سبق في الحلقة الماضية، أن المسلمين الصادقين الذين يتحقق فيهم الإسلام، يملكون من الققوة المعنوية، ما لايملكها غيرهم، فإذا أعدوا معها ما يستطيعون من القوة المادية، تحقق لهم نصر الله لهم على من عاداهم واعتدى عليهم، وفي قصة جالوت مع طالوت دليل.
إن هذه القوة التي يملكها المسلمون، شاملة لكل قوة معنوية ومادية، إنها شاملة للتزكية، من ذكر الله تعالى الشامل من تسبيحه وتحميده والثناء عليه بما هو أهله، والتقرب إليه بالصلاة بكل ما فيها من ذكر، من القرآن وغيره في كل حركة وسكنة فيها، والصبر على البلاء الذي يعين عليه ذكر الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة].
قال سيد قطب رحمه الله، عند كلامه على هذه الآية: "إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة، والعبادة فيه ذات أسرار، ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف، كانت العبادة هي مفتاح القلب، لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر .. إن اللّه سبحانه حينما انتدب محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} .. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن .. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان." انتهى كلامه.
إنها عبادة الله في كل لحظة من لحظات الحياة، وتلك هي التي أرشد الله إليها رسوله – وكذلك جميع رسل الله - عندما يناله شيء من الأذى، ويضيق صدره بها، فيشرح الله بها صدره، فيصبر عليها مطمئنا راضيا، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه]
قال سيد قطب، رحمه الله عند كلامه على الآية: "فاصبر على ما يقولون من كفر واستهزاء وجحود وإعراض، ولا يضق صدرك بهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، واتجه إلى ربك، سبح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة، وفي هدأة الغروب والشمس تودع، والكون يغمض أجفانه، وسبح بحمده فترات من الليل والنهار .. كن موصولا باللّه على مدار اليوم .. «لَعَلَّكَ تَرْضى » .. إن التسبيح بحمد الله اتصال. والنفس التي تتصل تطمئن وترضى. ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي وتطمئن وهي في ذلك الحمى الآمن. فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة ، وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس ويترعرع في حنايا القلب." انتهى.
وأسوق ما في معنى الآية السابقة من الآيات التي أرشد الله رسوله وغيره من الرسل قبله، صلى الله عليهم وسلم، إلى ذكره، عندما يضيق صدره، من أذى قومه له واستهزائهم به وبالقرآن الذي أنزله الله عليه، ليثبت ويرضى:
قال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر]
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [الزمر]
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق]
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} [الطور]
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)} [المزمل]
ولا بأس أن أنقل بعض ما قاله سيد قطب رحمه الله، عما يحدثه ذكر الله تعالى عند القيام بتكليفات الله وما يصاحبها من الشدائد والمحن وهو يتحدث عن بعض من آيات المزمل هذه:
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} .
قال: "هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف ، والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر، ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب : {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} فأنزله اللّه على قلب أثبت من الجبل يتلقاه ..
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل، وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال باللّه، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ..
إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير." انتهى كلامه.
إن هذه الآيات، وما ذكره العلماء والدعاة إلى الله، تُظهر أن القائمين بالدعوة إلى الله، والطاعة له ولرسوله صَلى الله عليه وسلم، والحكم بما أنزل الله، بدلا من الحكم بالقوانين البشرية، المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله، يحتاجون إلى زاد دائم وطاقة قوية تثبتهم وتصبرهم، على ما يتعرضون له من الأذى والمحن، من أعداء الإسلام، وأن أعظم ما يثبتهم على ذلك، ويمدهم بالصبر، هو قوة الاتصال بالله تعالى، بذكره الذي لا يكلون منه ولا يملون، فليفقه ذلك الدعاة إلى الله بأي وسيلة مشروعة، ليصابروا أعداءهم، حتى ينصرهم الله. انتهى.