إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

    24-05-2014, 09:37 am


    [المقصود بالعمران إجمالا: الاجتماع البشري وحضارته]

    اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها و مصيرها انتهابها من أيديهم.

    و إذا ذهبت آمالهم في اكتسابها و تحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، و على قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب.

    فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، و إن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته.

    و العمران و وفوره و نفاق أسواقه إنما هو بالأعمال ،و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين و جائين، فإذا قعد الناس عن المعاش و انقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران و انتفضت الأحوال، و ابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها.

    فخف ساكن القطر و خلت دياره و خرجت أمصاره و اختل باختلاله حال الدولة و السلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة.

    و انظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم، أيام بهرام بن بهرام و ما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم، و الغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك، على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها و سأله عن فهم كلامها؟

    فقال له: إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى، و إنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، و قال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية و هذا أسهل مرام.

    فتنبه الملك من غفلته و خلا بالموبذان و سأله عن مراده فقال له أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه، و لا قوام للشريعة إلا بالملك، و لا عز للملك إلا بالرجال، و لا قوام للرجال إلا بالمال، و لا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، و لا سبيل للعمارة إلا بالعدل.

    و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب، و جعل له قيما و هو الملك، و أنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها و عمارها، و هم أرباب الخراج و من تؤخذ منهم الأموال و أقطعتها الحاشية و الخدم، و أهل البطالة فتركوا العمارة، و النظر في العواقب و ما يصلح الضياع و سومحوا في الخراج لقربهم من الملك.

    و وقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج و عمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم و خلوا ديارهم، و أووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة و خربت الضياع، و قلت الأموال و هلكت الجنود و الرعية، و طمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك، لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.

    فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، و انتزعت الضياع من أيدي الخاصة و ردت على أربابها، و حملوا على رسومهم السالفة و أخذوا في العمارة، و قوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض و أخصبت البلاد، و كثرت الأموال عند جباة الخراج، و قويت الجنود و قطعت مواد الأعداء، و شحنت الثغور و أقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه و انتظم ملكه. فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران، و أن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد و الانتقاض.

    و لا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها و لم يقع فيها خراب، و اعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء و أحوال أهل المصر، فلما كان المصر كبيرا و عمرانه كثيرا و أحواله متسعة بما لا ينحصر،كان وقوع النقص فيه بالاعتداء و الظلم يسيرا لأن النقص إنما يقع بالتدريج.

    فإذا خفي بكثرة الأحوال و اتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين، و قد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب و تجيء الدولة الأخرى ،فترفعه بجدتها و تجبر النقص الذي كان خفيا فيه فلا يكاد يشعر به، إلا أن ذلك في الأقل النادر.

    و المراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر و اقع لا بد منه لما قدمناه، و وباله عائد على الدول. و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سببكما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه.

    فجباة الأموال بغير حقها ظلَمة، و المعتدون عليها ظلمة، و المنتهبون لها ظلمة، و المانعون لحقوق الناس ظلمة، و خصاب الأملاك على العموم ظلمة، و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها، لإذهابه الآمال من أهله.

    و اعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، و هو ما ينشأ عنه من فساد العمران و خرابه، و ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، و هي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال.

    فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما، و أدلته من القرآن و السنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط و الحصر.

    و لو كان كل واحد قادرا على الظلم، لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها، من الزنا و القتل و السكر إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة و السلطان فبولغ في ذمه و تكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. و ما ربك بظلام للعبيد.

    و لا تقولن إن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع، و هي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر، فإن في الجواب عن ذلك طريقين:

    أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير، و ذلك إنما يكون بعد القدرة عليه و المطالبة بجنايته، و أما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة.

    الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة، لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة، فهي المؤذنة بالخراب و أما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال، و المدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعا و سياسة، فليست من القدر المؤذن بالخراب و الله قادر على ما يشاء.

يعمل...
X