﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


عبادة الله

عبادة الله
لهذا المعنى وحده أوجد الله الإنسان على هذه الأرض ، وبتحقيق هذا المعنى وحده تتحقق كافة الأسباب والوسائل التي تجلب للبشر السعادة في الدارين . وبغياب هذا المعنى وعدم تحقيقه ينزل بالعالم كله الشقاء والضنك ، ويحيط بها الخسران ، وتصبح الأرض على سعتها كسجن ضاق بأهله من ذوي الإجرام والعدوان ، كما هو حال غالب البشرية الشقية ذات الحضارة المادية النكدة المعبودة من دون الله في هذا العصر ، ولا تزال – برغم التقدم المادي الهائل – في هبوط مستمر إلى الدركات الحيوانية والوحشية والهمجية ، كما لا يخفى على كل متتبع لأحوال الناس وحوادث الأيام ، وما ذلك إلا لفقدان هذا المعنى العظيم الذي أوجد الله من أجله الإنسان .
كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( [الذاريات : 56-68]
وقال تعالى : ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ( [الأعراف : 206]
وأخبر تعالى أنه أوحى إلى كل رسول من الرسل ، بعثه في كل أمة من الأمم ، ليأمرهم بعبادته وحده ، وينهاهم عن عبادة كل ما سواه ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( [الأنبياء : 25]
وأمر تعالى خاتم رسله صلى الله عليه وسلم أن يستمر في عبادة ربه حتى يلقاه ، فقال تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك القين ( [الحجر : 99]
وأمر الله تعالى الناس كلهم – بعد ذكره بعض صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين – بعبادته وحده ، فقال تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( [البقرة : 21]
ووصف صفوة خلقه بالعبودية في مقام ذكر صفاتهم الحميدة وأخلاقهم الفاضلة ، فقال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ( [الفرقان : 63]
ووصفهم بها – كذلك – في مقام ذكر سلامتهم من كيد عدوهم إبليس ، فقال : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( [الحجر : 42]
وذكر تعالى اعتراف إبليس نفسه بعجزه عن إغواء هؤلاء الصفوة ، فقال : ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( [الحجر : 40]
وقال تعالى عن عبده عيسى عليه السلام : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ( [الزخرف : 59]
بل وصف رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل الأحوال والمقامات : في مقام الإسراء قال : ( سبحان الذي أسرى بعبده ( [الإسراء : 1]
وفي مقام الإيحاء قال : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ( [النجم : 10]
وفي مقام الدعوة قال : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ( [الجن : 19]
وفي مقام التحدي قال : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( [البقرة : 23]
وقد يقال : هناك معان أخرى ذكر الله تعالى أنه خلق الناس من أجلها غير العبادة ، ومنها الابتلاء الذي قال الله تعالى فيه : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أحسن عملا ( [الملك : 2] والجواب أن الابتلاء إنما هو بعبادته تعالى التي خلقهم من أجلها ، فليس المراد مجرد ابتلاء ، بل هو ابتلاء لإحسان العمل الذي يأمرهم بتعاطيه ، أو ينهاهم عن ارتكابه ، وهو المراد بالعبادة .
وهذا المعنى الذي أوجد تعالى من أجله الإنس والجن والملائكة ، هو الذي عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حق الله على عباده ، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ، فقال : " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " [صحيح البخاري . رقم 2700 . وصحيح مسلم ، رقم 30 ] )

والخلاصة : أنه لا يتحقق معنى وجود الإنسان في هذه الحياة – الذي تحصل به السعادة ، وتدفع به الشقاوة – إلا بوجود الإيمان الحق ، كما قال تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( [سورة العصر]
فريقان متباينان
إن المتأمل في التاريخ البشري يرى فرقا واضحا بين أمة بنت حياتها على عبادة الله والإيمان به وحده ، وأخرى بنت حياتها على عبادة الشيطان : أمة حققت في حياتها معنى وجودها ، وأخرى لم تحقق ذلك ، هذا الفرق يظهر في الآثار المترتبة على كلا الأمرين .
وأرى من المناسب – هنا – أن أنقل ما صوره الشيخ العلامة أبو الحسن علي الندوي – رحمه الله – عن المجتمع الجاهلي الذي فقد معنى وجوده ، وما ترتب على ذلك من آثار سيئة وشقاء في الأرض ، ثم ما صوره – بعد ذلك – عن الأمة الإسلامية - التي تحولت عن المجتمعات الجاهلية – التي حققت معنى وجودها ، وما ترتب على ذلك من آثار حميدة وسعادة وطمأنينة .
قال – رحمه الله - [تعمدت نقل كلام طويل له لما فيه من فائدة تصور للقارئ الفرق بين حياة أمتين : أمة كافرة فسقت عن أمر ربها فلم تحقق معنى وجودها فعاشت حياة ضنكا ، وأمة مسلمة سلكت صراطه المستقيم ، فعاشت حياة طيبة كريمة] عن العالَمِ الجاهلي : [ بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزا عنيفا ، فإذا كل شيء فيه في غير محله ، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكانا آخر ، ومنه ما تكدس وتكوم .
نظر إلى العالم بعين الأنبياء ، فرأى إنسانا قد هانت عليه إنسانيته ، ورآه يسجد للشجر والحجر والنهر ، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر .
رأى إنسانا معكوسا ، قد فسدت عقليته فلم تعد تسيغ البديهيات وتعقل الجليات ، وفسد نظام فكره ، فإذا النظري عنده بديهي والعكس ، يستريب في موضع الجزم ، ويؤمن في موضع الشك ، وفسد ذوقه ، فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث ، ويستمرئ الوخيم ، وبطل حسه ، فأصبح لا يبغض العدو ولا يحب الصديق الناصح .
رأى مجتمعا ، هو الصورة المصغرة للعالم ، كل شيء فيه غير شكله أو في غير محله ، وقد أصبح الذئب فيه راعيا ، والخصم الجائر قاضيا ، وأصبح المجرم فيه سعيدا حظيا ، والصالح محروما شقيا ، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف ، ولا أعرف من المنكر .
ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك .
رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان ، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال ، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد .
ورأى ملوكا اتخذوا بلاد الله خولا ، ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا أربابا من دون الله ، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .
رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائفة ، لم ينتفع بها ، ولم توجه التوجيه الصحيح فعادت وبالا على أصحابها ، وعلى الإنسانية ، فقد تحولت الشجاعة فتكا وهمجية ، والجود تبذيرا وإسرافا ، والأنفة حمية جاهلية ، والذكاء شطارة وخديعة ، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات والإبداع في إرضاء الشهوات .
رأى أفراد البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ينتفع بها في هيكل الحضارة ، وكألواح الخشب ، لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة ، رأى الأمم قطعانا من الغنم ليس لها راع ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ويجرح به أولاده وإخوانه .[ ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص : 89-90 الطبعة العاشرة] ]
وقال عن الأمة المسلمة المهتدية بنور الإيمان : [ بهذا الإيمان الواسع العميق ، والتعليم النبوي المتقن وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة ، أو بشخصيته الفذة ، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز ، الذي لا تنقضي عجائبه ، ولا تخلق جدته ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المتحضرة حياة جديدة.
عمد إلى الذخائر البشرية ، وهي أكداس من المواد الخام ، لا يعرف أحد غناءها ، ولا يعرف محلها ، وقد أضاعتها الجاهلية والكفر ، والإخلاد إلى الأرض ، فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة ، وبث فيها الروح الجديدة ، وأثار من دفائنها ، وأشعل مواهبها ، ثم وضع كل واحد في محله ، فكأنما خلق له ، وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه ، وكأنما كان جمادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا ، وكأنما كان ميتا لا يتحرك فعاد حيا يملي على العالم إرادته ، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق ، فأصبح قائدا بصيرا يقود الأمم : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملو( [الأنعام : 122]
عمد إلى الأمة العربية الضائعة ، وإلى أناس من غيرها ، فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ من عجائب الدهر وسوانح التاريخ ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره ، وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة ، ولا يتبوأ منها المكانة العليا ، ولا يحسب له أقرانه حسابا كبيرا ، إذ به يفاجئ العالم بعبقريته وعصاميته ، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ، ويؤسس دولة إسلامية تجمع بين ممتلكاتهما وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام ، فضلا عن الورع والتقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثل السائر .
وهذا ابن الوليد ، كان أحد فرسان قريش الشبان ، انحصرت كفاءته الحربية في نطاق محلي ضيق ، يستعين به رؤساء قريش في المعارك القبلية ، فينال ثقتهم وثناءهم ، ولم يحرز الشهرة الفائقة في نواحي الجزيرة ، إذا به يلمع سيفا إلهيا لا يقوم له شيء إلا حصده ، وينزل كصاعقة على الروم ، ويتردد ذكرا خالدا في التاريخ .
وهذا أبو عبيدة ، كان موصوفا بالصلاح والأمانة والرفق ، ويقود سرايا المسلمين ، إذا به يتولى القيادة العظمى للمسلمين ، ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الخضراء ، ويلقي عليها نظرة الوداع ويقول : " سلام على سوريا لا لقاء بعده " … ] [ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص : 118-119]
ثم ذكر الأستاذ الندوي أمثلة أخرى من أفذاذ الصحابة رضي الله عنهم .
ومنهم عمرو بن العاص ، وسلمان الفارسي ، وبلال الحبشي ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وزيد بن حارثة ، وأبو ذر ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين … إلى أن قال : [ ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة التي استهانت بقيمتها الأمم المعاصرة ، وسخرت منها البلاد المجاورة ، لا يلبث أن يرى منها كتلة ،لم يشهد التاريخ البشري أحسن منها اتزانا ، كأنها حلقة مفرغة لا يعرف طرفاها ، أو كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، كتلة فيها الكفاية التامة في كل ناحية من نواحي الإنسانية ، كتلة هي في غنى عن العالم ، وليس العالم في غنى عنها .
وضعت مدنيتها ، وأسست حكومتها ، وليس لها عهد بها ، فلم تضطر إلى أن تستعير رجلا من أمة ، أو تستعين في إدارتها بحكومة ، وأسست حكومة تمد رواقها على رقعة متسعة من قارتين عظيمتين ، ملأت كل ثغر ، وسدت كل عوز ، برجل يجمع بين الكفاية والديانة والقوة والأمانة .
تأسست هذه الحكومة المتشعبة الأطراف ، فأنجدتها هذه الأمة الوليدة التي لم يمض عليها إلا بعض العقود - كله جهاد ودفاع ومقاومة وكفاح – برجل من الرجال الأكفاء ، فكان منها الأمير العادل ، والخازن الأمين ، والقاضي المقسط ، والقائد العابد ، والوالي المتورع ، والجندي المتقي .
وكانت – بفضل التربية الدينية التي لا تزال مستمرة ، وبفضل الدعوة الإسلامية التي لا تزال سائرة – مادة لا تنقطع ، ومعينا لا ينضب ، لا تزال تسند الحكومة برجال يرجحون جانب الهداية على جانب الجباية ، ولا يزالون يجمعون بين الصلاح والكفاية . وهنا ظهرت المدنية الإسلامية ، بمظهرها الصحيح ، وتجلت الحياة الدينية بخصائصها التي لم تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري .
لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم ، مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية ، فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ، أصاب الجاهلية في مقتلها وصميمها ، فأصمى رميته ، وأرغم العالم العنيد بحول الله ، أن ينمو نموا جديدا ، ويفتح عهدا سعيدا ، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ ] [نفس المرجع ، ص : 120-121]
ومن هذا الوصف وهذا التصوير الرائع للإنسان الذي لم يحقق معنى وجوده في الحياة - العالم الجاهلي في أي عصر من العصور – وللإنسان الذي حقق معنى وجوده – الأمة الإسلامية في أي زمن من الأزمان – يظهر للعاقل اللبيب أن الإيمان هو مفتاح سعادة البشرية ، في الدنيا والآخرة ، وأن الكفر هو قفل تلك السعادة ومفتاح الشقاء والضنك ، وهو السد الحائل بين البشرية ونيل سعادتها ، وأن كل شقاء تعيشه البشرية اليوم سببه غياب المعنى الذي وجد من أجل تحقيقه الإنسان من حياة هذا الإنسان .
ولهذا قال الأستاذ الندوي – رحمه الله – في موضع آخر : [ ولم يكن صلى الله عليه وسلم من عامة المصلحين ، الذين يأتون البيوت من ظهورها ، أو يتسللون من نوافذها ، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب ، فمنهم من يوفق لإزالة بعضها مؤقتا في بعض نواحي البلاد ، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته .
أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت الدعوة والإصلاح من بابه ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه ، ذلك القفل المعقد ، الذي أعيا فتحُه جميعَ المصلحين في عهد الفترة وكلَّ من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه .
ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده ، ورفض الأوثان والعبادات الجاهلية والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة ، وقام في القوم ينادي : ( يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ) [رواه الحاكم في المستدرك ، برقم 39 . وابن حبان في صحيحه ، برقم : 6562 . وذكره المفسرون في تفسير سورة المسد ، منهم الإمامان الطبري وابن كثير] ودعاهم إلى الإيمان برسالته ، والإيمان بالآخرة [ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص : 93-94] ]
الإيمان يحدد لصاحبه مركزه في الحياة
الأمر الخامس : أن الإيمان يحدد لصاحبه مركزه في الكون وصلته به .
فهو من جهة يعلم أنه عبد الله ، فلا يخضع ولا يذل لسواه ، يقدم طاعة ربه على طاعة كل أحد غيره ، ولا يعصيه اتباعا لهوى ، أو إرضاء لمخلوق ، حياته كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( [الأنعام : 162-163]
ويعلم من جهة أخرى أنه لا فضل له على سائر الناس إلا بالتقوى ، لأنه يشاركهم في أنهم كلهم لآدم – وآدم من تراب – والله خالقهم جميعا ، وهو إلههم ومعبودهم لا إله لهم سواه ، فلا يتكبر على الناس ، ولا ينصب نفسه إلها لهم يتصرف في دينهم ، وأنفسهم ، وعقولهم ، و أموالهم ، وأعراضهم ، ودمائهم كما يشاء .
بل لوقدر له أن يكون واليا على الناس ، لا يتصرف معهم إلا وفقا لتوجيه الإله الواحد الذي حمله المسئولية على من سواه من العباد ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) [صحيح البخاري من حديث ابن عمر ، برقم 853 وصحيح مسلم ، برقم : 1829]
ويعلم من جهة ثالثة أن الله تعالى منحه في هذه الأرض ما لم يمنح غيره من المخلوقات من حوله : حيوانها ، ونباتها ، وجمادها ، وأرضها ، وسمائها .
فأنعم عليه بنعمة العقل وقوة التفكر في الأمور ، ومعرفة ما ينفعه وما يضره مما يدخل في مجال نشاطه العقلي ، ومكنه من القدرة على استغلال كثير من خبرات السماء والأرض ، والاستعانة بذلك كله على عمارة الأرض واستثمار كنوزها لمصلحة كل من دب على وجهها .
ويعلم أن الله تعالى أوجب عليه أن يحسن التصرف فيما أقدره عليه ، فلا يتصرف في شيء من ذلك إلا في حدود ما يُرضِي ربه وينفع عباده ، ولا يستغل ذلك في معصية الله والإضرار بعباده ، ولا في العلو على الناس ، بل في إسعادهم وقربه وقربهم من ربهم ومعبودهم .
والخلاصة أن المؤمن يستغل عقله وفكره ومقدرته وتجاربه ومواهبه ، وكل ما سخره الله له في إعلاء كلمة الله ، وفي الإصلاح في الأرض ، ومحاربة الإفساد فيها ، لأنه تحقق فيه المعنى الذي أوجده الله من أجله ، وهو الإيمان به وعبادته .
ولهذا كانت هذه الأمة أمة وسطا ، أهَّلها الله أن تكون شاهدة على الناس كلهم ، كما قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكوموا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( [البقرة : 143]
والأمة الوسط هي الأمة الرائدة القائدة التي تهدي الحيارى إلى صراط الله المستقيم ، وتثبت في الأرض العدل بين الناس ، وتكون تصرفاتها وأخلاقها ومعاملاتها قدوة خيرة لسواها ، وتقود الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، تحقيقا لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكسب الأمم السعادة ويجنبها الضنك والشقاوة ، كما قال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( [آل عمران : 110]
مركز الإنسان في الكون .
أما مركز الإنسان في هذا العالم العريض ، فهو مركز المتصرف المستغل لما أودع الله في هذا الكون بإذن رب الكون ، الذي سخر لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ، ليحقق بذلك التسخير مصالحه ، ويسعى في المحافظة على ما أقدره الله على استغلاله والانتفاع به ، هو وغيره من مخلوقات الله ، وكأن كل شيء في هذا الكون قد نسج من أجله ، وفصل على قده تفصيلا : ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( [إبراهيم : 32-34]
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( [الإسراء : 70]
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [الجاثية : 12-13] ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ( [لقمان : 20]
تلك هي مكانة الإنسان التي منحه الخالق تعالى في هذا الكون ، وتلك صلته به .
[ وما الذي بوأ الإنسان هذه المكانة السامقة ، وفي الكون أجرام أضخم منه وأكبر ؟ إنه سر القبس الذي هو فيه من نور الله ، والنفخة التي هي فيه من روح الله ، تلك النفخة التي جعلته مستعدا للخلافة في الأرض ، مستعدا لحمل الأمانة الكبرى ، أمانة التكليف والمسئولية ، تلك التي صورها القرآن تصويرا رائعا : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ( [الأحزاب :72]
هذا الاستعداد في الإنسان ، هو الذي جعل مصيره بيده بعد أن يسر له سبل الهداية ، وأزاح عنه كل الأعذار : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ( [القيامة : 14]
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( [الكهف : 29] ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ( [الشمس : 9 ، 10] ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ( [الإسراء : 7]
لقد سما الإسلام بالإنسان ، فاعترف به كله روحه وجسده ، عقله وقلبه ، إرادته ووجدانه ، غرائزه الهابطة وأشواقه الصاعدة ، ولم يضع في عنقه غلا ، ولا في رجله قيدا ، ولم يحرم عليه طيبا ، ولم يغلق في وجهه باب خير ولم يدعه …. للمتاجرين بالدين يتلاعبون به ، بل خاطبه خطابا مباشرا : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ( [الانفطار : 6-8] ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ([ الانشقاق : 6 ، وما بين المعقوفين من " كتاب الإيمان والحياة ص : 63-66 " للدكتور يوسف القرضاوي . وغالب ما ذكر قبل ذلك في موضوع مركز الإنسان في الكون مستفاد من نفس الكتاب] ]
هذا الإنسان لا يمكن أن يستغل ما سخره الله في الكون ويكون أهلا للمركز الذي منحه الله إياه في هذا الكون إلا إذا آمن بربه الذي منحه ذلك المركز وجعله أهلا لتلك المكانة ، إيمانا صادقا ، وبنى نشاطه وتصرفاته على مقتضى ذلك الإيمان ، و إلا صار غير مؤتمن على ما ائتمنه الله عليه ، حيث يكون الأصل فيه الفساد والإفساد في الأرض ، كما قال تعالى : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد ( [البقرة : 205-26]





السابق

الفهرس

التالي


16307513

عداد الصفحات العام

601

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م