تزكيتهم بالعمل بما تفقهوا فيه:
دعا أبونا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما يبنيان أعظم بيت من بيوت الله في غابر التاريخ، أن يبعث الله تعالى في أمتنا التي ستبدأ رحلتها في عبادة الله والدعوة إليه، من هذا المسجد الحرام، رسولاً يقوم فيها داعياً إلى أصول تلك العبادة وفروعها، ومجاهداً في سبيل ربه لإرسائها ورفع رايتها في الأرض.
تلك الأصول هي تلاوة آياته التي سينزلها الله إلى ذلك المبعوث الكريم، الشاملة لقراءته لفظاً، والإيمان بها عقيدةً، واتباع منهجها شريعةً وعملاً وسلوكاً، وتعليمهم كتابه المشتمل على تلك الآيات، وما يبينه به من سنته، أو يشرعه بها، أمراً أو نهياً، أو يرشد إليه من سلوك وآداب.
وسنته صلى الله عليه وسلم، هي "الحكمة" كما ذكر ذلك كثير من العلماء، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله في كثير من كتبه، ومنها كتاب الرسالة والأم. وفسر ها بعض العلماء بأنها "المعرفة بالدين، والفقه في التأويل والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى".
ولا منافاة بين التفسيرين. فسنته الصحيحة تُعَرِّف بالدين، وتفقه في التأويل، وتكسب من ألم بها الفهم الصحيح لدين الله، وهي نور ككتاب الله. قال تعالى عن تلك الدعوة الإبراهيمية الإسماعيلية الضاربة في أعماق التاريخ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)}. [لبقرة]
استجاب الله دعوة الخليل وابنه إسماعيل
ولقد استجاب الله تعالى لتلك الدعوة الكريمة ومَنَّ على هذه الأمة بتحقيقها، مشتملة على تلك الأسس التي دعا الخليل وابنه أن يقوم بها ذلك الرسول المبعوث الكريم صلى الله عليه وسلم ، كما قال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)}.[لبقرة]
وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}.[آل عمران] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)}. [لجمعة]
وبتعليم هذه الأمة الكتاب والحكمة وتزكيتهم بهما، جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانت قبلها في تيه وضلال. كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.[ل عمران]
وقام الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الأصول التي دعا بها الخليل وابنه
وقام صلى الله عليه وسلم، بوظيفته التي كلفه الله القيام بها في أمته، من تلاوة آيات الله عليهم، ودعاها إلى الهدى، وبشر وأنذر، كما قال تعالى عنه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92)}. [لنمل]
التزكية تعني التطهير والتربية:
والتزكية الربانية التي يجب على الأستاذ صبغ طلابه بها هي التطهير من كل ما يُدَنِّس نفوسهم ويُدَسِّيها من شركٍ ومعاصٍ وسلوكٍ سيء، وأفكار تخالف دين الإسلام، ودعوتهم إلى الاستقامة على فطرة الله الصافية، وتمسكهم بمنهجه الذي كلفه وكلف أمته بعده الدعوة إليه.
فالتزكية تشمل تطهير القلوب وصقلها من كل ما يفسدها، كعقائد اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، وكل فكر يخالف ما جاء به الإسلام، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً... وإصلاحها بإحلال حقائق أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام وأحكامه محل تلك المفسدات، مع إقامة الحجج والبراهين على عقول أصحابها بصحة ما به صلاحها من هذا الدين، وبطلان ما به فسادها مما يخالفه.
وبطهارة القلوب يعم الصلاح كل عضو من أعضاء الإنسان
وإذا طُهرت تلك القلوب من الفساد، وحل محلها الصلاح؛ عمَّ الصلاح كل عضو من أعضاء أصحابها؛ ليصبحوا مستقيمين على جادة عبادة الله وطاعته، بعيدين عن مشاقته ومعاصيه. فالقلوب أئمة الأجسام، تصلح بصلاحها، وتفسد بفسادها، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}. [لحج]
وبفساد القلب تفسد كل أعضاء الإنسان
فجميع أعضاء الجسم تفسد إذا لم يكن القلب صالحاً، فلا العقول تؤدي وظيفتها فتعي ما ينفع صاحبها، ولا الآذان تسمع الداعي إلى ما ينجيه، ولا الأبصار ترى النور الذي ينتشر ضوؤه ليهديه إلى صراط الله المستقيم، فحياته إذا لم يكن قلبه حياً مبصراً، حياة من ذكرهم الله تعالى في القسم الثاني من هذه الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. [لأنعام]
أهل القلوب الطاهرة لا يجاوزون المشروع إلى الممنوع
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن أصحاب القلوب الصالحة المبصرة هم الذين لا يجاوزون الحلال إلى الحرام، بل يتقون الشبهات التي لا يظهر لهم حلها من حرمتها، وأن أصحاب القلوب الفاسدة العمياء يتقحمون تلك الشبهات التي تؤدي بهم إلى تعاطي ما هو بيِّنُ الحرمة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).[متفق عليه]
قال الحافظ في شرح الحديث في الفتح: "وخصَّ القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه".