﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


وفي تذكر الغربة قوة صلة بالله:

وفي تذكر الغربة قوة صلة بالله:
ولْتَكُنِ الغربةُ في الدنيا شِعارَنا، وهو ما وصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، أمته، فلا نجعل الدنيا التي سننتقل منها حتماً، مهما طالت أعمارنا فيها، همَّنا وغايتَنا، ولنعتبر بمن سبقنا في هذه الدنيا، من الأمم والأفراد منذ بدأ الله الخلق إلى يومنا هذا، هل بقي فيها أحد من المخلوقين مخلداً، من أَناسِي أو حيوانات؟
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهـما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غَريبٌ أو عابرُ سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".[صحيح البخاري (5/2358).]
نقل ابن حجر رحمه الله عن العلماء كلاماً في بيان معنى الغربة، تختلف ألفاظه وتتفق معانيه، ومنه قوله: "المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجتَه وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة". انتهى
وليس المراد من هذه الغربة أن يترك المسلم الأسباب المادية المشروعة التي تنفعه وتنفع غيره والإسهام في عمارة الدنيا بها، فكم من آخذ بالأسباب التي يصير بها غنياً وعامراً للدنيا، وهو غريب فيها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز). [خرجه مسلم.]
الدنيا سجن المؤمن:
وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك التشبيه في حديث عبد الله بن عمر بتشبيه آخرَ، بيَّن فيه أن ذلك التشبيه يتحقق في المؤمن الصادق، الذي يعتبر نفسه في هذه الدنيا بمن يقبع في سجن ضيق مظلم موحش، شديد الرغبة في الانطلاق منه إلى السياحة في الأرض الفسيحة التي يتمتع بها الناس خارج هذا السجن، وهي الجنة.
فالدنيا كلها بأرضها الواسعة ومُتَعِها المتنوعة عند المؤمن سجن ضيق، والأرض الفسيحة التي يحب الخروج إليها، من هذا السجن هي الجنة، التي فيها من النعيم والثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). [صحيح مسلم.]
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: "مَعْنَاهُ أَنَّ كُلّ مُؤْمِن مَسْجُون مَمْنُوع فِي الدُّنْيَا مِنْ الشَّهَوَات الْمُحَرَّمَة وَالْمَكْرُوهَة، مُكَلَّف بِفِعْلِ الطَّاعَات الشَّاقَّة، فَإِذَا مَاتَ اِسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا، وَانْقَلَبَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ النَّعِيم الدَّائِم، وَالرَّاحَة الْخَالِصَة مِنْ النُّقْصَان".
فالدنيا مهما تحقق فيها للمؤمن نعيم وتوفر له من رخاء، وأحرز فيها من عز وسؤدد ونفوذ، فإنه يعتبر نفسه فيها سجيناً لما يعلم من تفاهة كل ما فيها، إلى جانب النعيم المقيم، والجزاء الجزيل في الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو لما يعلم من تفاهة هذه وزوالها، وعِظَمِ تلك وبقائها، في أشد الشوق إلى مفارقة سجنه الكئيب في الدنيا، وانتقاله إلى بحبوحة الدار بجوار ربه الكريم.
وهذه النصوص وغيرها تدل على أن المؤمن يجب عليه في أي وقت من عمره، أن يحرص على طاعة الله بدون تسويف؛ لأنه لا يأمن انقضاء أجله في أي لحظة من لحظاته، وحرصه على طاعة ربه قد يجعل خاتمته حسنة.
الإكثار من قراءة القرآن وتدبره
ومن أهم ما يقربه إلى الله ويقوي صلته: الإكثار من تلاوة كتابه.
وإن من أهم ما يحقق قوة الصلة بالله للأستاذ وطلابه الإكثارَ من تلاوة كتاب الله تعالى مع تدبره وتفهم معانيه ومراميه، وعرضَ كل منهم نفسه عليه، ليعلم أهو سائر على هديه، أم متبع خطوات الشيطان الذي يصده عن ذلك؟
ومعنى عرض الإنسان نفسه على القرآن، شبيه بعرض المريض نفسه على أطباء العيادات المتخصصة، عندما يكون مصاباً بأمراض متنوعة، فيعرض نفسه إذا أصيب بأمراض باطنية على المتخصصين في الأمراض الباطنية، ولكل مرض من هذه الأمراض متخصصون فيه، فهذا طبيب قلب، وهذا طبيب كُلَى، وهذا طبيب معدة، وهؤلاء متخصصون في طب العظام الذين لكل منهم تخصصه فيها... وهكذا.
فمرضى النفوس لهم عيادات متخصصة في كتاب الله، وعلى سبيل المثال من كان مرضه الكذب عليه أن يتتبع الآياتِ الحاضَّةَ على الصدق التي تبين أهلَ الصدق وما يترتب على صدقهم من جزاء، والآيات التي تنهى عن الكذبِ وتُبَيِّنَ أهله وتذمه وتذكر ما يترتب عليه من جزاء، وهكذا الخيانة والزنا والسرقة والغدر والحسد وغيرها من الصفات والأخلاق الذميمة.
ولعل من حكمة الله تعالى في عرض آيات القرآن الكريم في سوره التي ضمها هذا المصحف الذي يقرؤه جميع المسلمين في كل أنحاء الأرض ما يوضح للقارئ تلك العيادات التي يحتاجها، ففي الصفحة الواحدة من كتاب الله تجد الحديث عن الإيمان بأصوله وفروعه وأنواع العبادات، والأعمال الصالحة التي شرع مزاولتها، والأعمال السيئة التي نهى عن فعلها، والعلاقة بين ولاة الأمر ورعاياهم، وبين المسلمين وغيرهم، ومن الروابط الاجتماعية المتعلقة بحقوق الأسرة أو غيرها من حقوق الجيران والفقراء والمعسرين، ومن الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يتصف بها المؤمن، والسلوكيات السيئة التي يجب عليه الحذر منه، فلا يقرأ القرآن أحد من البشر، إلا وجده يبين له في الصفحات التي يتلوها، ما لديه من خير يتعاطاه أو يفقده، أو شر يزاوله أو يجتنبه.
فإذا تدبر القارئ ما يتلوه من كتاب الله أو يسمعه من غيره، وجد فيه ما يحبه الله من الأعمال القلبية والقولية والجسمية وجزاءها، وما يبغضه منها وعقابها، فلا يفرغ من قراءته في الجلسة الواحدة، إلا وقد عرف صلته بربه قرباً وبعداً، وعلاقته بالشيطان وحزبه موالاة أو معاداة، فيحيا بذلك من يحيا عن بينة، ويهلك من يهلك عن بينة.
تأمل على سبيل المثال تلك الآيات في آخر سورة الفرقان التي جاءت في سياق واحد، كيف جمع الله فيها ما يحبه الله تعالى ويحض على ممارسته، وما يبغضه الله وما يحذر وينهى عنه:
التواضع والتهجد المشتمل على مناجاته والتضرع إليه طلبا للنجاة من عذاب جهنم، والاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا إقتار، والإيمان الصادق الذي لا يشوبه شرك، وعدم الاعتداء بقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والبعد عن الفواحش التي من أعظمها الزنا، وترغيب من ارتكب محرماً أو ترك واجباً، إلى التوبة النصوح التي يبدل الله صاحبها بسيئاته التي تاب منها حسنات، والحذر من شهادة الزور والترفع عما لا ينفع من اللغو الذي يقع فيه البطلة من الناس، والتيقظ لما يسمع أو يقرأ من ذكر الله تعالى الذي تتفتح له قلوب مَن انتفعوا بما خلقه الله تعالى لهم من آلات الاستقبال هداه، على خلاف من أصم الله سمعهم وأعمى أبصارهم، وختم تعالى تلك الآيات العظيمة بعلو همة المسلمين الصادقين الذين لا يقنعون بأن يكونوا من المتقين فقط، بل يدعونه تعالى ويلحون عليه بأن يقر أعينهم بصلاح أسرهم من الأزواج والذرية وأن يكونوا أئمة لعباده المتقين.
اقرأ تلك الآيات وتأملها من الآية: (63) إلى آخر السورة المذكورة، هذا مثال واحد وصفحات القرآن مليئة بما ذُكر.
وهو أسلوب يختص به كتاب الله تعالى، فإذا رجعت إلى كتب أهل العلم وجدت فيها من الترتيب ما يجعلك تقرأ فيها موضوعات مستقلة، هذا كتاب يتعلق بالعقيدة، وفيه من التبويب والتفصيل ما يجعل لكل موضوع منها قسمه الخاص، وهذا كتاب يتعلق بالعبادات بأنواعها المستقل بعضها عن بعض، ككتاب الطهارة وكتاب الصلاة، وهكذا لا فرق بين كتب الفقه وأصوله وكتب الحديث وشروحها، وكتب الأخلاق وغيرها، وكلها المقصود بها بيان أمور الإسلام، ولكن مؤلفيها بوبوها هذا التبويب تقريباً لموضوعات العلم لطلابه.
فعلى الأستاذ أن يعالج نفسه أولاً من أي مرض من هذه الأمراض، إن وجد نفسه تتصف بشيء منها، بتتبع الآيات التي تعالج مرضه في مواضعها المتعددة في القرآن عندما يقرأ القرآن بتدبر قاصداً من ذلك علاج نفسه من ذلك المرض، وأن يدرب طلابه كذلك على معالجة أنفسهم من أمراضهم بتلاوة القرآن وتدبره قاصدين علاج أنفسهم من أمراضهم.
إن فعل ذلك من أعظم ما يشفي من أراد شفاء أمراض نفسه من المسلمين، ومن طلب شفاء أمراضه المعنوية من غير كتاب الله وسنة رسوله، فحري به أن تتضاعف عليه تلك الأمراض وغيرها، فلا شفاء منها إلا في كتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس]
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82)}. [لإسراء]
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}. [فصلت]
ولم يزيد الظالمين خسارا، وهو عليهم عمى؟ لأنهم كلما تمادوا في مخالفته، وتعاطوا ما أي معصية حرمها عليهم، وحذرهم منها، تزداد قلوبهم بعدا عن الله وتكثر عليهم الآثام.
فتلاوة هذا الكتاب هي البند الأول من بنود دعوة إبراهيم عليه السلام، لوظيفة الرسول الذي دعا ربه أن يبعثه في هذه الأمة كما سبق {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} هذا الكتاب هو آخر كتب الله التي أنزلها على رسله، ولم يبق كتاب سماوي غيره يجب اعتماده في الهداية إلى صراط الله المستقيم.
وقد أمر الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم، بتلاوة القرآن، فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ...(45)}. [لعنكبوت]
وقال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، مبينا امتثال أمره بتلاوته: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ... (92)}. [لنمل]
فقد نفذ صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فداوم على تلاوته لنفسه وعلى الناس يدعوهم به إلى الله تعالى، وكان جبريل عليه السلام، يدارسه القرآن كل ليلة من ليالي رمضان.
كما روى ابن عباس رصي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة". [صحيح البخاري (1/72) دار إحياء العلوم بيروت ومسلم (4/1803) دار إحياء التراث العربي بيروت.]
وقد كان الصالحون من السلف يحرصون على كثرة قراءة القرآن الكريم، حتى إن أحدهم كان يختمه في ركعة واحدة، كما ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله، قال: "وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يُحصون لكثرتهم، فمنهم عثمان بن عفان، وتميم الدّاري، وسعيد بن جبير‏"..
ولعل هذا يبين لنا ذلك النداء الحزين الذي اتجه به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى ربه شاكياً قومه الذين هجروا كتابه الذي فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى عنه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}. [لفرقان]
وإذا كانت شكواه صلى الله عليه وسلم، من المشركين الذين حاربوه وحاربوا دينه، فإنها تشمل من هجر هذا الكتاب، تلاوةً واتباعاً وتطبيقاً، بل ومحاربةً أحياناً ـ ممن انتسب إلى الإسلام من أمته، كما هو الحال في زمننا هذا الذي عُزل فيه كتاب الله وسنة رسوله عن حياة غالب الشعوب الإسلامية، واستُبدل به غيره من الأنظمة البشرية المخالفة له.
وروي عن أنس  ما يدل على هذا الشمول، حيث قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجوراً فاقض بيني وبينه). [نقله القرطبي عند تفسير آية الفرقان السابقة عن الكلبي.]
ولكن الإكثار من قراءة القرآن هو الذي لا يضيع على صاحبه فهم معاني القرآن، ولا يفوت عليه أداء عمل أو وظيفة تعين عليه القيام بها، ولهذا عقب النووي على كلامه السابق قائلا: "والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له فهم ما يقرأ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الحكومات بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامَّة للمسلمين، فليقتصر على قدر لا يحصل له بسببه إخلالٌ بما هو مرصد له ولا فوت كماله، ومن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثْر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة‏". [لأذكار]
فعلى الأستاذ أن يغرس في نفوس طلابه حبَّ كتابِ الله وحفظه، والإكثار من تلاوته، لينالوا بذلك الفضل الكبير الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من تبعه، لا يُعوْجُّ فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقصني عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، فاتلوه فإن الله عز وجل، يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أنى لا أقول: ألم، ولكن ألف ول ام وميم ثلاثون حسنة). [رواه البيهقي في سننه الصغرى.]
وإن كثيراً من هذه الأمة – حتى من المسلمين - قد جفا القرآن الكريم وابتعد عن تلاوته، لأسباب كثيرة، من أهمها ضعف الإيمان، واتباع الأهواء والاستجابة لوساوس الشيطان وسلوك سبله، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة والإقبال على لعبها ولهوها وكثرة الملهيات التي طغت على الحياة في هذا العصر، والغفلة عن الله تعالى وعن الموت وما يتبعه من اختبار في القبور وفوز ونعيم لعباد الله المتقين، وعذاب للكفار والمنافقين والفاسقين، وعن يوم القيامة يوم الفصل الذي تتغير فيه الأحوال، وتعظم فيه الأهوال، وما فيه من البعث والنشور ومرور الصراط، وما تنتظره زمر الكفر من خزي وعقاب، وزمر المؤمنين من نعيم وثواب.
تدبر القرآن:
ولا بد لتالي كتاب الله من إحضار قلبه وعقله عند تلاوته، متدبراً ما يتلوه من آياته، مفتشاً عن نفسه بين سطورها، في إيمانه وعقيدته، وفي تقواه وعبادته، وفي تسليمه لمنهج ربه وطاعته، وفي كل شأن من شؤون حياته في سفره وإقامته.
فقد أنزل الله هذا القرآن إلى رسوله، ليتدبره الناس تدبراً يحدث لذوي العقول التذكر الذي يربطهم بما فصله الله تعالى فيه من أمر يُطاع ونهي يُجتنب، وسلوك يتخلق به، وثواب يرغب فيه، وعقاب يخاف منه.
وإن ما نراه اليوم في حياة المنتسبين إلى الإسلام، من مصائب التفرق والاختلاف والنزاع المؤدي إلى الفشل، ومن التحزبات البغيضة، التي عصفت بهذه الأمة، وأخزتها بين أمم الأرض، وجعلها تتهارش فيما بينها تهارش القرود في الغابات، وجعل أعداءها تسود عليها، وتأمرها فتطيع في معصيىة الله، لهو بعد غالب حكامها وشعوبها عن تلاوة هذا القرآن وتدبره وفقه معانيه والعمل بما فيه:
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)}. [ص]
وسوف لا يكون لهذه الأمة عزة ولا كرامة من لدن العزيز الكريم، إلا يوم تتلو كتابه وتتدبره وتعالج أمراضها بشفائه وهديه، وتتذكر صَغارها وذلَّها، وأن ذلك لا يرفع عنها، إلا برجوعها إليه، لا إلى طلب عزتها من أعدائها، ونسيانها لربها: {بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)} [لنساء]




السابق

الفهرس

التالي


16306904

عداد الصفحات العام

3407

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م