دعاء الله والاسنعانة به
وإن من أعظم ما يحقق للأمة المخرج من الضيق والحرج اللجوء الصادق إليه بدعائه والاستغاثة به والثقة الكاملة باستجابته تعالى، والاستهانة بكل القوى الأرضية المادية؛ لأنه تعالى هو الذي خلق القوي والضعيف والظالم والمظلوم، ووعد سبحانه بتدمير الجبابرة والإطاحة بالظلمة، كما وعد بنصر المظلومين وإعلاء شأنهم، هذا المعنى اليوم غائب عن عامة المسلمين، ولا سيما من بيدهم أزمة الأمور، فقد استقر في أذهانهم أن القوي لا يمكن أن يُغلب، وأن الضعيف يجب أن يستسلم للأمر الواقع ولا يحاول الخلاص؛ لأنه لو حاول الخلاص ازداد عليه ظلم القوي وأوغل في استعباده، وأن الحل هو المزيد من استخذاء الضعيف للقوي، والمزيد من اللجوء إليه والخضوع له، ولهذا نسوا ربهم الذي لا ملجأ ولا منجا لهم منه إلا إليه، ونسوا قرآنهم الذي هداهم إلى اللجوء إلى ربهم ودعائه والاستعانة والاستغاثة به، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}. [البقرة]
نعم من شرط استجابة الله دعاء الداعي فرداً كان أو جماعة، أن يستجيب لربه الذي يدعوه، يستجيب له في كل شأن من شؤون حياته على ضوء منهاج القرآن والسنة.
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}. [غافر]
نعم لا يستجيب الله تعالى إلا لمن خضع له وذل، لا لمن نأى بحانبه عنه واستكبر، وعفت جبهته عن السجود له، وقسا قلبه عن ذكره، وهذا شأن كثير من الناس لا يذكرون الله تعالى إلا قليلاً، ولكنهم يذكرون من يظنون أن الشأن كله بيدهم من أقوياء المادة.. قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}.[الأنفال]
والذي يقارن بين ضعف المسلمين المادي، وقوة المشركين المادية، وما أعقب ذلك من نصر المسلمين على المشركين يوم بدر، يعلم حقيقة الاستغاثة بالله وما ترتب عليها من نصر الله الشامل بجنوده الأرضية والسماوية.
وفي تاريخ الأمم الماضية التي حكاها لنا الله تعالى في كتابه، ما يبين لنا استجابة الله تعالى دعاء من استغاث به ونصره له، وإن بدت القوة المادية في جانب عدوه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ..(251)}. [البقر]
وقال تعالى عن أنبيائه وأصحابهم الذين جاهدوا حق جهاده: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)}. [آل عمران]
ومعلوم ما جمع الله تعالى به بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأبيه إبراهيم في قوة التوكل على الله تعالى، حيث نطق كل منهما بست كلمات في جملتين في وقت الشدة، فكفاهما الله ما أهمهما، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهـما، قال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. [صحيح البخاري (4/1661) دار إحياء التراث العربي.]
ومعلومة كذلك قصة الثلاثة أصحاب الصخرة الذين انسدت عليهم فلجئوا إلى الله مستغيثين به، ففرج الله عنهم ما وقعوا فيه من الضيق. [صحيح البخاري (2/771) 17(/52]
وليس معنى دعاء الله والاستغاثة به الاقتصار على ذلك والقعود عن الأخذ الأسباب المادية التي أمر الله تعالى بها في القرآن وأمر بها رسوله في سنته، ونسيان سنن الله الكونية، فقد أمر تعالى مع أمره بالتوكل عليه، بإعداد القوة التي ترهب أعداء الإسلام والمسلمين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال]