الأمر الخامس: مما يعين على الإخلاص:
أن العبد لا يدري عن الخاتمة التي يختم الله بها عمله، فقد يبقى ظاهره الصلاح حتى يقترب أجله فينقلب صلاحه إلى ضده، فينبغي أن يبقى خائفاً وجلاً داعياً ربه الذي يقلب قلوب عباده، أن يُثَبِّت قلبه على الإيمان، والعمل الصالح، ويختم له بخاتمة حسنة.
ففي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) ـ في رواية: (نطفة) ـ (ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار) [صحيح البخاري (3//1174) وصحيح مسلم (4/2036)]. وليس لأحد أن يحتج بأن الله قد قدر حسن الخاتمة أو سوأها، فيتكل على ذلك ويترك العمل للأسباب الآتية:
السبب الأول: أن الله تعالى قد أمر بالعمل، والواجب تنفيذ أمر الله، والذي لا ينفذ أمر الله عاص، فهو يبذل الأسباب التي ينال بها غضب الله تعالى سخط الله في الدنيا وعذابه في الآخرة، مع أنه يبذل الأسباب لجلب منافعه في الدنيا، ويجتهد في درء المفاسد عنه فيها، فلِمَ لا يترك العمل للدنيا كما تركه للآخرة، ويتكل على القدر؟! أليس بذل غاية الجهد للآخرة التي يكون فيها سعيداً بالعمل الصالح والخلود الأبدي في دار النعيم، أولى من الحياة الفانية؟!
السبب الثاني: أنَّ قَدَرَ الله تعالى بأنه سيكون حسن الخاتمة أو سيئها، أمر غيب عنه، وليس من الحكمة والعقل أن يترك ما فيه مصلحة ظاهرة، أو يرتكب ما فيه مفسدة ظاهرة، لأمر لا يعلم عنه شيئاً، ومثل هذا كمثل ألف طالب هددهم أستاذهم بأنه سيرسب عشرة منهم أو أقل أو أكثر بدون تعيين، ممن يعرف أنهم لا يقومون بواجباتهم التي ألزمهم بها، فتركوا كلهم أو بعضهم مذاكرة دروسهم من أول العام، وقالوا: إنه سيرسبنا سواء ذاكرنا أم لم نذاكر، فهل لهم من حجة في ترك المذاكرة؟! والاحتجاج بتهديد الأستاذ! كلا.
السبب الثالث: أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد وردت عليهم هذه الشبهة عندما ذُكر لهم أن الله قد كتب السعادة لكل سعيد، وكتب الشقاوة لكل شقي، في سابق علمه، فسألوه قائلين: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فأجابهم بالنفي وأمرهم بالعمل.
كما في حديث علي رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض، فقال: (ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من النار ومقعده من الجنة) قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة)، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الآيات من سورة الليل، والحديث في صحيح البخاري (4 /1891) وصحيح مسلم (4/2040)].
فكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحكمة والعقل، تبطل استدلال من اتكل على القدر، وترك العمل، كما هو واضح. [في مبحث الإيمان بالقدر في كتاب "الإيمان هو الأساس" للمؤلف زيادة بيان. الطبعة الأولى1418هـ ـ 1997م، دار القلم بدمشق، ص: ]235.