ما يعين على غرس رقابة الله الدائمة في نفس المؤمن:
والذي يعين على غرس المراقبة الدائمة لله تعالى، التذكير بما ورد في ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتَذَكُّرُ ذلك باستمرار.
وقد تنوعت أساليبهما في كتاب الله:
النوع الأول: ما ذكره الله تعالى عن نفسه أنه لا يوجد عنده غيب كما يوجد عند المخلوقين الذين لا يعلمون إلا ما علمهم الله، مهما بلغوا من العلم الذي نالوه، فإن ما يعلمونه من عالم الشهادة في غاية الضآلة بجانب ما غاب عنهم، كما قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7. [لروم]
أما الخالق سبحانه، فلا فرق عنده بين ما هو من عالم الغيب وما هو من عالم الشهادة عند خلقه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. [في سور كثيرة من كتابه، كسورة الأنعام (73) وسورة التوبة (94)، و(105) وسورة الرعد (9) وسورة الزمر]
النوع الثاني: ما ذكره تعالى من إحاطة علمه بكل شيء، مثل قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}. [لطلاق 12] وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. [لبقرة 29]وغيرها.
النوع الثالث: أنه تعالى فصل لعباده ذلك العموم بذكر أمثلة جزئية في الكون، تبين لهم أنه عالم بكل جزئية فيه، صغرت أم كبرت؛ لئلا يتوهموا أنه يعلم فقط الكليات، كما قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. [لأنعام 59]
النوع الرابع: علمه بالكليات والجزئيات في الإنسان:
وقد ذكر تعالى كمال علمه وشموله فيما يعمله الإنسان، مع أن تفصيله السابق في آية الأنعام وما شابهه - وهو كثير - لو تأمله العاقل كفاه شمولاً لأعماله وتصرفاته، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ}. [ق 16]
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}. [لمجادلة]
ومع كمال علمه تعالى الشامل بتصرفات الإنسان، خصَّ علمه بما قد يظن الإنسان أنه مخفي في داخل قلبه لا يطلع عليه أحد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}. [ل عمران]
النوع الخامس: أنه تعالى بيَّن أنه يترتب على معرفة شمول علمه لكل شيء، خوف المؤمنين من ربهم العالم بأسرارهم، في حال خلواتهم من المخلوقين، ليقينهم أنهم مهما غابوا عن الخلق، فإنهم لا يغيبون عن الخالق، فيلازمون طاعته ويبتعدون عن معصيته.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}. [لملك]
على عكس حال المنافقين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله قال تعالى عنهم: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}. [لنساء 108]
النوع السادس: أنه تعالى جعل كل عضو من أعضاء جسم الإنسان يسجل عليه ما يأتي وما يذر، لتأتي تلك الأعضاء يوم القيامة - وقد كانت صامتة في الدنيا - شاهدة عليه بذلك ناطقة به، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23)}. [فصلت]
وقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}. [يس]
وإذا كان الكفار أعداء الله، قد حاربوا الله تعالى، وحاربوا رسله وكتبه ودينه، ولم يصدقوا في الدنيا ما أخبرهم به، وتوعدهم عليه، واقترفوا ما اقترفوا من أنواع الفواحش المنكرات، وأعضاؤهم تسجل عليهم من حيث لا يشعرون، حتى إذا جاءهم اليوم الموعود وشهدت عليهم بكل ما عملوه، تعجبوا وأنكروا على جلودهم شهادتها عليهم، إذا كان الكفار كذلك، فالمؤمنون بخلافهم آمنوا بربهم وبرسله وكتبه وبما أخبرهم به، ومنه علمه بسرهم وعلانيتهم، ولهذا يكونون دائماً مراقبين ربهم، يعلمون أن جلودهم تسجل عليهم أعمالهم، فيكون ذلك أكبر واعظ لهم وأعظم زاجر.
النوع السابع: أنه تعالى أخبر عباده بأنه مع إحاطة علمه بتصرفاتهم أرسل عليهم حفظة من ملائكته، يكتبون أعمالهم وأقوالهم ومكنهم من معرفة ما يريدون فعله أو تركه في قلوبهم، فلا يزالون يسجلون عليهم ذلك، ليقرؤوه يوم القيامة في صحائفهم، فأما الكفار فلا يتعظون بذلك ولا ينزجرون، حتى يأتي اليوم الذي تبلى فيه السرائر، قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}. [لزخرف]
وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار] {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)}.[ق] أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ.
وقال صلى الله عليه وسلم، في حديث جبريل: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). [لبخاري (6/20) ومسلم (1/37)] .والإحسان هو إتقان العمل.
قال الحافظ في شرح الحديث في الفتح: "وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى أنه يراه بعينه، وهو قوله كأنك تراه أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله فإنه يراك وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته".
وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت). [لترمذي (4/355) وقال: حسن صحيح، والدارمي (2/231). وذكره الألباني في صيح الترمذي]
قال الشيخ المبارك فوري في شرحه للحديث: "قَوْلُهُ: (اتَّقِ اللَّهَ) أحسنْ بِالإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ (حَيْثُ مَا كُنْتَ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ, فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ, وَالاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا".
|
|