﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(40) حوار مع البروفسور رجاء جارودي.

(40) حوار مع البروفسور رجاء جارودي.
[باريس الأربعاء 23/1/1408هـ].
اتصل الأخ الدكتور عبد الرحمن بافضل اليمني، بالأستاذ رجاء جارودي يوم الإثنين ليحدد لي معه موعداً، فقال له: اتصل بي غداً الثلاثاء لأخبرك بالموعد..
واتصل به أمس الثلاثاء فحدد له اللقاء اليوم الأربعاء، ما بين الساعة الخامسة والسادسة مساء، وعين لنا مقهى من المقاهي نلتقي فيه..
فقلت للأخ عبد الرحمن: المقهى لا يصلح لهذا اللقاء، لأنه سيكون فيه ضوضاء، فلا نتمكن من أخذ المعلومات والمناقشة كما ينبغي، وقد أضطر إلى أن أسجل المقابلة في شريط لأستطيع نقل الكلام بالنص، وإن كانت كتابتي والحمد الله، تمكنني من ذلك في حينه تقريباً، فإذا أمكن أن يأتينا إلى الفندق ونقعد في غرفتي فهو أفضل، فاتصل به وأخبره بذلك فوافق.
وفي الساعة الخامسة والربع وصل الأستاذ رجاء جارودي إلى الفندق.
اللهم سلم!
استقبلناه في قاعة الانتظار في فندق "أركيد"
فجلست أنا وهو في الغرفة، ونزل الأخ عبد الرحمن لإحضار القهوة والشاي، وكان جارودي قاعداً على الكرسي، والجو في هذا اليوم كان صحواً، وفيه شيء من الحرارة، والغرفة ليست واسعة ومكيفها بخيل، وأشعة الشمس تتخلل النافذة.
فرأيت جارودي يفتح ربطة عنقه، ثم نزع معطفه (الكوت) وعلقه، وأخذ ينفخ، ثم استأذن ليستلقي على السرير، وسمعته وهو يقول: مشكلة.. باللغة الإنجليزية، ووضع يده على رأسه وهو ينفخ، فساورني الخوف، وخشيت أن يكون ملك الموت قد حضر لينقله من دار الدنيا إلى دار الآخرة [التي عرفت فيما بعد أن جارودي لا يؤمن بها].
وإذا قدر الله ذلك ففارق الحياة في غرفتي، وقد جاء في هذه اللحظات، فماذا ستقول سلطات الأمن في باريس عن هذا الحدث، وبخاصة أن المشكلات التي تسمى بالإرهابية على أشدها في فرنسا..
فدعوت الله في نفسي ولجأت إليه مكرراً: اللهم سلم، اللهم سلم!.
وكنت أسارقه النظر إلى وجهه وهو مغمض عينيه، وفي بعض الأوقات يفتح عينيه ويبتسم، والرجل لا يفهم لغتي ولا أفهم لغته، ولكني كنت أفهم أنه متعب، وهو يفهم أني قلق مما يجري له، على حد قول الشاعر في الحمامة التي كانت تغرد عنده حزينة، وهو يبكي كذلك حزيناً:
[sh]
ولقد تشكو فما أفهما=ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالْجَوى أعرفها=وهي أيضاً بالجوى تعرفني
[/sh]
واستبطأت صاحبي - عبد الرحمن - وفتحت باب بالغرفة والنافذة ليدخل الهواء، والتفت جارودي إليَّ، وأشار إلى بيت الخلاء فدخل وأخذ غَرفة من الماء ومسح بها وجهه ورأسه، وابتسم ثم استلقى مرة أخرى على السرير..
وجاء صاحبي بالعصير والقهوة فاستقبلته في الباب وقلت له – مخافتاً: الرجل متعب.
فصب العصير في الكأس وناول جارودي وتحرك جارودي على جنبه وتناول العصير وشرب...
ثم قال - وهو مستلق -: هات ما عندك من الأسئلة!
فتنفست الصعداء وحمدت الله على سلامته أولاً، ثم بدأت أسأله بعض الأسئلة، فلم يجب في حينه على كثير منها، وإنما أحالني إلى بعض مذكرات سلمها لي وقال: إن الأجوبة على هذه الأسئلة موجودة في هذه الأوراق.
وهي باللغة الفرنسية، وإذا وجدت من يترجمها لي بدقة فسأكتب منها فيما بعد ما أراه مناسباً لأسئلتي، والآن أكتب ما قاله حرفياً..

الكاتب وعلى يمينه البروفيسور رجاء جارودي في في فندق "أركيد" (ARCADE) بباريس
قلت له: ما الأسلوب الذي تقترحه لعرض الإسلام في أوروبا؟.
ناولني المذكرة الأولى، وقال: هذا جواب سؤالك بالضبط عن الطريقة التي ينبغي عرض الإسلام بها في أوروبا، كما أردت.
السؤال الثاني: هل يمكن أن يستمر الغرب في منح الحرية الموجودة الآن للمسلمين في نشر دينهم، ولو رأى الإسلام ينتشر بكثرة في الغرب؟.
فأجاب: هذا من الخيال أن تظن أن الغربيين سيدخلون في الإسلام بأعداد كبيرة، ولكن العقبة الرئيسية في طريق انتشار الإسلام وفهم الناس له هو إعطاء صورة مشوهة للإسلام، والصورة المشوهة هذه تأتي من جانبين: من جانب أعداء الإسلام، ومن جانب أصحابنا، يعني المسلمين.
والغريب في القضية أن الذين يتكلمون عن الإسلام هنا، يأتون من الشرق وهم لا يفهمون مشكلاتنا، ولا يستطيعون الإجابة عن الأسئلة التي تثار هنا ويمكن أعطي مثالاً على هذا..
عندما جاء شيخ الأزهر - جاد الحق - إلى هنا، وتحدث في التلفزيون، أساء إلى الإسلام في عشر دقائق، أكثر مما فعل أعداء الإسلام في سنوات طويلة، ولو أراد أن يخدم الإسلام لبقي هناك وما جاء يتحدث عنه هنا.
[الرجل الآن يرى أن علماء المسلمين لا يفقهون مشكلات الغرب حتى يتمكنوا من معالجتها - هكذا يظهر - ولكنه مغرور بنفسه ويرى نفسه أكثر أهلية من الذين تفقهوا في الدين وتخصصوا فيه وبخاصة في أصول الإيمان كما سيأتي].
قلت له: ما صفات الداعية المسلم الذي يمكن أن يؤثر في الغرب؟.
فقال: أولاً قبل أن يتحدث عن الإسلام هنا، يجب أن نسمع ماذا يقول الناس.
توجد مشكلات واضحة تنتظر حلولاً، مثل القنبلة الذرية وقنبلة هيروشيما التي قتلت سبعين ألفاً في لحظات، ليست شيئاً بجانب ما هو موجود الآن، فعندنا اليوم في العالم ما يعادل مليون قنبلة من قنابل هيروشيما، هذه أول مشكلة.
وفي مجال الأحياء والبيولوجيا يستطيعون أن يلعبوا بالجينات، حتى يحولوا الإنسان إلى عملاق وحش.
ومن المشكلات الموجودة - هنا في الغرب - وجود مخزون من اللحوم ومن الزبدة، تصرف على حفظها مليارات من أجل تخزينها في المستودعات والثلاجات، في وقتٍ مات فيه من الجوع في سنة واحدة فقط - العام الماضي - أربعة وثمانون مليون شخص بسبب الجوع.
قال: وماذا عن مشكلات ديون العالم الثالث؟.
لو حددنا هذه الديون المطلوب دفعها للغرب وما تبعها من فوائد وأرباح، لم يبق للعالم الثالث شيء يقتات منه، وكان مصيرهم الموت، والعالم الغربي قائم على هذه الديون لا يقدر أن يعيش بدونها.
هذه ثلاثة أمثلة من المشكلات نريد لها حلاً.
قلت: هل فرغت من الإجابة عن صفات الداعية - لأنه لم يذكر إلا صفة واحدة، وهي أن يعرف ما عند الناس من مشكلات ويذكر لها الحلول.
فقال: هذه الأمثلة من المشكلات، الذي يأتي لها بحل هو الذي ينفع في أوروبا وليكن من يكون: عربي، صيني، أوروبي، فلا بد من معرفة المشكلات أولاً ثم إيجاد الحل.
قلت: هل وجدت من خلال دراستك للإسلام حلاً فيه لهذه المشكلات؟.
قال: ليس هناك معجزات في يدي لحل هذه المشكلات، وليس مشكلة الحل آتية من قبل الإسلام، الإسلام موجود، ولكن المشكلة تأتي من قبل المسلمين الذين لا يفكرون في حل المشكلات.
وضرب لذلك مثالاً فقال:
أبو حنيفة أوجد جواباً لسؤال وهو كيف يعيش المسلم في مجتمع يختلف تماماً عن مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية، كانت الدولة الفارسية قوية جداً قبل الإسلام، وكانت هناك تجارة وتبادل عملات وهناك ثقافة قديمة عتيقة قبل الرومان واليونان، كل ذلك ما كان موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاد العربية.
[قصده من هذا أن المسلمين لم يكونوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفون حضارة الفرس والروم، ولكنهم عندما فتحوا الدولتين لم يقفوا عاجزين عن حل المشكلات واستوعبوا تلك الحضارة على ضوء الإسلام، بخلاف المسلمين اليوم فإنهم عاجزون عن ذلك].
والإجابة في عصرنا هذا لم نجدها عند أبي حنيفة، ولكنا نستفيد من الطريقة التي استعملها لحل مشكلات المسلمين عندما يعيشون في أجواء غير أجواء المدينة، كحالتنا في أوروبا مثلاً، لا يوجد جواب جاهز أعطيك إياه.
قلت له: ألا ترى أن هذه المشكلات كلها لا يمكن حلها عن طريق الإسلام، إلا بعد الإيمان به مبدئياً، حتى يأتمر الناس بعد ذلك عن اقتناع بأوامره، ويجتنبوا نواهيه، والإسلام لا يوجد خير إلا دل عليه ولا شر إلا حذر منه؟.
قال: أنا معك أن الإيمان هو البداية، لكن هذا لا يمنع أنك تدرس الواقع وتوجد الحلول، والقرآن عندما أقرأه أجد فيه كلمة التفكر وما يتبعها أكثر من (830 مرة).
وعندما انتشر الإسلام بسرعة في القرن الأول، كان عندهم إيمان وعندهم تفكر، يفكرون جيداً ولا يقولون - مثل المسلمين اليوم -: نحن نعرف كل شيء وعندنا الحل لكل شيء، وليس عندهم شيء. وضرب مثالاً، فقال:
بعد ثلاثة قرون من الصدر الأول أتى ابن حزم، ووضع كتاباً لمقارنة تاريخ الأديان من أجل أن يظهر للناس أن الإسلام هو أحسن الأديان الموجودة ودرس الأديان الأخرى، وقرأ الإنجيل بعمق وتفصيل لكل دقائقه وهضمها ثم رد عليها.
واليوم مع الأسف الشديد لم أجد عالماً نهج هذا المنهج، فلا بد من التفكير والبحث.
قلت: هل تري موضوعات معينة درستها في الإسلام ينبغي أن تطرق قبل غيرها وتنشر في العالم؟.
قال: من الغباء أن نقول: إن العلوم كلها في القرآن وإننا بقراءة القرآن تتقدم العلوم، لأن القرآن جاء ليحدد طريق الإنسان ومنهجه، ولم يأت بالعلوم التي يبحث الناس عنها الآن، جاء ليرينا الهدف، وعَيَّن الله عزَّ وجل الإنسان خليفة في الأرض، وبعد أن عرف الإنسان هدفه عليه أن يعمل حتى يثبت مقدرته على أن يكون خليفة..
وقد قال عمر بن الخطاب: لو عثرت بغلة في العراق لكنت مسؤولاً عنها أمام الله لِمَ لَمْ أمهد لها الطريق؟ والآن عندنا مشكلات أكثر من البغال، ولم نوجد لها حلولاً.
قلت: نرى الإسلام ينتشر ويدخل الناس فيه كثيراً في أماكن كثيرة من العالم، ما عدا أوروبا وأمريكا واليابان، فإن الداخلين في الإسلام في هذه البلدان قليلون - ما عدا الملونين في أمريكا مثلاً - فما السبب الذي تراه؟.
فقال: لأنه لا توجد أجوبة لحل المشكلات الموجودة، ولا أعتقد أن الإسلام ينتشر في البلدان الأخرى بمعنى الكلمة، يقول الإنسان: إنه مسلم ينطق بالشهادة ويحمل ورقة تثبت له أنه أسلم ويذهب إلى المسجد، ولكنه لا يفهم شيئاً ولا يغير إيمانه وإسلامه من حياته شيئاً.
ففي إفريقيا دخل كثير من الناس في الإسلام، ولكن لم يتغير شيء من حياتهم وواقعهم.
قال: وأضرب لك مثال الجالية الإسلامية في الهند [يبدو أنه أراد الأقلية، لأن المسلمين الهنود ليسوا بجاليات وإنما هم هنود أصلاً] دعوني ووجدت أنهم يجهلون تماماً حضارة الهندوس، وعقيدتهم، وكنا كأنا في وسط ناس متوحشين رغم أن الهند قلعة الروحيات القديمة، وهذا ما فهمه إقبال، ولكن المسلمين اليوم قطعوا أنفسهم عما حولهم.
قلت: ماذا تتوقع مستقبلاً للإسلام في بلاد المسلمين وفي العالم كله؟.
قال: الإسلام هو القرآن بالدرجة الأولى، حدد لنا الهدف وعلينا أن نعمل ونوجد الوسائل التي تحقق الهدف.
وضرب مثالاً من الهند مرة أخرى، قال:
بعد وفاة غاندي الذي حكم الهند جاء بعده نهرو، وأحب أن يقلد الغرب في منهجه، فأنشأ برلماناً على الطريقة الإنجليزية، وقرر أن يخطط في تنفيذ سياسته على الطريقة السوفيتية، ولم يكن هذا حلاً لمشكلات الهند..
فما الذي اقترحه المسلمون من حل لمشكلات الهند؟ لا شيء، صراع مع الهندوس دائماً بلا نتيجة، في كلكتا الصراع مستمر ودائم بين المسلمين والهندوس.
[المسلمون في الهند - وفي غير الهند - لا يدعهم الكفار يطبقون دينهم في شؤونهم الاجتماعية الخاصة بهم، فكيف يتوقع أن يقبلوا منهم اقتراحات حلول سياسية واقتصادية، والإسلام عدوهم اللدود؟!. بل كافح رجال الدعوة المفكرون لتطبيق الإسلام وإيجاد الحلول في بلاد المسلمين فحوربوا، ومن أقطابهم الأستاذ حسن البنا في مصر والأستاذ المودودي في باكستان والأستاذ الندوي في الهند].
قلت: هل يمكن أن يستفيد المسلمون من الإمكانات القانونية والحرية الموجودة في الغرب حسب دعوى الغربيين، لنشر المسلمين دينهم؟.
قال: ليس في الغرب حرية، هنا حرية الفلوس، حرية الثعلب الموضوع في صحن للشواء، يقفز منه، وللأسف الشديد أن الدول الإسلامية لا تعطي مثلاً طيباً ولا توجد في بلادهم حرية!.
قلت له: ما رأيكم في مناهج المؤسسات الإسلامية للدعوة الإسلامية، هل يمكن أن يتحقق بها انتشار الإسلام؟.
قال: أرى أنها طرق سيئة جداً.
قلت: كيف؟.
قال: أعطيك مثالاً: في العالم مساجد جميلة أقامها المسلمون وأصبح التفكير عند المسلمين هو بناء المساجد قبل أن يوجدوا مسلمين ويربوهم، وأراهم دائماً ينشئون مساجد، ولكن لم أر مساجد أخرجت مسلمين، والأصل أن توجد المسلمين ثم تبني المساجد، وجنيف بها مسجد ضخم مزين بالرخام، ولكن لم أر مسلماً واحدا أصلحه هذا المسجد، ونفس الشيء في روما، فلوس تصرف إسرافاً ولا توجد جدوى من صرفها.
[المسلمون وإن كانوا مقصرين لهم جهود لا ينبغي إنكارها، والرجل يبالغ في جحدها]
وقبل أن تعطي الناس دروساً تعطيهم مثالاً لما تريد أن تقول.
مثال ذلك: قرطبة فيها أحسن المساجد، وعلى مسافة مائة وخمسين كيلومتر توجد مغبية ـ مدينة أسبانية ـ يوجد بها كثير من المسلمين الذين عندهم مليارات من الأموال وهم يعطون مثالاً سيئاً.
وأنا أتحدث عن الإسلام في قرطبة والناس يقولون لي: انظر إلى المسلمين في مغبية، كيف يتصرفون وفي ماذا ينفقون الملايين؟
وهذا من العوائق الكبرى في طريق الدعوة إلى الإسلام.
قلت: ما الذي تقترحه لتربية المسلم الصادق؟
قال: علينا أن نعمل مع الذين حولنا [يعني كل قوم أو كل فرد يدعو إلى الإسلام في موقعه] مسلمو الهند يعملون مع الهندوس، ومسلمو أمريكا يعملون مع الأمريكان، ومسلمو فرنسا يعملون مع الفرنسيين، كل ناس في بلدهم يعملون مع من حولهم.
ويجب أولاً أن نهضم ما عند الآخرين، ونعرف فكرهم وعقيدتهم، وسلوكهم وطريقتهم في الحياة، ونفهم كتبهم، ومنهجهم.
وبعد أن نفهم ذلك جيداً يكون كلامنا معهم مبنياً على مسائل عرفناها.
ثم تحدث جارودي عن الحوار الإبراهيمي الذي يقوم به في قرطبة وجنيف وباريس.
ولم أتمكن من أخذ معلومات عن هذا الحوار وما يجري فيه؟ وما الهدف منه؟ ومن أعضاؤه؟ لضيق الوقت.
ومما قاله في ذلك: إن أحد الآباء حضر هذا الحوار، وهو من أمريكا اللاتينية، ومن الذين أعطوا مثالاً في الدفاع عن الحريات، ولا أحد من المسلمين يعرف هذا الآب، ودوره في الحريات في أمريكا اللاتينية على الرغم من أنه سيحول أمريكا اللاتينية، إذ سيتبعه الكثير من الناس والمسلمون لا يعرفون ماذا يفعل.
وسألته: هل الغالب في أهل الغرب التماسك الأسري والاجتماعي أو التفكك؟.
قال: انحلال كامل وتفكك كامل، ولا هدف ولا غاية وراء تلك المؤسسات الموجهة، حتى الثقافية منها..
والمفكر الكبير: كامون يقول: إن العالم ما عنده معنى ولا هدف..
[وقال المترجم: إن البروفسور المشهور بوديه، وهو طبيب رئيس قسم، سألناه: ما رأيك في الحياة؟، قال: الحياة بالنسبة لي فوضى، مثل امرأة مومس، فالغربيون ليس عندهم غاية ولا هدف].
ثم قال جارودي: المشكلة أن أهل الغرب عندهم الوسائل المادية والتكنيك والأشياء التي تخدم الإنسان مادياً، ولكن ليس عندهم غاية، وفي الشق الثاني ناس عندهم غاية صحيحة، ولكن لا يفكرون ولا يعملون - يقصد المسلمين -..
وقال: إن بعض المسلمين الذين عندهم غنى يصلون في المسجد، لكن حياتهم مثل حياة الغربيين أنفسهم، يقلدونهم في كل شيء، ويقولون: نحن مسلمون، وأنا أسميهم غربيين يصلون في المسجد.
قلت له: ما الأمور الجوهرية التي رأيت الإسلام يتميز بها عن سائر الأديان في الأرض؟.
قال: أنا لا أقول بهذا المنطق، وإنما أقول: إن الله عز وجل ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، وإنما بعثه الله لثلاثة أشياء:
-لتأكيد هذه الرسالة الربانية..
-ولتصحيحها وتصحيح مسارها..
-ولإكمالها..
هذه الأمور الثلاثة التي بعثه الله من أجلها، وواضح من نصوص القرآن أن الإسلام لم يبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بآدم عليه السلام.
قلت: يبدو أنه فهم مني أني لم أعتقد أن الرسالة بدأت من عهد آدم عليه السلام، وذلك بالهدى الذي علمه آدم وآدم علم ذريته..
أنا لم أقصد ذلك، بل الأنبياء والرسل كلهم كانوا على الدين الذي أراده الله منهم، والقرآن مليء بقصص الأنبياء والرسل السابقين، لمحمد صلى الله عليه وسلم من لدن آدم إلى عيسى عليه السلام..
ولكن الكتب التي نزلت قبل القرآن حرفت وبدلت، ولم يبق إلا القرآن وحياً يتلى من عند الله.
فما الفرق الجوهري الذي رآه بين القرآن وبين تلك الكتب المحرفة؟ وما اشتملت عليه؟
قال: إن الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها مبنية على الإيمان في الإسلام، بخلاف الأديان، فقد انفصلت حياة الناس ونظمهم عن الدين.
قلت: تعني أن الإسلام شامل لحياة البشر كلها.. بخلاف الأديان الأخرى؟
قال: نعم، وينبغي أن نهتم في مخاطبة أهل الأديان الأخرى بالأشياء المشتركة بيننا وبينهم، ونذكرهم بها.. ولا نهتم بنقاط الخلاف، فمن التسمية نفسها نقول: إن إبراهيم كان مسلماً، وعيسى كان مسلماً.. وموسى كان مسلماً..
الإسلام ليس لنا وحدنا.. الإسلام هو الخضوع والذل لله.. فالمعنى يشملنا ويشمل من قبلنا.. ولهذا يجب أن نهتم بهذه المعاني التي جاء بها القرآن.
قلت: لكن عندما نهتم بهذه المعاني هم لا يتركوننا.. فإذا قلنا إن الله واحد، وهذا هو أساس الإيمان، لا يسلمون بذلك.. فلا بد من الخلاف في أمر جوهري في أول نقطة ننطلق منها نحن وهم.. فماذا نصنع في هذه الحالة؟
قال: هذه مشكلة غير حقيقية.. وليست صحيحة.. لأنهم جاؤوا بها من الفلسفة اليونانية، فقالوا: إن الله ثلاثة، فأدخلوها في الدين وهي ليست منه، فلماذا نناقش في قضية ليس لها معنى؟
[هوَّن جارودي هذا الأمر، وهو الأساس الأول بيننا وبين النصارى، ونحن لا نشك أنه عقيدة يونانية، ولكن القوم يعتقدون أن ذلك هو دين عيسى عليه السلام، ولهذا أبرز القرآن هذا المعنى وأقام الحجج على النصارى في رده ونقضه، ومن المستحيل أن يترك المسلم هذا المبدأ بدون نقضه، كما أن النصارى لا يمكن أن يتركوه إلا من أسلم منهم أو كان على مذهب يخالفه].
قال جارودي: وعندما نذكر المسيحيين، ونقول لهم: ان القرآن الكريم ذكر سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه نبي خلقه الله في بطن مريم العذراء، وأنه جاء منها بمعجزة إلهية من غير أب، فسيسرون بذلك، فلماذا نحن نهتم بالأمور الخلافية؟.
لماذا انتشر الإسلام في أسبانيا – مثلاً؟ أسبانيا قبل أن يأتي الإسلام إليها، كان فيها من يقول بالعقيدة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وهي أن عيسى عليه السلام كان نبياً ورسولاً ولم يكن ابن الله وكان غيرهم يقول غير ذلك..
فلما جاء المسلمون وأكدوا هذا المعنى، دخل الإسبانيون في الإسلام، وقالوا: نحن نعتقد هذا الدين أصلاً، وهو أن المسيح رسول الله وليس ابن الله.
وهذه المشكلة عند عدد محدود من النصارى، يمكن أن يكونوا خمسين شخصاً من المفكرين الدينيين يقولون بأن الله ثلاثة، هؤلاء نتركهم، ونبحث مع آخرين..
عندما وصل المغول إلى الدولة البيزنطية قتلوا أهل مدينة بيزنطة كلها ورجال الدين يناقشون قضية الملائكة: هل هم ذكور أو إناث؟.
[أسفت أنني نسيت أن أسأل جارودي. هل يؤمن بالملائكة أو لا؟ فقد بلغني أنه لا يؤمن بالملائكة ولا باليوم الآخر، وقد ناقشته في الإيمان باليوم الآخر واتضح أنه لا يؤمن به كما سيأتي في هذه المقابلة].
والآن وضعنا أسوأ من وضع أولئك، عندنا مشكلات في العالم لا نهتم بحلها، ونناقش في أمور غيرها ليست ذات بال.
توجد نار مشتعلة ينبغي أن نقول للمسيحي: تعال نتعاون على إطفاء النار وبعد ذلك نتناقش في الأمور الأخرى.
قلت له: سمعت من بعض الناس أن جارودي يرى أن الأديان كلها سواء: القرآن والتوراة والإنجيل - الموجودين الآن بعد التحريف - فهل هذا صحيح؟!.
قال: لم أقل أبداً يوماً من الأيام إنها سواء، وإنما أقول فقط ما هو في القرآن، أن كل الأنبياء السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم، أرسلوا من الله الذي أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام، والناس يحرفون كلامي ويقولون عني غير ما أريد، وهؤلاء الناس لم يقرأوا لي سطراً واحداً مما كتبته، وهذا كلام خيال ليس له أساس من الصحة.
قلت: سمعت – أيضاً - أن لجارودي رأياً في الإيمان باليوم الآخر وما فيه، من جنة ونار ونعيم وعذاب، وهو عند المسلمين ركن من أركان الإيمان الذي لا يصح الاسلام بدونه، أرجو أن أسمع من جارودي ما يعتقد في هذا الأمر؟.
فقال: بالنسبة لله عز وجل، اللحظة التي خلقنا فيها أول ما خلق العالم، واللحظة التي نعيش فيها الآن، ولحظة الوقوف بين يديه يوم البعث والنشور هي بالنسبة لله لحظة واحدة.
وفهمي للحياة الآخرة أنه في هذه الحياة الدنيا، الناس قد ينجح واحد ويكون غنياً ويمسك دولة ويقيم نظاماً، لكن هذا لا يعني أنه نجح حقيقة في مقياس الله، فمقاييس الله في وزن الناس هي معنى اليوم الآخر..
وعندما يقول الله: اخشوني ليس معناه أنا نخشى الله بالضرب، وإنما معناه نخشى أن نغضب الله، هذا هو الحب لله عز وجل، والإمام الغزالي شرح هذا المعنى بشكل رائع في الكتاب السادس والثلاثين من كتابه: "إحياء علوم الدين"، وهذا الكتاب يتعلق بحب الله، وهو من أروع ما قرأ في هذا المعنى.
قلت: حب الله صحيح، يحب لأنه يستحق ذلك، ولكن اليوم الآخر هو غير الدنيا، وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ونصوص القرآن تدل على أن اليوم الآخر هو غير الحياة الدنيا، وفي اليوم الآخر يجازي الناس بأعمالهم خيراً كانت أو شراً..
وهذا هو الذي فهمه المسلمون من القرآن والسنة وليس مجرد فهم مستنبط، وإنما هو قطعي في دلالاته وثبوته ولا إيمان لمن لم يؤمن به.
قال: كل ما نحكيه نحن الآن عن الله عز وجل وعن الجنة والنار، هي أمثلة خيالية وليست حقيقية، لأني مهما أقول في الله عز وجل بمفهومي أنا فالله ليس كذلك، وحبي له غير حبي لزوجتي.
قلت: الأشياء التي في الدنيا تختلف عن الأشياء التي في الآخرة تماماً، وليست كما نرى أو نفهم، ولكن اليوم الآخر وما فيه من جنة ونار حقيقة.
قال: الجنة والنار هنا في الدنيا، الإمام الغزالي قال: الجنة والنار في الحياة الدنيا، فالجنة تشعر بها عندما تسير في طريق الله..
قلت - وكان هو مستعجلاً يريد أن يذهب لموعد في الإذاعة -: هذه المسألة سيطول البحث فيها، ولكن أرجو أن يراجع كلام الغزالي وغيره في هذه المسألة - لأني أعتقد أنه فهم خطأ من بعض عبارات الصوفية التي نقلها الغزالي ومن ذلك كلام لرابعة العدوية سيأتي إن شاء الله ذكره -.
قال: إنه قرأ في كتاب الغزالي أن رابعة العدوية قالت: أنا أعبد الله عز وجل لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما حباً له.
قلت له: هذا كلام ناس يصيبون ويخطئون، والقرآن والسنة يدلان على خلاف هذا الفهم أو الاعتقاد، وهم لا يقصدون من هذا أنه لا توجد جنة ولا نار، ولكن يقصدون أنهم من شدة إخلاصهم لله، فإنهم يعبدونه حباً له بصرف النظر عن الجنة والنار.
قال: بالنسبة لله لا يوجد قبل وبعد.
قلت: ولكن بالنسبة لنا يوجد قبل وبعد.
قال: إن الإنسان من روح الله، نفخ فيه من روحه، ونحن نحمل في أنفسنا الجنة والنار، فإذا شعرت أن الله عز وجل تخلى عني معناه أنا في النار، أشعر بهذا فوراً، ولكن ليس بالتصور الذي يظنه المسلمون أنه بعد الموت توجد نار يضرب الإنسان إذا أذنب في الدنيا، وإذا عمل طيباً يدخل الجنة.
قلت له: هذا تصور شاذ عند علماء الإسلام، والنصوص كثيرة في الكتاب والسنة توضح فرضية الإيمان باليوم الآخر، كيف يكون إيمانك بها على هذا التصور؟.
قال: الله يحاسب الإنسان ويعاقبه ابتداء من هذه الحياة إذا ابتعد عن الله، وإذا مشى في طريق الله فهو في الجنة من الآن يبدأ هذا.
قلت: ما رأيك في الظلمة من الملوك والجبابرة الذين يظلمون الناس في الأرض ويموتون قبل أن يؤخذ منهم حق المظلومين، متى يعاقبون؟.
قال: الله معنا في كل لحظة يراقبنا على كل صغيرة وكبيرة وبعض الناس يصورون الجنة بأن فيها نساء جميلات لهن عيون كبيرة وخمر من نوع خاص. [الذي جاء به القرآن يقول عنه جارودي: بعض الناس يصورونه].
قلت: هذا هو الذي ذكره القرآن فماذا تقول فيه؟.
قال: الله يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [إبراهيم:4]. فيعطيهم صوراً من مجتمعهم حتى يفهموا.
قلت: تعني ذلك خيال، وليس حقيقة؟.
قال: إذا كنت لا أطيع الله إلا لأني أريد عيون النساء والخمر اللذيذة، فأنا أصبحت عبداً لشهوتي.
قلت: بل أعبد الله وأطمع في ثوابه الذي وعدني به.
قال: أنا أتصور أني محب لله ولست عبداً للنساء والخمر التي ألقاها في الآخرة. فالإسلام والقرآن يرفضان قضية العبودية لغير الله.
قلت: أنا أطلب من جارودي وأكرر مرة أخرى أن يراجع نفسه في هذا الموضوع لأنه يخالف نصوص القرآن والسنة..
(ثم احتدم النقاش بين جارودي والمترجم ثم قال لي جارودي): أريد منك أن تراجع القسم الذي كتبه الغزالي.
قلت: الغزالي لا يقصد هذا الذي فهمته وهو يثبت الجنة والنار، ولكن ينقل عن بعض الصوفية كلاماً يحثون فيه على الإخلاص لله ويبالغون في عباراتهم، فيقولون: إنهم لشدة إخلاصهم له وحبهم له يعبدونه بدون النظر إلى الجنة أو النار.
قال: إن الغزالي قال أكثر من ذلك، قال: ينبغي أن يعبد الناس ربهم حباً له، لأنهم إذا عبدوه بالخوف من النار والطمع في الجنة، يصبح المجتمع في حالة رعب.
والكاثوليك يعملون مع الناس هكذا.. كل واحد مظلوم أخذت حقوقه يقولون له: ربنا يعوضك في الجنة.. وهذا مفهوم خطير.. ولا أريد من المسلمين أن يقعوا في هذا الفخ..
وهذا سلاح كل دولة تستعمل الدين سلاحاً سياسياً.. تقول للناس مثل هذا الكلام..
[قلت للمترجم: قل له: إن هذا الفكر هو فكر إلحادي ينبع من قول الشيوعيين الماركسيين: إن الدين أفيون الشعوب، واستغلال الدين شيء والحقائق التي جاء بها القرآن شيء آخر. ولكن المترجم قال: إن الوقت ضيق والأفضل أن يبعث له صورة من كلام الغزالي عن اليوم الآخر ومفهومه لهذا الأمر].
ثم قال جارودي: يمكن أن نعطي مفهوم الجنة والنار بهذا المعنى للشعب الذي لا يمكن أن يسير في الطريق الصحيح إلا بالخوف.. أما الذي يعبد الله بإخلاص فلا يحتاج إلى ذلك..
نابليون كان ملحداً وثنياً.. ولكن كان يقول: إذا كان هناك شعب لا توجد فيه عدالة اجتماعية والناس يشكون ويتألمون من المشكلات، يجب أن يقال لهم: إنه يوجد عالم آخر ستكون فيه التعويضات والحقوق، حتى يهدأوا..
قلت: كلام الناس شيء.. وكلام الله شيء آخر.. الله كرر ذكر اليوم الآخر في القرآن ما لا يحصى كثرة مع ذكر الله.. إذا ذكر الله ذكر معه اليوم الآخر.. فكلام الله غير كلام الناس.. كلامهم يكونون فيه متأثرين بأهوائهم.. وثقافاتهم.. ومبادئهم..
أما كلام الله فهو حقيقة يجب الإيمان به..
قال: كلام الله يجب أن لا نفهمه بالمعاني الأدبية الواضحة وأضرب لك مثالاً برمضان..
الله تعالى قال: ((.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ..)) [البقرة: من الآية187]. ولو قلت هذا الكلام لسكان الإسكيمو وفهموه على حقيقته، لمكثوا ستة أشهر صائمين حتى يموتوا من الجوع..
فلا ينبغي أن نفهم القرآن بالمعنى الأدبي [يعني بما يظهر من النص المجرد] والقرآن يعطيك إشارة وحدثاً ويأمرك بالتفكير.
قلت: ولكن هذا الأمر - يعني الإيمان باليوم الآخر - كرره القرآن وأكده من أوله إلى آخره، وأكدته سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيداً شديداً، ولو كان ذكره مرة واحدة فقط كان يمكن هذا الكلام أن يجد محملاً - وإن خالف الظاهر - ولكن القرآن كرر وأكد ووصف اليوم الآخر وصفاً دقيقاً، وكذلك السنة، وهي تدل على أنه أراده الله حقيقة.
(واحتد النقاش بينه وبين المترجم، وقال: إن وقته انتهى).
فقلت له: على كل حال نشكره على حضوره، ومعذرة لأخذنا شيئاً من وقته وهذا الموضوع يحتاج إلى زيادة بحث منه ونظر في موقفه هذا.
فقال: يجب أن تقرأ للغزالي وابن الرومي وابن عربي وابن عطاء الله.
قلت: وعليك أن تقرأ لابن تيمية وابن القيم أيضاً.
قال: ابن تيمية يفضل أن يعيش ستين سنة وهو مظلوم، على أن يعيش سنة واحدة وهو يقوم بمعارضة.
قلت: لقد قام بمعارضات وجادل وناقش كل الطوائف ونصح الحكام وجاهد الغزاة المعتدين....
قال: إنه كان في الملتقى الفكري في الجزائر وثار جدل عنيف بينه وبين بعض العلماء في الجنة والنار، وكانوا معه عنيفين.
قلت: أما أنا فأرجو أن يؤمن بالجنة ونلتقي أنا وهو في الجنة.
قال: إذا كان أهل الجنة مثل محمد الغزالي وجاد الحق، فإنه يفضل أن يذهب إلى النار.
[قال لي الدكتور طه بن مصطفى أبو كريشة: سبب حنقه على الشيخ جاد الحق أنه كشف ما عنده من زيغ في الاعتقاد، في لقاء معه وسط جمهور كبير في قاعة الشيخ محمد عبده بجامعة الأزهر وكنت حاضراً هذا اللقاء، وظننا أن الشيخ جاد الحق لم يحسن لقاء الرجل، ثم تبين لنا فيما بعد صدق ما أعلنه عنه، بينما كان جارودي قادماً وفي حسبانه أنه سيلقى كل تكريم من أعلى مستوى ديني في مصر].
قلت: وهكذا يكون اتباع الهوى.
تعليق: وهنا لا بد من تنبيهات:
التنبيه الأول: إن هذا الدين يجد إقبالاً ممن بلغه لهيمنته على النفوس وموافقته للفطرة والعقول السليمة، لما يشتمل عليه من العقيدة الواضحة السهلة التي لا تصطدم بالعقل والفطرة، ولا فرق بين متعلم وعامي، إلا أن كلاً منهما يحتاج إلى أسلوب يتناسب معه في إبلاغه هذا الدين.
والأستاذ رجاء جارودي من ذوي الثقافة العالية عند الأوروبيين، وإن كان وقع في حمأة الإلحاد، فهذا عند الأوروبيين ليس عيباً، وربما يكون أكثرهم غير مقرين بدين، وإن كانوا ينتسبون إلى النصرانية المحرفة المبدلة التي رموا بها في زوايا الكنائس لقلة من الناس يرتزقون منها ولا يفهمون حقيقة ما يقولون للناس.
التنبيه الثاني: أن الأصل في الذي يوفقه الله للإسلام، أن يتتلمذ على أيدي من فقهه الله في الدين، ليتعلم أولاً فروض العين التي أوجبها الله سبحانه وتعالى عليه بنفسه حتى يؤدي ما فرض الله عليه عن علم وليس عن جهل..
فإن الله لا يقبل إلا صالح الأعمال وهي التي يتوافر فيها الإخلاص والصواب، والصواب لا يوجد إلا بالعلم به عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا أراد المسلم أن يطرق أبواباً أخرى غير فروض العين من أحكام الإسلام، فإنه يجب عليه كذلك أن لا يدخل نفسه في أبوابها مفتياً أو قاضياً أو واعظاً أو آمراً بمعروف وناهياً عن منكر، إلا بعد أن يتعلم ذلك من علماء الإسلام ويتفقه فيه على أيديهم..
وإذا أراد أن يكون مجتهداً، فلا بد أن تتوافر فيه شروط الاجتهاد، سواء كان اجتهاداً جزئياً أو اجتهاداً مطلقاً، وهذا الأخير قلما تجد من يدعيه من العقلاء في العصور المتأخرة.
التنبيه الثالث: الواجب على علماء المسلمين إذا سمعوا عن شخص دخل في الاسلام، له ثقافة عالية في قومه ومركز اجتماعي، ويرجى من مثله أن يكون داعية إلى الله تعالى، أن يجتهدوا في تفقيهه في الدين.
إما ببعث أحد العلماء الفقهاء في الدين ليلازمه فترة طويلة حتى يعلمه ما يحتاج إليه، سواء كان في فرض العين أو فرض الكفاية.
وإما باستدعائه إلى بعض المؤسسات الإسلامية في أحد البلدان الإسلامية لتعليمه دين الله، وأن لا يترك بمجرد دعواه الإسلام بدون تعليم.
التنبيه الرابع: أن يتريث المسلمون والمؤسسات الإسلامية وأجهزة الإعلام في الشعوب الإسلامية، عن الإشادة به وكثرة مدحه وإطرائه قبل الاجتماع به وتفقيهه في الدين، لأن ذلك قد يجعله يغتر بنفسه ويصدق نفسه - إذا كانت قد حدثته - بأنه مفكر إسلامي وداعية وإسلامي، وهو لا يفقه من الدين إلا القليل وعنده كثير من الأفكار القديمة التي كان يعتقدها لا تزال تسيطر على عقله وسلوكه..
ويزداد غروراً عندما تنهال عليه الدعوات من العالم الإسلامي لإلقاء محاضرات عن الإسلام، وهو لا يزال أقل علماً في أصول الإسلام من طالب مسلم عاش في بلاد إسلامية..
وهذا الأسلوب الذي يعامل به أمثال هؤلاء يجعلهم في نظر أنفسهم فوق الحاجة إلى التعليم، لأنه أصبح مفكراً إسلامياً وداعية ومناظراً....
وتكون النتيجة أن يتجول بعقله في أي مرجع من الكتب التي ألفت في الإسلام سواء كانت سليمة أو غير سليمة، يأخذ من هذا ما يوافق ثقافته وتفكيره ويأخذ من ذلك ما يناسبه…
وقد يتمكن من قلبه بعض المعاني المنحرفة، وقد يفهم من الكلام المنحرف انحرافاً أشد لم يقصده المؤلف، ويصبح عنده خليط من أفكاره القديمة وفلسفته، ومن الأفكار التي أطلع عليها مما يوافق أفكاره القديمة وفلسفته، وعنده شيء من المعاني الإسلامية الصحيحة، ويظن أنه أعلم العلماء ويرى أن علماء المسلمين الذين أفنوا حياتهم في تعلم شرع الله، أقل شأناً منه حتى لو دخلوا هم الجنة التي يؤمنون بها، فإنه يفضل هو أن يدخل النار ولوكان لا يؤمن لا بهذه ولا بتلك!.
ويبدو لي أن هذا هو الذي حصل للأستاذ رجاء جارودي، فإنه يتهكم بشيخ الأزهر ومشايخ العلم الذين قابلوه في الملتقى الفكري في الجزائر، ومنهم الشيخ محمد الغزالي، بسبب أنهم ناقشوه في ركن من أركان الإيمان لا يصح الإسلام بدونه، وهو اليوم الآخر..
وقد أصر على رأي له، وهو أنه لا يوجد يوم آخر، وإنما هو عبارة عن السعادة في الدنيا بطاعة الله والشقاء في الدنيا بمعصية الله، ويرى أن الذي يؤمن بوجود الحور العين والخمر والعسل الذي ذكره الله في القرآن إنما هو عبد لتلك الأشياء وليس عبداً حقاً لله.
وقد أخذ ذلك من بعض العبارات التي أطلقها بعض الصوفية، وهي تخالف بظاهرها القرآن والسنة وما فهمه علماء الإسلام من الصحابة ومن تبعهم، ومع ذلك فإنهم لم يقصدوا ما قصده جارودي من إنكارهم لليوم الآخر والجنة والنار، وإنما هي عبارات فيها مبالغة قصدوا منعا الإخلاص.
ومن ذلك قول رابعة العدوية الذي نقله الغزالي في إحياء علوم الدين (4/310). "وقال الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك؟
قالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه…"
(ونقل الغزالي عبارات تشبه هذه العبارة، ثم قال في آخر ما نقل.. "وما أرادوا بهذا إلا إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى، على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن متعة لحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله فقط".
ورجاء جارودي إنما يقرأ هذه الأمور عن طريق الترجمة من العربية إلى غيرها، ويجوز أن يكون المترجم قد حرف، إما قصداً وإما عن سوء فهم، فيضاف إلى ذلك ما قد يحصل من جارودي وأمثاله من سوء فهم أو موافقة فكرهم السابق..
ولهذا وصل في النهاية إلى إنكار ركن من أركان الإيمان، وقد سمعت أنه كذلك لا يؤمن بوجود ملائكة، ولكن لم أسأله عن ذلك نسياناً وقد كان مستعجلاً.
ولم أتمكن من كتابة بعض الأمور عن جارودي، كسبب إسلامه وديانته قبل الإسلام، لأنه سلمني أوراقاً قال: إن ذلك موجود فيها، وهي باللغة الفرنسية تحتاج الى ترجمة ولعلي أتدارك ذلك بعد أن تتيسر ترجمتها، وعمر جارودي خمسة وسبعون عاماً لأنه ولد 1913م.
وأرجو أن يهدي الله جارودي للحق، فيسلم أمره إلى الله في شئون الغيب ويؤمن بها كلها بدون تأويل لها..
كما أرجو أن يكون ما حصل منه من إنكار لليوم الآخر، بسبب سوء الفهم وليس بسبب سوء القصد..
فإذا وفقه الله للفهم الصحيح، فيرجى أن يعود إلى الحق.. وبخاصة فيما يتعلق بأركان الإيمان..
هذا وقد فصلت القول في هذه المسألة في كتاب " الإيمان هو الأساس" في الفصل المتعلق باليوم الآخر، فليرجع إليه.




السابق

الفهرس

التالي


16124382

عداد الصفحات العام

2997

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م