إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

(014)طل الربوة - وفي الرحلات استجمام ومقاصد:

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • (014)طل الربوة - وفي الرحلات استجمام ومقاصد:




    الدراسة مهما كانت مشوقة ومفيدة، يحرص عليها الجادون من الأساتذة والطلاب، لما فيها من غذاء للعقول بمعانيها المتنوعة، واطمئنان إلى ذكر الله وعبادته، وتطهير للقلوب من أدران المعاصي ووساوس الشيطان، مهما كانت كذلك، فإن أصحابها يحتاجون إلى تغيير في نمط حياتهم، وتنوع في تغير أجواء نشاط أجسادهم وتفكير عقولهم.

    ومن أهم ما يمكنهم من ذلك التغيير وذلك التنوع الرحلات، التي ينتقلون فيها من مكان طال مقامهم به ولم يعودوا يتفكرون في شيء فيه ولو كان ـ في الأصل من آيات الله في الكون ـ كالجبال والبحار والأنهار والحيوانات إلى مكان آخر لم تطل إقامتهم فيه، ولم يألفوا النظر إلى مخلوقات الله التي يضمها المكان الجديد.

    إنهم سيحسون في المكان الذي انتقلوا إليه بأحاسيس جديدة ويشعرون بتفكر غريب؛ لأن ألفتهم للأول تفقدهم تلك الأحاسيس وتنسيهم ذلك التفكير.

    وعلى سبيل المثال: إذا كنت تسكن في منطقة جبلية، تضم جبالاً شاهقة، وطرقاً مكسوة بالأشجار السامقة تتخللها جداول صغيره من المياه التي ترويها، ويكسو قممها بساط أخضر من الجليد في الشتاء، تتجمع بينها بحيرات من المياه، تحيط بها الغابات ذات الأشجار المتنوعة المغروزة بين الأعشاب.

    إنك لكثرة رؤية هذه الآيات العظيمة التي تدل على كمال القدرة الإلهية، ستفقد التفكر فيها، وتنسى هيبتها الدالة على عظمة من أوجدها؛ لأنك قد ألفتها ألفة أورثتك الغفلة عن تلك العظمة.

    فإذا انتقلت إلى سواحل البحار والمحيطات، ورأيت أمواجها المتلاطمة كل موجة تتبع أختها في تسابق مدهش، يتصاعد رشاشها بالأمتار في السماء، ورأيت الأسماك بألوانها المختلفة وأحجامها المتنوعة، وغير ذلك من عجائب البحر، كطحالبه وأشجاره وكهوفه، وما تجري فيه من المراكب والسفن العملاقة الحديثة، إذا انتقلت إلى هذه السواحل وبحارها، تجدد عندك الإحساس بعظمة الله في الكون حتى لتشعر أحياناً بأنك ولدت هذه اللحظة التي أحسست فيها هذا الإحساس، وشعرت هذا الشعور.

    وقس على ذلك الذي يعيش في مدينة تناطح عماراتها السحاب، وتتلألأ فيها أنوار الكهرباء، وتصم

    الآذان فيها أصوات السيارات ومحركات المصانع، وتشغل فيها الفضائيات ذات البرامج المختلفة والأهداف المتنوعة السكان في داخل غرف نومهم، فيرحل من مدينته تلك إلى الأرض الفضاء المكسوة بالعشب والمراعي، تنتشر فيها قطعان الأنعام الثمانية، تسرح حيث تشاء، يشعر من يراها بجمال منظرها، المتنوع في الصغر والكبر والألوان، وكلها من آيات الله العظيمة، والهدوء التام يخيم على المنطقة والهواء الطلق يهب في جنباتها، إذ يتغلغل الأكسجين إلى الجسم صافياً سليماً من شوائب دخان المركبات والمصانع التي تملأ المدن وأجواءها.

    رحلات مشاعر العبادة:

    ومن الأمكنة التي يشعر الأساتذة والطلاب المسلمون بتغيير الأجواء فيها تغييراً يملأ القلب بالطمأنينة والنفس بالبهجة والراحة، مشاعر العبادة التي تفوق أي موقع في الأرض، وليتصور الأستاذ وطلابه أنهم انتقلوا من مسجد صغير في حيهم يؤمه عدد قليل من المصلين، إلى أكبر جامع في مدينتهم يؤمه الآلاف من المصلين، بل ليتصوروا أنهم انتقلوا من الجامع الأموي في دمشق إلى المسجد الأقصى، ثم انتقلوا من الأقصى إلى المسجد النبوي ونالوا حظهم من جوار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الروضة ما بين منبره وبيته الذي أصبح قبراً له ولصاحبيه، فيتذكرون في لحظات نزول جبريل صباح مساء في هذه البقعة المباركة، ويتذكرون تلك الحلقات التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعقدها لأصحابه ليتلو عليهم فيها الآيات التي نزل بها جبريل عليه السلام، من السماء جديدة طرية، ويعلمهم هناك الكتاب والحكمة ويزكيهم، كما أمره الله.

    كما يتصورون ألوية رجال الدعوة الذين كان صلى الله عليه وسلم، يرسلهم لنشر دين الله بين الرعاة والرعية في البلدان المجاورة للمدينة وللجزيرة العربية جضاً لهم إلى الدخول في دين الله، وكذلك يتذكرون ألوية الجهاد التي كان يعقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لجحافل أصحابه مباشرة، لتأديب أئمة الكفر الذين يقفون سدوداً ضد البلاغ المبين الذي أمر الله به رسوله الأمين.

    ثم انتقلوا إلى المسجد الحرام فطافوا وسعوا وجاوروا الكعبة المشرفة التي كانوا يستقبلون جهتها، فأصبحوا يستقبلون عينها، ويتذكرون ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، من الأذى والفتنة من صناديد قريش الذين حاولوا بكل ما أوتوا من قوة لحماية 360 صنماً بجوار الكعبة من تأثير (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فيجدون الكعبة قد طهرت من تلك الأصنام وحماتها، ولم يبق فيها إلا كلمة الله التي يرفعها المؤذنون في المسجد الحرام والآيات التي يتلوها أئمته في صلواتهم الخمس.

    كيف سيكون شعور أعضاء هذه الرحلة المباركة من الأساتذة والطلاب؟

    لقد كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قدوة للأساتذة والطلاب في شدِّ الرحال للرحلات للتعليم والدعوة وطلب العلم، كما حصل لإبراهيم عليه السلام، وابنه إسماعيل عليه السلام، الذي رحل به إلى مكة وهو رضيع ولوط عليه السلام، وهكذا موسى عليه السلام، الذي رحل إلى مدين وبقي فيها ثماني سنوات أو عشراً، وفي طريقه وهو راجع من مدين إلى مصر اصطفاه الله لرسالته، كما رحل إلى لقاء الخضر لطلب العلم.

    ورحل الصحابة رضي الله عنهم، إلى الحبشة في هجرتيهم الأولى والثانية، ليتمتعوا بدينهم أحراراً من اضطهاد قريش وأذيتهم، بل رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته من المسجد الحرام إلى المدينة التي انطلق منها سفراء الدعوة وقادة الجهاد في سبيل الله إلى الأرض التي نشروا فيها دين الله في كل بقعة استطاعوا الوصول إليها.

    ومَن مِن المسلمين لا يشتاق إلى الرحلة التي أمر الله إبراهيم عليه السلام، أن يدعوهم إليها، بعد أن رحل بابنه الرضيع "إسماعيل" وأمه "هاجر" عند بيته الحرام ليستقبلا فيه من استجاب لدعوة إبراهيم، الذي رفع قواعده: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}. [[إبراهيم]]

    وقال تعالى أيضاً: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}. [[الحج]]

    تدريب الأستاذ طلابه على الرحلات:

    لذلك ينبغي أن يقوم الأستاذ بتدريب طلابه على الرحلات، أهدافها والتخطيط لها والإعداد لها وتنظيمها، وتنفيذها، لما في ذلك من الفائدة لهم على تحمل المسؤولية، وخدمة أنفسهم وخدمة الآخرين مع التدريب على الإيثار والتضحية، ويمكن اتباع طريقة التعيين لمجموعة من الطلبة، وتكليفهم التخطيط للرحلة، مع توجيههم إلى الأمور الآتية:

    الأمر الأول: تحديد المكان والزمان (استعداداً وبدءً وعودة).

    الأمر الثاني: تحديد وسيلة النقل.

    الأمر الثالث: عدد المشتركين حسب الظروف والحاجة.

    الأمر الرابع: المال الكافي للرحلة.

    الأمر الخامس: المنهج الثقافي وتوزيعه، مع مراعاة شموله ومناسبته، ويُعْنَى بالهدف الذي أُنشئت الرحلة من أجله.

    الأمر السادس: تعيين الأساتذة الذين يمكن الاستفادة منهم.

    الأمر السابع: تقسيم المشتركين في الرحلة إلى لجان، كل لجنة تقوم بمهمة محددة واضحة، مع الحث على التعاون العام.

    الأمر الثامن: إرشاد أعضاء الرحلة إلى ما ينبغي اتخاذه، من الحيطة في الملابس والبسط والأغطية أو غير ذلك.

    الأمر التاسع: ينبغي ألا تستمر مجموعة واحدة من الطلبة في التخطيط للرحلات كلها، بل يكون ذلك بالتناوب، بحيث يعلم أن هذه المجموعة أجادت فهم التخطيط والتنظيم للرحلات، فتكلف بعدها مجموعة أخرى وهكذا.. وليتمكن الأفراد كلهم أو أغلبهم من التدرب على ذلك.

    الأمر العاشر: تحديد وقت الرحلة.

    الأمر الحادي عشر: يجب أن يوضح المُكَلِّف مراده توضيحاً كاملاً، وعلى المكلَّف فهم ذلك وتوضيحه
    لمن يبلغهم عن الرحلة، وعلى الأفراد المبلَّغين فهم ذلك أو التأكد منه بالاستيضاح.

    الأمر الثاني عشر: على كل واحد من أعضاء الرحلة أو مجموعة منها، عدم تجاوز اختصاصهم حتى لا تضطرب الأمور وتتمكن الفوضى، فالنظام يقتضي الالتزام، ومعرفة كل فرد أو جماعة حدودهم.

    الأمر الثالث عشر: على كل لجنة حلّ مشكلاتها بوساطة رئيسها، وفيما بينها وإذا لم يتمكنوا، فليرفعوا أمرهم إلى المسؤول المختص حتى تسير الأمور بانتظام.

    الأمر الرابع عشر: لا بد في الرحلة الخلوية ـ والليلية منها بالأخص ـ من كلمة سر يعرف بها الدخيل من الأصيل.

    مشروع منهج الرحلة:

    مدارسة القرآن الكريم وشيء من تفسيره.

    تلخيص بعض الكتب أو كتابة بعض البحوث في موضوعات معينة تقرأ في الرحلة على أن يكون التكليف بذلك قد سبق بوقتٍ كاف.

    القراءة في بعض كتب الحديث، لا سيما كتب الترغيب والترهيب.

    قراءة تراجم بعض الشخصيات الإسلامية من الأنبياء والصحابة والدعاة والمجاهدين، للاستفادة من حياتهم التطبيقية علماً وعملاً ودعوة وتحملاً.

    الإكثار من ذكر الله الوارد مطلقاً ومقيداً.

    مذاكرة بعض المشكلات التي تعترض الطلبة في سيرهم الدراسي أو الدعوة إلى الله وحلها.

    القيام ببعض التمرينات الرياضية المفيدة يشترك فيها الأساتذة والطلاب جميعاً، كالسباحة، وكرة القدم، وكرة السلة، سباق الجري، وجر الحبل وغيرها.

    زيارات بعض الشخصيات في المنطقة التي تكون فيها الرحلة في الأوقات المناسبة للزيارة، مع مراعاة عدم التثقيل على المزور، وزيارة بعض المساجد للقيام بإلقاء بعض الكلمات والنصائح لأهل القرية أو المدينة.

    تبادل الهدايا ولو قلت (تهادوا تحابوا). [[الموطأ (2/908) قال المحقق: قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى "حسان كلها".]]

    عقد حلقات متنوعة مع الأساتذة كل في اختصاصه، فصاحب القرآن تعقد معه حلقات قرآنية لقراءة القرآن قراءة مجودة صحيحة، وتعقد حلقات مع المتخصص في الحديث للاستفادة منه في تخصصه، سنداً ومتناً وفقهاً، وتعقد مع المتخصص في التاريخ حلقة في تخصصه، كدراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الصحابة وغير ذلك لأخذ القدوة والعبرة من كل ذلك، وتعقد مع المتخصص في اللغة العربية والأدب حلقة في تخصصه.

    وينبغي أن يتخلل ذلك كله برامج ترويحية للأساتذة والطلاب، كالتمثيليات الهادفة، والمساجلات الشعرية وغيرها.

    كما ينبغي للأساتذة والطلاب أن يغتنموا الفرصة في رحلتهم للتعارف، من أجل توثيق الصلة بينهم بعد الرحلة، بحيث يتزاورون وتستمر بينهم اللقاءات والاجتماعات التي تعود عليهم جميعاً بالفائدة العلمية والتناصح والاستشارات وحل المشاكل التي قد تعترض بعضهم، ويستمر الطلاب في لقاءاتهم ولو كانت قصيرة كصلاتهم جماعة في مسجد واحد، وهكذا.

    انتهت حلقات كتاب طل الربوة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه


يعمل...
X