الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين… فإني أقدم هذه القطوف المفيدة، للأستاذ الذي جعل همه تعليم العلم والعمل به، وغرسهما في نفوس تلاميذه، وللتلاميذ الذين يهمهم التلقي السليم المفيد، الذي يثمر في نفوسهم العلم والعمل. أسأل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين بها، إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على خير المعلمين والمزكين، وعلى آله وصحبه خير من تلقى عنه وطبق ما تعلمه في واقع الحياة.
تمهيد: قوة الصلة بالله:
إن أول هدف يجب أن يضعه الأستاذ والطالب على السواء نصب أعينهما، هو أن يكون الغرض من التعليم والتَّعَلُّم، قوة الصلة بالله وعبادته سبحانه على الوجه الذي يرضاه، فإن عبادته هي الغاية من خلقنا. كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}. [لذاريات] وعبادة الله شاملة لكل ما يتقرب به المسلم إلى ربه، سواء كان فعلاً واجباً أو مندوباً أو مباحاً، يقصد به وجه الله، أو ترك محرم أو مكروه، أو ترك مباح يبتغي به وجه الله.
كيف تُحقَّق قوة الصلة بالله؟
وتتحقق قوة الصلة بالله بأن يكون المؤمن كله لله تعالى. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}. [لأنعام] ولنفصل ذلك بعض التفصيل فيما يأتي:
تفقيه الأستاذ طلابه في الدين وتزكيتهم بالوحيين:
فعبادة الله والدعوة إلى الله تعالى لا بد أن يكون مصدرُهما الوحيين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقيهما يجب أن يكون على أيدي من وفَّقَه الله تعالى للتفقه فيهما؛ لأن الفقه فيهما شرط أساسي لمن يريد أن يعبد الله أو يبلغهما إلى الناس.
ومشايخ العلم الذين تفقهوا في دين الله تعالى هم المؤهلون للتبليغ، ومن أراد أن يتأهل للبلاغ المبين يجب أن يتفقه في الدين على أيديهم كما تفقهوا هم على أيدي الشيوخ من قبلهم. هؤلاء العلماء المؤهلون لتبليغ دين الله والتزكية به، هم العلماء العاملون بما تعلموه، المتزكون به في أنفسهم، الذين يرى فيهم أتباعهم القدوة الحسنة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن من لا يعمل بعلمه ليس أهلاً لتبليغ رسالة الله، وليس أهلاً لتزكية غيره بها.
تلقبي الرسول الوحي من جبريل الذي من ربه وتلقى الصحابة علمهم من الرسول
فقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، آيات كتاب الله عن الروح الأمين جبريل عليه السلام، الذي أخذه مباشرة عن ربه سبحانه وتعالى، كما تلقى أصحاب الرسول، ذلك الكتاب والسنة النبوية عنه صلى الله عليه وسلم.
وتلقى أبناء الصحابة العلم من آبائهم وتلقى التابعون العلم من صغار الصحابة
وتلقى عن الصحابة ذلك أبناؤهم، وتلقى كبار التابعين عن صغار الصحابة، وهكذا استمرت أجيال الأمة يأخذ اللاحق عن السابق حتى وصل إلينا. وهكذا يجب على علماء المسلمين وطلابهم أن يسيروا على نفس الطريقة في التعليم والتزكية.
فليس تلقي العلم من الكتب والمذكرات بدون شيخ علما
ومن حاد عنها فتتلمذ على الكتب والدفاتر لنفسه دون شيخ يفقهه على قواعد أهل العلم ويصقل عقله وقلبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته المطهرة، لم يكن أهلاً للتعليم والتزكية لغيره؛ لأنه ما فعل ذلك أحد إلا زاغ غالباً عن النهج الصحيح العاصم من الزلل. كما سبق قول الشاطبي رحمه الله: "وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحداً مخالفاً للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف".
الحرص على حفظ العلم للعمل به وتبليغه:
قال تعالى ناهيا رسوله عن العجلة في حفظ القرآن، حرصا على ضبطه، وخشية من نسيان بعضه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}. [طه] "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم، يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على الحفظ، وشفقةً على القرآن مخافةَ النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ..}. [لجامع لأحكام القرآن للقرطبي]
ومثل آية طه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}.[لقيامة]
وفي هذه الآيات وعد له صلى الله عليه وسلم، من الله تعالى بأن يجمع له هذا القرآن كله في صدره ليقرأه كاملاً بدون تكلف، وهو من حفظ الله لهذا الكتاب الذي أكده تعالى في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. [لحجر]
ولا بد لحافظ القرآن من مراجعته باستمرار
وقد كان جبريل يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كل ليلة من ليالي رمضان كل سنة كما روى ابن عباس رضي الله عنهـما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله، أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي لفظ: "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السلام، كان يلقاه، في كل سنة، في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله القرآن...". [لبخاري ومسلم].
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرص هذا الحرص الشديد على حفظ الوحي، ليبلغه إلى الناس، فهو قدوة لكل طالب علم بأن يستفرغ وسعه في حفظ العلم وضبطه، ليكون أهلاً للاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، والعلم لا يأتي بدون كد وتعب في الحفظ والفهم.
فلا بد من الجد والمثابرة في طلب العلم، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتب أهل العلم الذين يتمسكون بهما، ولا يقدمون عليهما قول أحد كائناً من كان، والاجتهاد في كل علم نافع للطالب ولأمته، لكنه يوجد فرق بين كيفية حفظ الرسول للقرآن، وحفظ غيره من أمته، فهو لا يحتاج إلى إجهاد نفسه في حفه، لأن ربه ضمن له جمعه في صدره دون أن يجهد نفسه في حفظه.
أما غيره، فليس مضمونا له حفظ القرآن بدون جد واجتهاد وتكرار ومداومة على مراجعته، والتساهل في ذلك يحرمه من دوام حفظه، وطلب العلم من حيث هو أو القعود عنه، يؤدي إلى لهبوط إلى الجهل، والقعود عن معالي الأمور التي لا تنال بدون العلم وإخلاص العمل فيه لله. ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، من حفظ كتاب الله بتعهده ومراجعته، كما في حديث أبي موس الأشعري: (تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، هو أشد تفصيا، من الإبل في عقلها) [صحيح البخاري]
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "فحُقَّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم، في الاستكثار من علمه، والصبر على عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام كتابه، نصاً واستدلالاً، وفَّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريبُ، ونوَّرت في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضع الإمامة". [لرسالة بتحقيق أحمد شاكر، صفحة 19.]