من كتاب العبودية لابن تيمية:
(وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان فى الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر.
فالرجل اذا تعلق قلبه بأمرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو فى الظاهر سيدها لأنه زوجها وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها.
إنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذى لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن فإن من استُعبد بدنه واسترق لا يبالى إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال فى الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيما لغير الله هذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبَد القلبَ، وعبودية القلب وأسره هي التى يترتب عليها الثواب والعقاب.
إن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائما بما يقدر علي من الواجبات، ومن استُعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه، له أجران ولو اكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك، وأما من استُعبد قلبُه صار عبدا لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان فى الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى النفس قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس). وهذا لعمري إذا كان قد استعبَد قلبَه صورة مباحة فأما من استعبد قلبه صورةمحرمة أمرأة أوصبى فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه.
وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقا بها مستعبَدا لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه.
وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين كما قيل:
سَكران سُكرَ هوى وسكر مدامة،،،،،،،،ومتى إفاقة من به سكران.
وقيل: قالوا:
جننت بمن تهوى فقلت لهم،،،،،،،،،،،،،العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه،،،،،،،وإنما يصرع المجنون فى الحين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شىء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفا من مكروه.
فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصورة والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء باخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى فى قلبه انقهر له هواه بلا علاج، قال تعالى: {ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله وحصول هذا المحبوب أكبر من مندفع المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.)