة والخبرة، لذلك يحاول أن يغطي جهله ونقصه بالتكبر على الآخرين وإلزامهم بتنفيذ أوامره دون جدال أو نقاش، خشية أن يفضحوه أمام أتباعه فيفقد هيبته التي يظن أنها ستبقى بسلوكه ذاك وما هي بباقية.



ومثل هذا القائد الأناني الواضحة أنانيته، قائد آخر يجمع حوله الأوباش المنتفعين من جنده، ممن لا إخلاص عندهم لله ولا وفاء لأمتهم ولا أمانة لعملهم، فيتفقون معه في كل شيء يجري على لسانه بدون تفكير ولا نقاش، وأمثال هؤلاء الذين يوافقون القائد مطلقاً، لا هم لهم إلا نفع أنفسهم بتقربهم إلى قائدهم وإظهارهم أنهم أوفياء له مخلصون وأنهم يثقون بكل آرائه السديدة.



قال محمود بابللي: "وليعلم أن من يوافق دائما، لا يرجو إلا نفع نفسه، ويحسب أن ذلك يدل على إخلاصه، وما هو بمخلص لمن يردد له الموافقة، إنما هو ممالئ مخادع"[الشورى في الإسلام ص 28].



نعم إنه ممالئ مخادع، وقائده الذي يركن إليه مثله ممالئ مخادع، وبتأمل حالة الجيوش في الشعوب الإسلامية اليوم يجد أكثرها وأكثر قوادها من هذا الصنف، لا بل من الصنف الأول، إنهم قادة متكبرون مستبدون، لا وزن لجيوشهم عندهم، وجيوشا خاضعين خائفين ينفذون أوامر قادتهم مكرهين، وهذا ما جعل التنافر والبغضاء يسودان بين القادة وجنودهم وبين الجنود بعضهم مع بعض، والخاسر هم الشعوب المستضعفة الذين يعلمون أن جيوشهم ما حملت السلاح - في الغالب - إلا لقهرهم وخضوعهم لأولئك القادة الطامعين في السيطرة والعلو والإفساد في الأرض.



وكثير من أولئك القادة يوهمون جنودهم وشعوبهم بأنهم قادة ملهمون، لا حاجة بهم إلى استشارة أحد، لأنهم ذوو عقول كبيرة وتجارب طويلة، وقراراتهم لا يعتريها الخطأ، ولذلك يسوقون جنودهم كما يسوق الراعي شياهه. وهل تستحق الشياه أن يستشيرها الراعي؟.



وبسبب ذلك أصيب كثير من الشعوب الإسلامية بكوارث عسكرية مدمرة، حيث يؤمر جيوشها بشن الحروب على شعوب مسلمة بدون أي مسوغ، فإذا شلت قوة تلك الجيوش وتحطمت معنوياتها، غزا العدو الحقيقي أرضها وهزمها شر هزيمة، وما ذلك إلا لغياب الشورى التي هي إحدى القواعد الإسلامية المتينة التي تحول بين القائد المتهور وبين إلقاء جيوشه وشعبه في التهلكة.



ولو كان أحد في الأرض مستغنياً عن مشورة أتباعه وعرض رأيه عليهم لتمحيصه، لكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم أولى بالاستغناء عن مشاورة أصحابه، لأنه رسول الله، والله يسدده وينزل عليه الوحي يوجهه إلى الصراط المستقيم.



قال ابن تيمية رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صَلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.[آل عمران: 159]. وقد روي عن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال: "لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله أمر بها نبيه، لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك، فغيره صَلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة"[مجموع الفتاوى(28/386)، وحديث أبي هريرة في صحيح ابن حبان، برقم (4872) وسنن البيهقي الكبرى، برقم (13082) وذكره الشافعي في الأم (7/95)].



وقال سيد قطب رحمه الله: "كان الإسلام ينشىء أمة ويربيها ويعدها للقيادة الراشدة، فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول صَلى الله عليه وسلم وبإشرافه، ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً، في أخطر الشؤون - كمعركة أحد - التي تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب، ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة[فكيف بالضالة الفاسدة] في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد صَلى الله عليه وسلم، ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى، كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى، وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة، ولكن وجود محمد صَلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق، لأن الله سبحانه يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكن النتائج ومهما تكن الأخطار المحيطة، لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..}".[في ظلال القرآن(4/502)، الآية من آل عمران: 159].


الجد في الشورى


ويجب أن يكون القائد جاداً في المشاورة، آخذاً بما بان له من حق، سواء أكان ظهور هذا الحق آتياً من نص من كتاب الله أو سنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، أو من رأي صائب يكون أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى المصلحة.



قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله وسنة ورسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيماً في الدين والدنيا، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[النساء: 59]. وإن كان أمراً قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: في الآية نفسها: {فإن تنازعتُم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيرُ وأحسن تأويلا}.[مجموع الفتاوى(28/387)].



لذلك يجب على القائد أن يشاور ذوي الرأي من علماء الشريعة الإسلامية، وذوي الخبرة في أي أمر يتعلق بقيادته وعمله، ولا بد أن يكونوا أمناء حريصين على مصلحة المسلمين، وهؤلاء هم أولو الأمر الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم بعد طاعة الله ورسوله. قال ابن تيمية: "وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس"[مجموع الفتاوى(28/388)].



وقال ابن قدامة: "ويُكثر المشاورة لذوي الرأي من أصحابه، فإن الله تعالى قال: {وشاورهم في الأمر}".[المغني(9/215)].



وبناء على ذلك ليس من حق القائد - ولا ينبغي له - أن يشاور من لا علم له، ولا خبرة ولا حرص على مصالح المسلمين، ولو كثر هذا الصنف من الناس، فإن العبرة ليست بالكثرة وإنما بالمصالح العائدة على المسلمين، وهذا الصنف [الكثرة الجاهلة فاقدة الخبرة] لا يشير غالباً إلا بما يهواه أو يهواه عامة الناس أو يهواه القائد مما قد يكون فيه مضرة لا مصلحة.



قال البخاري رحمه الله: "وكانت الأئمة رحمهم الله بعد النبي صَلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم"[البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}{وشاورهم في الأمر}، فتح الباري(13/339)].



وقال الحافظ رحمه الله: "وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق، إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صَلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم، وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك"[فتح الباري(13/342)].



هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما قرره أهل الحل والعقد، ممن تتوافر فيهم شروط الشورى في أمر المسلمين مما لا يوجد عندهم فيه نص - في أصل الأمر أو في تطبيقه - يلزم ولي الأمر الأخذ به وعدم تجاوزه إلى غيره، إلا إذا كانت عنده حجة من نص القرآن أو السنة، أو قاعدة شرعية مقنعة، كما فعل أبو بكر في إنفاذ جيش أسامة، وفي حروب الردة، وكما فعل عمر رَضي الله عنه في سواد العراق، فقد خالف بذلك أهل الشورى، وهو من باب إقامة الحجة، وليس من باب كون الأخذ برأي أهل الحل والعقد غير ملزم، وقد فصلت هذا الموضوع في كتاب الشورى.



وسيرة الرسول صَلى الله عليه وسلم المبينة للأمر بالشورى في كتاب الله تدل على هذا المعنى، فإنه صَلى الله عليه وسلم لم يكن يلزم أصحابه برأيه، إلا إذا صدر عن وحي، أما ما لا وحي فيه، فإنه كان يأخذ برأي الأغلب من صحابته وأهل شوراه.



والذين يدعون أن الأمير أو القائد، غير ملزم برأي الأغلب من أهل الشورى فيما لا نص فيه، دعواهم ضعيفة أمام ما ذكر من الحوادث في عهد رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وفي عهد أصحابه رضوان الله عليهم، وما ظنه هؤلاء دليلاً لهم على عدم الإلزام مثل موقف أبي بكر رَضي الله عنه من إنفاذ جيش أسامة وحروب الردة، ليس فيه دِلالة على ما ظنوا، فإن أبا بكر احتج على الصحابة بعقد الرسول صَلى الله عليه وسلم اللواء لأسامة، وأقام عليهم الحجة في حروب الردة، حتى شرح الله صدر المعارضين لرأيه فوافقوه وأصبح الرأي واحداً في الحادثتين.



وكذلك عمر رضيَ الله عنه أقنعهم في بقاء سواد العراق، لما فيه من الفائدة التي تعود على المسلمين في تلك الديار التي يجب أن يستوطنوها هم وذراريهم لإقامة الدين فيها، وإذا قسمت الأرض بين الفاتحين، لم يبق لمن بعدهم مصدر رزق ينفقون على أنفسهم منه، فوَقفُ تلك الأرض اقتضته المصلحة العامة من هذا الوجه، ولو فرض أن في هذه القصة وما أشبهها دليلاً لما ذهب إليه من لا يلزمون الأمير برأي الأغلب من أهل شوراه، فالواجب أن يعلم أن قائد المسلمين الذي يكون له الحق في اتخاذ الرأي الذي لا نص فيه، ولو خالف أهل الشورى، هو من توافرت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في أصول الفقه وفي باب الخلافة، ولا يجوز قطعاً أن يحكم بذلك لقائد لا تتوافر فيه شروط الاجتهاد.



والمعروف أن خلفاء المسلمين وأمراءهم في القرون المفضلة، كانوا أئمة في العلم كما أنهم أئمة في إدارة أمور الخلافة.



وينبغي أن يستثنى هنا حالة التحام المسلمين بعدوهم في الحرب، إذا طرأ طارئ يصعب فيه التشاور، لضيق الوقت وخشية غلبة المسلمين من قبل عدوهم، فإن للقائد اتخاذ ما يراه مناسباً إذا كان كفؤاً، دون الرجوع إلى أهل الشورى، كما فعل خالد بن الوليد في غزوة مؤتة، حيث تولى الإمرة بنفسه وتصرف دون الرجوع إلى أصحابه[للمؤلف بحث بعنوان "الشورى" وهو مطبوع، وقد بدت له آراء في الإلزام وعدمه قد تخالف آراءه هنا].





السابق

الفهرس

التالي


15331987

عداد الصفحات العام

44

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م